عام العنز
قالت العنز للفيل يومًا: لم يكون لك عام في التاريخ لا يزال يذكر على مدى الأيام، فيقال «عام الفيل»، ولا يكون لي عام يسمى «عام العنز»؟
قال الفيل: إني أضخم منك جسمًا، وأعظم منك قوة، وأحد منك نابًا، وإني أستصغرك أن تكوني لي فريسة، وأستضعفك أن أساجلك الحديث.
قالت العنز: إن الضعيف قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ القوي بقوته.
وصممت العنز على ما قالت، فكان لها ما أرادت، وأصبح لها في مصر عام، هو «عام العنز»، وكان ذلك سنة ١١٧٣هـ. أي من نحو مئتي عام.
ذلك أنه كان في مسجد السيدة نفيسة شيخ للخدم اسمه الشيخ عبد اللطيف، وكان شيخًا ماهرًا ماكرًا. ضاقت به أسباب الرزق، ففكر في حيلة، وقلبها على وجهها حتى استوت ونضجت، واتخذ بطل الرواية عنزًا.
قال: إن جماعة من المسلمين وقعوا في أسر النصارى، فاجتمع الأسرى وتوسلوا بالسيدة نفيسة، وأقاموا «حفلة ذكر» أعدوا لها عنزًا لتذبح وتؤكل، فاطلع على أمرهم النصراني المكلف بحراستهم، فمنعهم من حفلة الذكر، ومن ذبح العنز، فكان من بركة السيدة نفيسة ومن بركة العنز أن رأى النصراني رؤيا أزعجته ففك أسرهم، وأطلق سراحهم، وأقسموا أن يحتفظوا بالعنز، وأن يحضروها إلى السيدة نفيسة، ففعلوا وسلّموها للشيخ عبد اللطيف.
وأكمل الشيخ روايته فقال: إن العنز تارة تقف بجانب ضريح السيدة، وتارة فوق المنارة، وقد سمعها الشيخ بأذنه تكلم السيدة نفيسة والسيدة توصي بها.
وأشاع الشيخ هذا الخبر في سائر الخدم، وأوصاهم بإذاعته، فانتشر في حي السيدة ومنه إلى أحياء القاهرة، ومنها إلى الريف، وصارت العنز حديث الكبار والصغار، والعامة والخاصة، وكل من مرض استشفع بالعنز، وكل من له حاجة نذر للعنز.
وأكمل الشيخ حيلته، فمرّن العنز على ألا تأكل برسيمًا ولا فولًا كسائر الغنم، وإنما تأكل فستقًا مقشورًا ولوزًا مقشورًا، ولا تشرب إلا ماء ورد مذابًا فيه سكر مكرر، والشيخ يجلس وفي حجره هذه العنز السعيدة المحظوظة، تأكل الفستق واللوز، وتشرب ماء الورد. والناس يتلهفون على لمسها وتقبيلها.
وتقاطرت على الشيخ قناطير الفستق واللوز والسكر المكرر وقناني ماء الورد، حتى شحت هذه الأصناف في الأسواق.
ثم زادت كرامات العنز وعظمت، فكم شفت من مريض، وكم فرجت من كرب مكروب، وكم قضت من حوائج، حتى غطت كراماتها على كرامات السيدة.
واستقل الناس الفستق واللوز والسكر المكرر وماء الورد، فجد الصاغة في عمل قلائد الذهب وأطواق الذهب للعنز، حتى أصبحت «عنز هانم»، وكادت تكون «صاحبة العصمة».
وتسابق الكبراء في الهدايا والنذور للعنز وتنافسوا، فإذا وهب الأمير فلان قنطارًا من الفستق وقلادة من الذهب، عزّ على الأمير فلان إلا أن يهب قنطارين وقلادتين، وصار للعنز من الحلي ما ليس للأميرة الجليلة.
وكان يوم الأحد من كل أسبوع، وهو يوم حضرة السيدة نفيسة يومًا مشهودًا، يتدفق فيه الزائرون والزائرات، وتزدحم الشوارع، وتتدافع المناكب، ومرحى للسعيد الذي يرى العنز أو يلمسها، وأسعد منه من يقبلها.
وليس حديث المجالس إلا ما يقصون من كرامات العنز، وما شاهدوه من عجائب، وما رأوه من منامات، وما شفت من أمراض، وما أغنت من فقير، وما أولدت من عقيم.
