الفصل الثالث
يوليو ٢٠١٨م
كانا الآن جالسين على أرضية العربة متقابلين، مجاورين للباب ومستندين بكتفيهما إليه، كانا منفصلين تمامًا عن العالم الصاخب حولهما، لا يسمعان ضجيج العجلات ولا يشمان رائحة دخان التبغ، ولم يكن يلحظهما أحد كذلك. ظل الكثيرون من المدخنين يجيئون، يختطفون دقائق عابرةً مع سجائرهم في صمت، ينفثون دخانها في الهواء ويحملقون بلا اكتراث في التكوينات التي يصنعها الدخان في الهواء ثم يغادرون عائدين إلى الداخل دون أن ينتبه أي منهم إلى الشخصين — أو إلى النسختين من نفس الشخص — الجالسين على الأرض بجانب باب العربة يحدقان في بعضهما البعض أكثر مما يتبادلان الكلمات. لم يلحظ أيٌّ من أولئك العابرين الشبه بينهما؛ ربما لاختلاف هيئتهما، أو ربما لأنه ببساطة لم يكن أي من المدخنين العابرين ليشغل نفسه بمقارنة وجوه مسافرين لا يعرفهم في مساحة تدخين ضيقة بين عربات قطار سريع.
كان حديثهما قد تحوَّل إلى ما يشبه الدردشة بين صديقين قديمين التقيا بالمصادفة، كان كل منهما يبحث عند الآخر عن إجابات لأسئلة تخصه هو. قال الأول وهو لم يزل محدقًا في وجه الثاني في محاولة دءُوبة لاستكشاف شيء ما: ألا زلت تسمع المديح؟
ابتسم الثاني وقد لمعت عيناه من أثر دفقة الذكريات المفاجئة تلك وأجاب بنبرة فيها بعض الحماس: ليس كما كنت في الماضي، لكن نعم طبعًا ما زلت. الحمد لله على نعمة الإنترنت على أي حال؛ أجد فيه كنوزًا بالمصادفة من آن لآخر. هل تذكر أيام زمان؟ كان أحدنا يدور بالشهور هنا وهناك بحثًا عن شريط عليه تسجيل ليلة أو حفل!
أجاب الأول مبتسمًا وقد سرح ببصره إلى السماء التي يراها من النافذة الزجاجية في أعلى الباب المقابل: هل تذكر شريط الشيخ التوني الذي سافرتُ أنا وشاذلي خصيصًا لنحضره من قريبه ذاك في المدينة الجامعية بالمنصورة؟ يا إلهي! أين يا ترى هذا الشريط الآن؟
ابتسم الآخر بدوره وأجاب: أغلب الظن أنه قد ضاع أو انتهى به الأمر في سلة المهملات مثل غالبية مقتنياتي التي كانت في بيتنا القديم في بولكلي. لم يبقَ عندي من تلك الأشياء غير حَفنة من صور لأبي وأمي، رحمهما الله.
رد الأول رافعًا كفيه في الهواء كعلامة على الاستسلام: ثم إنك حتى لو وجدت الشريط، فهل يملك أي شخص جهاز كاسيت في هذه الأيام؟
أكمل الثاني في بعض الحماس: لقد وجدت تسجيل تلك الليلة للشيخ التوني على ساوند كلاود بالمناسبة. أنا على يقين من أن من رفع هذا التسجيل على الإنترنت كان قد حصل عليه من نفس الشريط الذي كنت قد أحضرته من قريب شاذلي هذا؛ نفس الأجزاء التي يشوبها التشويش، نفس المقاطع التي ينخفض فيها صوت التسجيل، نفس التوقيتات التي يصفق فيها الجمهور، وحتى نفس الأشخاص الذين يتحدثون ويهللون في الخلفية. لقد كنت أحفظ تفاصيل ذلك الشريط كما أعرف اسمي.
أجاب الأول في نبرة حزينة: أما أنا فلم يتبقَّ لدي لا الوقت ولا الطاقة لكي أسمع أو لكي أبحث عن شيء بالمرة.
