في الهواء الطلق (٥)
خرجت هذه المرة وصديقي إلى «صحراء مصر الجديدة» ننعم بالبدر في تمامه.
وبدأ الحديث في أوربا ومتاعبها، والسياسة ومشاكلها، حتى وصلنا إلى مبادئ «ولسن» و«ميثاق الأطلنطي» و«هيئة الأمم المتحدة».
هو
:
أتصدق كل ذلك؟ إن آدم وحواء قبل التاريخ هما آدم وحواء القرن العشرين والثلاثين
والأربعين، لم تتغير طبيعتهما، وإنما تغير فيهما مظاهرهما. لقد وجدت الرغبة الصادقة
عند بعض الناس في كل عصر لنشر السلام ومنع الحروب، ولكن غريزة آدم حالت دون ذلك،
وستظل هذه الغريزة دائمًا مدعاة للحرب مطاردة للسلم، لقد قرأت مرة قصة لطيفة، أن
رئيس وزارة في الصين — كان يعيش قبل المسيح بنحو ستة قرون — جمع رؤساء الدول
الصينية الثلاث عشرة كلها في مؤتمر، واقترح عليهم سلمًا دائمة، فلا يثيروا حربًا،
ولا يعكروا صفاء، وأن يعقدوا حلفًا على ذلك، فأجابوا دعوته، وتحالفوا على السلام
بأوثق الأيمان، وهنّأ رؤساء الدول رئيس الوزراء الداعي إلى السلام على نجاحه، وحسن
إخلاصه، وحبه للخير، وتوالت عليه التهاني من كل ناحية، ولكن صديقًا من أخلص أصدقائه
لم يشارك الناس في الثناء عليه ورماه بالغفلة والبلاهة، وقال إن مشروعه ليس إلا
مجرد أوهام، وإنه لا يستحق أي تكريم، وليحمد الله على أن الناس لم يعاقبوه ولم
يرجموه، لأنه غطّى وجه الحقيقة، وكان يجب أن يكون عاريًا حتى لا يضلل الناس، فعجب
رئيس الوزارة من كلام صديقه ومخالفته الإجماع، ولكن لم يمض على هذا الحلف عشرة
أعوام حتى نُقض، ونشبت الحرب بين الدول الصينية التي تعاقدت على السلم.
ومثّلت هذه الرواية نفسها في عصور متعاقبة، فقد أعلن القديس «أغسطين» أن إمبراطور الرومان جاء من عند الله ليمحو الحرب من العالم ويؤلف بين الناس. ثم لم تلبث أن كانت الحرب، وأخيرًا جاء «ولسن» فدعا مثل هذه الدعوة ومثَّل مثل هذه الرواية، ثم كانت الحرب أيضًا، وها هي هيئة الأمم المتحدة تمثل الآن هذه الرواية والممثلون أنفسهم تشهد قلوبهم بما لا تنطق به ألسنتهم. وأذكر أني قرأت رسالة بديعة لبديع الزمان الهمذاني، ردًّا على من كتب له «فسد الزمان» فكان مما جاء فيها: «والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحًا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها؟ أم في الدولة الأموية، والرمح يطعن في الكلى، والحرتان وكربلا» وما زال يتتبع فساد الزمان حتى وصل في فساده إلى آدم، ثم قال: «أم قبل ذلك والملائكة تقول (في خلق آدم): أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وختمها بهذه الكلمة الجامعة: «والله ما فسد الناس ولكن اطرد القياس». إن آدمنا وحواءنا هما آدم وحواء العصر الأول، وهما في كل عصر المادة الخامة لما يحدث في الأرض من أحداث اجتماعية، وهما تسيرهما بعض الغرائز البدائية الآن كما كانت من قبل؛ فالإنسان مسير بالحب وبالكره، وبالانتقام وحب السلطة وحب الجاه، وحب الغلبة شأنه في ذلك قديمًا شأنه حديثًا، وهذه الأمور أحيانًا تخضع للعقل، وأحيانًا يخضع لها العقل، والخلاف بين العصور ليس إلا خلافًا في الطلاء من عهد آدم إلى اليوم، والأنبياء والمصلحون من عهد آدم الأول يقولون لا تقتل ولا تسرق، ولكن آدم القرن العشرين ظل يقتل ويسرق، وسيقتل ويسرق، والعالم محكوم بقليل من العقل وكثير من السخافة، وشأن المحكومين في ذلك شأن الحاكمين يتبوأ الحكم في الناس أكثرهم طموحًا وشيطنة ولعبًا بعقول الجماهير، لا خيرهم ولا أعدلهم ولا أكثرهم استقامة، والجمهور يصفق لهم؛ لأنهم أقدر على الضحك على عقله وأكثرهم تملقًا له، حتى الرجل المستقيم قبل الحكم يلتوي إلى حد ما بعد الحكم، فهل تظن أن آدم سيتحول بين عشية وضحاها إلى ملك؟
