العيد المئوي
يُروى أنه كان في أقاصي بلاد الهند إقليم اعتاد أهله إقامة عيد كبير على رأس كل مئة سنة، فيخرج الناس من شيوخ وشبان ورجال ونساء إلى صحراء خارج البلد، فيها منصة كبيرة عالية، ثم ينادي منادي الملك: لا يصعد على هذه المنصة إلا من حضر العيد السابق، فربما صعد الشيخ الهرم قد ذهبت قوته وعمي بصره، أو العجوز الشوهاء وهي ترتعش من الكبر، وربما لا يصعد أحد ويكون الجيل كله قد فني؛ فمن صعد هذه المنصة قال كلمة تناسب المقام حسب استطاعته، ثم تبعهم خطيب يستخرج العظة من هذا الموقف.
ففي عيد من هذه الأعياد لم يبق من الجيل إلى رجل وامرأة هما اللذان صعدا على المنصة، أما سائر الجيل فقد أكلهم الدهر.
وقف الرجل وقد حنى قوسه الكبر، وتقاصرت خطاه، وتخاذلت قواه، ودق عظمه، ورق جلده، وضعف جسمه، وتهدج صوته، ولم تبق منه إلا بقية يرصدها الزمان، قد وقف على ساحل الحياة يرتقب العبور إلى الأخرى وقال: أدركت العيد الماضي وأنا طفل، قريب العهد بالمهد، لا أرى الدنيا إلا زينة، ولا أدرك الأشياء إلا لعبة، لا أفرق بين الدنيا في الأحلام، والدنيا في العيان، ولم أتبين من العيد إلا ناسًا تجتمع وتتفرق، وتتحدث بما لم أفهم، وكل ما علق بذهني جمال ملابسهم ولا سيما الأحمر القاني أو الأصفر الفاقع، أما لم اجتمعوا وبم تحدثوا فلم أدركه في قليل ولا كثير.
ثم مرت عليَّ الدنيا كما تمر فصول الرواية، من فرح وغم، وسرور وحزن، ليال طلعت سعودها، ورقد الدهر عنها، وقصّر طولها لذتها، أعقبتها ليال هي غصة الصدر، ونقمة الدهر، أطالتها الهموم والغموم، سوداء لم يتخللها نور، وتعاورني الغنى والفقر، والنعيم والبؤس، حينًا يسعفني الدهر، ويحالفني السعد، ويكون ما أتمنى، وأدرك فوق ما آمل، وحينًا يغشاني البؤس والضر، والعيش المر، فأرى النهار أسود، والعيش أنكد، وقد ذهب هذا كله حلوه ومره، ولم يبق إلا ذكره.
صحبت السلاطين والحكام، وهم أشكال وألوان، من عادل بسط على الرعية عدله فاطمأنت، ونشر الحق فأمنت، جمع بين الحلم والحزم، يمنع الضلال ولا ينام على فساد، المفسد خائف من بطشه، والصالح آمن في كنفه، قد أعلى الله كلمته وأسبغ عليه نعمته، الأمة به سعيدة وهو بها سعيد، فلا فتنة ولا فرقة، ولا مكايدة ولا مؤامرة.
قلّده وزراؤه وأرباب دولته فساروا سيرته واقتفوا أثره، فإذا العدل في كل مكان، والناس في أمن وأمان.
وظالم تراكمت مظالمه، فالحقوق في أيامه مغصوبة، والرعايا مأكولة مشروبة، والحق ضائع والقوي فاجر، والضعيف متخاذل، والدماء مسفوكة، والأعراض منهوكة، والفتن محتدمة، والنار مضطرمة، والبلاد فوضى يطمع فيها اليوم كان يهابها بالأمس.
وهؤلاء وهؤلاء ذهبوا وبقيت سيرتهم، وأفناهم الدهر وظلت آثارهم.
وعاشرت الأمة طويلًا فوجدت كل شيء فيها يزهر بعدل حكامها، حتى الزرع والضرع، وكل شيء يخرب بالظلم حتى ما لا تصل إليه يد، وآلم ما آلمني أن كان قومي يهللون للعادل، ويستكينون للظالم، ولو أنصفوا ما سكتوا على ضيم ولا خضعوا لذل، ولأخافوا الظالم بقوتهم وبطشهم، فإذا العادل يعدل بطبعه، والظالم يعدل من خوفه.