ثم أردف وقد تغيرت نبرته فجأةً إلى المرح: هل تذكر عندما نسختُ من ذلك التسجيل شريطًا آخر لأشغله في السيارة لكيلا أخرجه من جهاز كاسيت البيت؟
أجاب الآخر بسرعة وبنفس المرح: أذكر بالطبع! لم يخرج ذلك الشريط من جهاز الكاسيت بالفعل حتى أحضرت الشريط الذي سجلته بنفسي من حفل الشيخ ياسين التهامي في مولد السيدة زينب.
صمت قليلًا ثم بدأ ينشد وهو يتطلع إلى الفراغ:
ليكمل الآخر بنفس النظرة الساهمة:
ساد صمت جميل لدقيقة أو نحو ذلك، صمت حالم، وكأن لم يرد أي منهما أن يقطع شريط الذكريات الدائر في عقله، أو في عقلهما معًا. ثم قال الثاني وقد اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه: الانتخابات الرئاسية! لا أقصد الأخيرة بالطبع، ولكن تلك السابقة التي كان فيها عشرة مرشحين.
أجاب الأول في فضول: ماذا عنها؟ آه، صحيح. أتقصد لمن أعطيت صوتي؟
أردف الثاني: ما زلت أذكر تلك المناظرة الانتخابية التي أذاعها التليفزيون. لقد كان حلمًا جميلًا أفقنا منه على كابوس.
أجاب الأول مجددًا وقد أثار الموضوع فضوله: دعني أخمن. لا يمكن أن تكون قد انتخبت أيًّا من المرشحين الإخوانيين أو أيًّا من أولئك اليساريين؛ ليس ذلك ياسين عمران بالتأكيد. أحمد شفيق؟ ربما، وإن كنت لا أرجح هذا الاحتمال.
قال الثاني في هدوء وثقة: لقد كان الاختيار واضحًا في عقلي منذ البداية.
أجاب الأول بنفس اللهجة الواثقة: وكذلك أنا، حتى إنني لم أذهب للتصويت في جولة الإعادة.
حدق الاثنان في عيني بعضهما البعض لفترة ثم ابتسما وقد فهم كل منهما ما في عقل الآخر وقالا في نفس اللحظة: عمرو موسى!
ضحكا في صوت واحد ضحكًا طويلًا، ثم عادا إلى الصمت مرةً أخرى، كانت تلك اللعبة قد استغرقتهما تمامًا حتى أخذ كل منهما يبحث في ذاكرته عن موضوع جديد يمكن أن يكمل به اللعبة المشوقة. سأل الثاني بعد برهة: لا تقل لي إنك لا تزال تلعب الكرة!
اتسعت ابتسامة الأول كذلك وأجاب في حماس: هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أزال أفعله، وإن لم تعد لياقتي تسمح باللعب لفترات طويلة. يوجد بالقرب من بيتي ملعب كرة قدم خماسية، أذهب أنا ومجموعة من الأصدقاء للعب فيه مساء كل ثلاثاء، ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
رد الثاني في عدم اكتراث: أما أنا فنسيت حكاية الكرة هذه تمامًا؛ لأن دائرة معارفي الآن تهتم برياضات مختلفة ليست كرة القدم من بينها للأسف؛ أحافظ على لياقتي وأواظب على التمرين بالأثقال والجري وبعض التجديف عندما يسمح الطقس، لكن ليس كرة القدم.
ارتسمت على وجه الأول فجأةً ملامح الجدية وسأل نسخته الأخرى: لم تقل لي أين تسكن؟
انتبه الثاني فجأةً كذلك وأخرجه هذا السؤال من خيالاته وذكرياته فارتسمت على وجهه نفس الجدية وأجاب: لقد هاجرت منذ زمن! تنقلت لسنوات طويلة بين أكثر من بلد؛ عملت في السعودية ثم انتقلت إلى الإمارات، ولكنني أعيش الآن في ضاحية من ضواحي تورونتو بكندا حيث استقر بي المقام أخيرًا منذ سبع سنوات! لكن ألا زلت تعيش في الإسكندرية؟
سرح الأول ببصره خارج النافذة مرةً أخرى ثم قال في نبرة تحمل تلالًا من الإحباط: كندا! يا رجل! أتعرف أين ذهبت أنا يوم أن قررت الهجرة من الإسكندرية؟ ذهبت إلى القاهرة!