ومثّلت هذه الرواية نفسها في عصور متعاقبة، فقد أعلن القديس «أغسطين» أن إمبراطور الرومان جاء من عند الله ليمحو الحرب من العالم ويؤلف بين الناس. ثم لم تلبث أن كانت الحرب، وأخيرًا جاء «ولسن» فدعا مثل هذه الدعوة ومثَّل مثل هذه الرواية، ثم كانت الحرب أيضًا، وها هي هيئة الأمم المتحدة تمثل الآن هذه الرواية والممثلون أنفسهم تشهد قلوبهم بما لا تنطق به ألسنتهم. وأذكر أني قرأت رسالة بديعة لبديع الزمان الهمذاني، ردًّا على من كتب له «فسد الزمان» فكان مما جاء فيها: «والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحًا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها؟ أم في الدولة الأموية، والرمح يطعن في الكلى، والحرتان وكربلا» وما زال يتتبع فساد الزمان حتى وصل في فساده إلى آدم، ثم قال: «أم قبل ذلك والملائكة تقول (في خلق آدم): أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وختمها بهذه الكلمة الجامعة: «والله ما فسد الناس ولكن اطرد القياس». إن آدمنا وحواءنا هما آدم وحواء العصر الأول، وهما في كل عصر المادة الخامة لما يحدث في الأرض من أحداث اجتماعية، وهما تسيرهما بعض الغرائز البدائية الآن كما كانت من قبل؛ فالإنسان مسير بالحب وبالكره، وبالانتقام وحب السلطة وحب الجاه، وحب الغلبة شأنه في ذلك قديمًا شأنه حديثًا، وهذه الأمور أحيانًا تخضع للعقل، وأحيانًا يخضع لها العقل، والخلاف بين العصور ليس إلا خلافًا في الطلاء من عهد آدم إلى اليوم، والأنبياء والمصلحون من عهد آدم الأول يقولون لا تقتل ولا تسرق، ولكن آدم القرن العشرين ظل يقتل ويسرق، وسيقتل ويسرق، والعالم محكوم بقليل من العقل وكثير من السخافة، وشأن المحكومين في ذلك شأن الحاكمين يتبوأ الحكم في الناس أكثرهم طموحًا وشيطنة ولعبًا بعقول الجماهير، لا خيرهم ولا أعدلهم ولا أكثرهم استقامة، والجمهور يصفق لهم؛ لأنهم أقدر على الضحك على عقله وأكثرهم تملقًا له، حتى الرجل المستقيم قبل الحكم يلتوي إلى حد ما بعد الحكم، فهل تظن أن آدم سيتحول بين عشية وضحاها إلى ملك؟
أنا
:
يظهر يا صديقي أنك اليوم سوداوي المزاج، ترى كل شيء أسود حتى التاريخ. والحق أنه
كم من فرق بين آدم الأول وآدم القرن العشرين، لا في المظهر فقط بل في الجوهر أيضًا.
إن الإنسان في تطوره تعلم كبت غرائزه، وما المدنية إلا كبت الغرائز. انظر إلى ما
فعلته في أمة متمدنة التربية الدينية، والتربية المدنية في الغرائز، كيف استطاعت أن
تعلم الجمهور الطاعة والخضوع للقانون والنظام في شئون الحياة، وهذا كله كبت
للغرائز، فليس يقتل الرجل عدوه لمجرد الغضب منه ولا للباعث الوقتي عنده، ولا يسلب
ماله لمجرد شهوته. وقد سُلبت من الأفراد قوة تنفيذهم استجابة للبواعث الوقتية
عندهم، واستخدام قوتهم لتنفيذ رأيهم، وجعل ذلك كله للمحاكم، والقضاة يحكمون
بالقانون والعدالة، أليس ذلك كله تهذيبًا للغرائز؟ فإن حدث قتل أو سرقة أو غضب
فالشذوذ لا القاعدة، وقد كانت القاعدة عند الإنسان الأول أخذ ما يشتهيه بالقوة، فإن
اعترضه عارض فالقتل، وأصبحت القاعدة اليوم تحكيم القانون والعقل؛ أو ليس هذا
انقلابًا؟
هذا من ناحية جمهور الشعب، وكذلك الشأن من ناحية الحاكم؛ فقد كان شيخ القبيلة أو السلطان أو الملك لا حد لسلطانه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء ويسلب ملك من يشاء، ويقتل من يشاء ويحيي من يشاء؛ فلما تقدم الإنسان حُدّ من سلطانه، وبعبارة أخرى كُبتت غرائزه، وتقيد بقيود ما للشعب من حقوق؛ فليس يقتل وليس ينهب وليس يستطيع أن يعطي من مال الأمة ولا أن يصادر، وليس له أن يعتدي على حقوق أي إنسان من شعبه في حياته ولا حريته ولا ملكه، فإن حدث شيء من هذا فاستثناء لا قاعدة، وقد كان ظلم السلاطين قاعدة لا استثناء، أليس هذا انقلابًا خطيرًا حتى في الغرائز؟
وهذا العالم الحديث يريد أن ينظم العلاقات بين الأمم كما نظّم العلاقات بين الأفراد، ويُنشئ محكمة للأمم كمحكمة الأفراد، حاول ذلك في عصبة الأمم ثم فشل، فهو يحاولها في هيئة الأمم وهو في كل فشل يستفيد من التجارب.