وقد مر عليَّ في هذه السنين ضروب من عادات الأمة وأوضاعها وتقاليدها، ورأيت كل شيء يتغير، ولكل زمان حكمه، ولكل شباب جدته وحماسته، ولا خير في إخضاع الشباب لعادات الشيوخ ولا فائدة من مقاومة التيار، فإن استطعتم فلا تقفوا في سبيله، ولكن استخدموه فيما ينفع.
أي قومي! لقد جربت اللذات كلها فرأيت أشدها وأحدها آلمها ذكرًا، وإنما خيرها العمل المثمر والجهد النافع، وأدومها على تقدم السن وطول العمر محادثة الخلان والنظر إلى الجميل من كل شيء.
ولم تحتمل صحته الاستمرار في الكلام فسعل وسكت.
•••
وقامت المرأة وكان كل شيء فيها هرمًا إلا لسانها، فقد كان صبيًّا، وبدأت تثير الشكوك حول سنها، فقد اعترفت أنها حضرت العيد السابق، ولكنها لم تتجاوز الستين إلا قليلًا، فكيف يكون بين العيدين مئة عام؟ لا بد أن يكون الحاسبون أخطأوا في الحساب، أو أن عدد أيام السنة في نظرهم نصف عددها عند الناس أو … أو … وأفاضت في هذا القول ما شاء لها لسانها، ثم انتقلت إلى ما كان من جمالها أيام شبابها فقالت: «رحم الله شبابي، لقد كنت روضة الحسن وربيع الزمان، قوامي غصن البان، وخدي التفاح وصدري الرمان، منبع السحر من طرفي. وملقط الورد من خدي، ومنبت الدر في فمي، كم لعبت بالألباب، وكم كان لي من صرعى الشباب! كنت في غبطة شاملة، ومسرة كاملة، والشباب حولي باله كاسف، وقلبه واجف، ولي في الغرام فصول طوال، لو حدثتكم عنها بتفصيلها لحل العيد الثالث ولم أبلغ غايتها، وكنت مصدر البدع، كل عام أخرج على الشواب بملابسي وزينة شعري وجمال حليتي، فتكون الحكم الفصل في الزينة والجمال، تُقلد كل عام، وكانت مائدتي … وكان بيتنا … وكان أبي … وكانت أمي …»
وما زالت تبدي وتعيد في هذه الموضوعات حتى أشار إليها الرئيس فسكتت.
•••
وقام خطيب اليوم فقال: إن الحياة مجموعة من الأعداد محدودة، تنقص كل يوم عددًا ولا بد من النهاية، وخير الأيام أملؤها بالخير، وما من شيء يمر أمام أعيننا إلا وفيه موعظة، وكفى بكبر السن عبرة. الخلود في الدنيا لا يُؤمل، والفناء متيقَن، والهرم يعيش بالذكرى، ولا أسعد من ذكرى العمل الصالح. لقد ذهب الدهر بكل من ولدته الأمهات من ذكور وإناث منذ مئة عام ولم يبق إلا هذان، وطُوي فيما طُوي السرور والحزن، والنعيم والبؤس، والظالم والعادل، والحاكم والمحكوم، ولم يبق من أعمالهم إلا آثارها، فطوبى لمن أحسن، وويل لمن أساء، لو فكر كل الناس في هذا المآل ما كان طاغية ولا فاسد ولا داعر ولا معتد أثيم، ولا فخور بالمال والبنين، ولعاش الناس أسعد بالًا، وأرغد حالًا.
إن سلامة الخلق مع ضعف الدنيا خير من سلامة الدنيا مع ضعف الخلق، وإن الأيام أربعة: يوم مفقود وهو ما فاتك وقد فرطت فيه، ويوم معدود وهو ما مضى وقد مُلئ بعمل الخير، ويوم مشهود وهو يومك الحاضر، فاجتهد أن تتزود فيه، ويوم مورود وهو غدك الذي لا تدري هل هو من أيامك أم لا.
قد أفلح من ذكر هذا اليوم وخاب من نسيه.
انصرفوا رحمكم الله.
فسالت لهذه الكلمات العبرات، وتدفقت الصدقات، وارعوى الضالون، وكثر المتعظون.