التفت إليه الثاني باستغراب شديد قائلًا: لكنك لطالما حلمت بالعيش في كندا، أتذكر؟ بلاد الحرية والديمقراطية وتكافؤِ الفرص، لقد كان ذلك هو هدف حياتك منذ كنت في المدرسة الثانوية، ألا تذكر أيام كنت تراسل تلك الفتاة الكندية؟ ماذا كان اسمها؟ لا أذكر اسمها الآن لكنني أذكر أنها كانت تعيش في كيبيك، فقد كانت ترسل صورًا كثيرةً لمدينتها، وكانت تكتب بعض التعليقات أحيانًا بفرنسية معقدة لم أكن أفهمها، كان ذلك أيام المراسلة بالخطابات البريدية! لكن لماذا لم تهاجر إذن؟ ما الذي حدث؟
كان الأول قد غاص أكثر وأكثر في سرحانه، فأجاب بعد برهة صمت وقد خرج صوته وكأنما كان صادرًا من أعماق سحيقة: أتسألني ما الذي حدث؟ يبدو لي أنك أنت الذي حقق أحلامي! أنت من هاجر إلى كندا، أنت الذي يبدو كشاب في الثلاثين بينما يعتقد من لا يعرفونني أنني في الستين. إنك حتى الذي وجد تسجيل الشيخ التوني على الإنترنت! أما أنا فكل ما حققته هو أنني لا أزال ألعب الكرة مع الأصدقاء في الملعب المجاور لبيتي مساء كل ثلاثاء لنصف ساعة على الأكثر، هذا ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
صحراء
كان صباحًا عاديًّا، لا يميزه شيء عن أي صباح آخر، تمامًا ككل ما في هذه الصحراء؛ شمس حارقة وظل مفقود وهواء حار ساكن ورمال ملتهبة، زواحف كسولة وطيور قليلة. لكنه بعد شروق شمس ذلك الصباح بساعات قليلة لم يعد كمختلِف الصباحات؛ كان ذلك هو الصباح الأول في الزمن الجديد، اليوم الذي يمكن أن يؤرخ به تحول تلك الصحراء وتبدل الحال ورحيل الجميع، كان ذلك الصباح تدشينًا رسميًّا لزمن الوحدة والخواء.
تردد في الصحراء الشاسعة صدى أصوات صاخبة، ضوضاء قبيحة ودخيلة على المشهد، لا تشبه حفيف الأغصان ولا تغريد الطيور ولا فحيح الأفاعي، أصوات أزعجت ساكني الصحراء الآمنين في وطنهم فهُرعت الزواحف خارجةً في ذعر من جحورها ورفرفت الطيور بعيدًا، وحده الشجر المتناثر ظل واقفًا لا يجد مهربًا ولا يعرف لتلك الأصوات المقتربة معنًى ولا تفسيرًا. لا يملك الشجر سوى الانتظار، يغدو الجميع ويروحون ويبقى وحده الشجر منتظرًا، لا يدري ماذا ينتظر، لكنه لا يكف عن الانتظار.
تبزغ في الأفق البعيد بوادر القادمين؛ كائنات ضخمة عجيبة الشكل والألوان، تزحف بسرعة وتصدر ضوضاء مقبضة، تفوح منها روائح كريهة وتملأ السماء بأبخرة داكنة كسحب من رماد. لم تشهد تلك الصحراء من قبلُ قدوم كائنات كهذه، ربما شهدت على فترات متباعدة ذئبًا ضل طريقه أو ناقةً شردت خلف قطيعها، لكنَّ كائناتٍ بهذه الضخامة والوحشية لم يسبق لها قط أن وطئت تلك الرمال.
صارت الصحراء الآن خاليةً من كل مظاهر الحياة فيما عدا الشجر، فمع حط تلك القافلة القبيحة رحالها هُرعت البقية القليلة من الزواحف والطيور هاربة، مترقبةً ما ستحدثه تلك الكائنات الهائلة في أرضها. لم يكن هناك أمل في قتالها بالطبع؛ فتلك معركة خاسرة لن يفلح فيها كل ما في أفواه الأفاعي من سموم، ولا كل ما على ظهور القنافذ من أشواك. ظل الجميع يتابعون من بعيد، وحدها — كالعادة — كانت الأشجار واقفةً على خط المواجهة، في قلب المعركة، وكانت — كالعادة كذلك — أول من دفع ثمن ذلك.