لقد بدأت حكومات الدول تشعر بأنه لا بد (لسلام العالم) من اتفاق وتفاهم بينها. وأنه لا بد من قوة مسلحة تخيف من لم يرد التفاهم، وأن هذه القوة المسلحة يجب أن تكون فوق القوة المسلحة لكل أمة، وأن تكون القوة المسلحة الكبرى خاضعة للهيئة الدولية العامة، شأنها في ذلك شأن المحكمة مع الأفراد، وقوة المحكمة بالنسبة لقوة الأفراد.
لست أزعم أن هذا كله سيحصل في عام أو عامين أو عشرة، ولكنه لا بد حادث قريبًا، فكل الدلائل تدل على أن العالم سائر في الدرب الموصل إليه، وإن لاقى في ذلك أهوال حرب أو حربين أخريين.
وكنا قد رجعنا إلى قواعدنا سالمين، ووقفنا على باب داره.
هذا من ناحية جمهور الشعب، وكذلك الشأن من ناحية الحاكم؛ فقد كان شيخ القبيلة أو السلطان أو الملك لا حد لسلطانه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء ويسلب ملك من يشاء، ويقتل من يشاء ويحيي من يشاء؛ فلما تقدم الإنسان حُدّ من سلطانه، وبعبارة أخرى كُبتت غرائزه، وتقيد بقيود ما للشعب من حقوق؛ فليس يقتل وليس ينهب وليس يستطيع أن يعطي من مال الأمة ولا أن يصادر، وليس له أن يعتدي على حقوق أي إنسان من شعبه في حياته ولا حريته ولا ملكه، فإن حدث شيء من هذا فاستثناء لا قاعدة، وقد كان ظلم السلاطين قاعدة لا استثناء، أليس هذا انقلابًا خطيرًا حتى في الغرائز؟
وهذا العالم الحديث يريد أن ينظم العلاقات بين الأمم كما نظّم العلاقات بين الأفراد، ويُنشئ محكمة للأمم كمحكمة الأفراد، حاول ذلك في عصبة الأمم ثم فشل، فهو يحاولها في هيئة الأمم وهو في كل فشل يستفيد من التجارب.
لقد بدأت حكومات الدول تشعر بأنه لا بد (لسلام العالم) من اتفاق وتفاهم بينها. وأنه لا بد من قوة مسلحة تخيف من لم يرد التفاهم، وأن هذه القوة المسلحة يجب أن تكون فوق القوة المسلحة لكل أمة، وأن تكون القوة المسلحة الكبرى خاضعة للهيئة الدولية العامة، شأنها في ذلك شأن المحكمة مع الأفراد، وقوة المحكمة بالنسبة لقوة الأفراد.
لست أزعم أن هذا كله سيحصل في عام أو عامين أو عشرة، ولكنه لا بد حادث قريبًا، فكل الدلائل تدل على أن العالم سائر في الدرب الموصل إليه، وإن لاقى في ذلك أهوال حرب أو حربين أخريين.
وكنا قد رجعنا إلى قواعدنا سالمين، ووقفنا على باب داره.
هو
:
إن كلامك يحتاج إلى تفكير عميق، وأظن أن سيكون له مني رد طويل عند ما نلتقي
قريبًا.
أنا
:
كل ما أرجو ألا تقابلني في المرة الأخرى بمنظار أسود.
هو
:
إذا طلبت مني خلع المنظار الأسود فلم لا أطلب منك خلع المنظار الأبيض؟ وكانت
ضحكة، وكان افتراق.