وافتُتن الناس، وخشي بعض الحكام أن يذهب سلطانهم إلى العنز، فقد أصبحت هي التي تأمر وتنهي وتحكم، ولم تبق إلا خطوة قليلة حتى تضخم العنز فتكون «عجل أبيس».
•••
وكان في مصر أمير من كبار الأمراء اسمه «عبد الرحمن كتخدا» ثرىّ سري، قوي جبار، يرتشي ويحب الخير، يصادر الناس ويصرف منه في أعمال البر، جاد لا يميل إلى الهزل، يغلق الخمارات ويبطل المنكرات، مغرم بالتعمير، له ذوق جميل في هندسة البناء وفن العمارة، أنشأ وجدد ثمانية عشر مسجدًا، وعددًا كبيرًا من الأسبلة والزوايا والمدارس والمكاتب والقناطر والجسور، وأنشأ جانبًا فخمًا في الأزهر، وبنى لنفسه فيه ضريحًا دفن به، وهو الذي يسميه بعض العامة «سيدي الأزهر». تراه فترى رجلًا مهيبًا، مربوع القامة، أبيض اللون، مسترسل اللحية، تغلب عليه علائم القوة والعزة والاعتداد بالنفس.
•••
سمع المير عبد الرحمن بحكاية العنز فهزئ بها وسخر من عقول الناس، وضحك من سخافتهم، وعدّها من المنكرات التي يبطلها كالخمارات.
فأرسل إلى الشيخ عبد اللطيف يرجوه الحضور إليه بعنزه ليتبرك بها هو وأهل بيته، فطار الشيخ فرحًا، وقال ليس بعد إيمان الأمير كفر، ولا بعد عطائه عطاء، وقد ضمنت بذلك الدنيا والجاه والثراء.
وحدد موعدًا لانتقال العنز، وأُعدت العدد، وأُحضرت الطبول والبيارق، وزُينت الطرف، واصطف آلاف الناس على جانبي الطريق، وتحرك موكب العنز من مسجد السيدة نفيسة إلى عابدين، حيث يسكن الأمير عبد الرحمن كتخدا، وركب الشيخ بغلته والعنز في حجره، والطبول تدق، والرايات تخفق، والناس تتصايح، والدنيا قائمة قاعدة، والعنز ضاحكة مستبشرة، تقول في سرها: أين يوم العنز من يوم الفيل! وبعد التي واللتيا، والذي واللذيا، وصل الموكب الشريف إلى بيت الأمير الكبير، ونزل الشيخ عن بغلته، وحمل عنزه، ودخل بها على الأمير وحوله الأمراء، فتقبلها الأمير والأمراء قبولًا حسنًا، وتمسحوا بها يستنزلون البركة منها، ثم أرسلها الأمير إلى الحريم وجلس مع الشيخ يتحدث في البركات والكرامات حتى حضر وقت الغداء، فحضر الطعام، وأكل الأمراء وأكل الشيخ، ومن حين إلى حين يقدم الأمير للشيخ قطعة من اللحم ويسأله عن رأيه، فيقول إنه لحم طيب لذيذ، ثم شربوا القهوة، واستأذن الشيخ في الانصراف، وطلب أن يحضروا له عنزه.
قال الأمير: العنز! لقد أكلتها يا شيخ، واستطعمت لحمها، وفرغنا منها ومن بركاتها وكراماتها.
أيها الشيخ، ما أضلك وأفجرك، وأقدرك على اللعب بعقول الناس، والله لأجعلنك نكالًا لمن بعدك، انتظر قليلًا.
ورعب الشيخ، وشعر بضياع مجده، وذهاب كنزه، ذلك إن سلمت له نفسه.
وقضى وقتًا وهو يرتجف، ثم نزل من القصر جلد العنز المذبوحة، وأقسم الأمير ليعممن به الشيخ فوق عمته، ويعود على هذه الحال في الموكب الذي حضر به.
وكنت ترى في العصر الطبول تدق والرايات تخفق، والموكب يسير من عابدين إلى السيدة نفيسة، والشيخ على بغلته معممًا بجلد عنز. وكل شيء كما كان في حفلة الصباح إلا العنز. والناس تقابل هذا الموكب بالرضا والتسليم، كما استقبلته صباحًا بالهتاف والتهليل.