الفصل التاسع
يوليو ٢٠١٨م
كان القطار قد اقترب من ضواحي الإسكندرية، حيث بدأت تلك الكتل المكدسة من الخرسانة والطوب الأحمر المكشوف تنتشر بشكل أكبر وتلتهم نسبةً أعلى من الخلفية الخضراء التي سادت المشهد لمسافة طويلة، بدأت تظهر تجمعات متلاصقة من البنايات غير متناسقة الارتفاعات، تقطعها شوارع ضيقة ظهرت فيما يبدو كيفما اتفق دون أي تخطيط مسبق، وباتت تلك الكتل تقترب بالتدريج من مسار القطار حتى حجبت اللون الأخضر بالكامل عن ناظريه. تابع ياسين الثاني ذلك المشهد باستياء ثم تساءل بنبرة متحسرة: ما كل هذه المباني؟ ما كل هذه الكتل الخرسانية الرمادية القبيحة؟ ومتى بنيت؟ ألم تكن تلك المساحات كلها في الماضي حقولًا ومزارع؟
التفت إليه الأول باستخفافِ من يدرك كل شيء: لم تعد ثمة حقول هنا؛ توقف الفلاحون عن ممارسة الزراعة منذ زمن طويل، وصاروا إما سائقي توكتوك أو مهاجرين. غدت المزارع كلها مناطق سكنية، عشوائيات سكنيةً إن أردت الدقة. لا أعرف اسم هذه المنطقة بالذات؛ فقد ظهرت مناطق كثيرة مشابهة مؤخرًا، لكنني أضمن لك أنه من الآن وحتى نصل إلى سيدي جابر لن تقع عيناك على أي حقول.
أجاب الثاني — أو ربما لم يجب؛ فقد كان ذهنه في مكان مختلف تمامًا — في تغيير مفاجئ لمسار الحديث: هل أنت سعيد في حياتك؟
لم يبدُ على الآخر كثير من الاندهاش؛ فربما كان يدور في ذهنه السؤال نفسه على نحو ما: هل أنت … سعيد في حياتك؟
ابتسم الثاني رغمًا عنه؛ ربما لأنه توقع أن يجيبه الآخر بنفس السؤال، كان يعرف أن السؤال نفسه يؤرق كليهما. أجاب محاولًا امتصاص التحفز البادي على الآخر: أنا فقط أحاول الفهم، أريد أن أعرف إجابة السؤال الذي سهرت ليلةً بأكملها منذ سنوات طويلة لأفكر في إجابته، ثم ركبت القطار في الصباح التالي على غير هدًى لأرى أين سيوجهني. أيُّنا اختار الطريق الصحيح؟ هل أنا الذي على الصواب أم أنت؟ أيُّنا الأفضل؟
مطَّ الآخر شفتيه في تعبير واضح عن عدم الاكتراث، أو ربما عدم الرضا، وأجاب في لهجة فيها بعض التهكم والمرارة: ألا ترى أن إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية؟ انظر أين أنت وأين أنا، قارن بين ما حققته أنت وبين ما حققته أنا، أنت سافرت ونجحت وأصبحت — بسم الله ما شاء الله — مواطنًا من العالم الأول، تحمل جواز سفر كندي أزرق اللون، وكوَّنت أسرةً مستقرة، أما أنا فما زلت قابعًا هنا، أتقافز بين القاهرة والإسكندرية لأختطف ساعةً أقضيها مع أولادي، ثم أعود إلى دُوامة العمل والوحدة والملل.
أشاح الثاني بيديه في عصبية وانزعاج وقال بحدة: أي جواز سفر أزرق، وأي هراء تتحدث عنه؟! إنك لا تفهم شيئًا بالمرة، ولكن ليس هذا الوقت المناسب للجدال، سأشرح لك باختصار؛ أنا في كل الأحوال مجرد مهاجر شرق أوسطي، مغترب، والغربة تقتل روحك يا ياسين؛ يمر عمرك أمام عينيك بينما تتفرج عليه، ولن يفيدك كثيرًا أن تفعل ذلك وأنت مضطجع أمام جهاز تليفزيون ذكي متصل بالإنترنت فائق السرعة داخل منزل أنيق في العالم الأول! ثم إنه ربما عليَّ أنا أن أسألك؛ ألا ترى أن إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية من وجهة نظري كذلك؟ ألم تتزوج أنت فريدة؟ ألا يكفيك هذا؟!
أنهى جملته وهو ينظر في عين الآخر ببعض التحدي كأنما كسب نقطةً في تلك المناظرة، أطرق الآخر لبرهة ولاح في عينيه حزن عميق ثم أجاب بلهجة مكسورة: تحدثني عن فريدة؟! ألا يمكنك أن ترى أن زواجي بها قد فشل؟ ألم تلاحظ أننا منفصلان؟!
أجاب الثاني وقد تبدَّلت نبرته إلى التعاطف: لم تقل لي بالمناسبة، لماذا انفصلتما؟
رفع الأول كتفيه وأجاب بهدوء: ليس ثمة سبب محدد، لقد ظلت المسافة بيننا تبتعد بالتدريج دون أن نشعر، حتى وصلت الحياة بيننا لطريق مسدود، لم نستطع الاستمرار وحسب، كلانا لم يستطع الاستمرار.
قاطعه الثاني بلهجة استنكار: لكنها كانت حب عمرك!
أجاب الأول بسرعة: ولم تزل حب عمري! لم أحب قبلها ولا بعدها.
واصل الثاني بلهجته المستنكرة: لكن الحب كفيل بحل أي مشكلة.
أجاب الأول بنبرة صوت منخفضة تحمل بعض الأسى: لقد ساعدنا الحب على أن نحتفظ باحترام كل منا للآخر حتى الآن، جعلنا الحب ننفصل بهدوء وبشكل متحضر دون أن نتسبب في الإضرار بأطفالنا، لكن الاستمرار في الحياة الزوجية شيء مختلف، أتفهم؟
أطرق الثاني وهو يشيح ببصره بعيدا وقال متمتمًا: نعم، أفهم … أفهم.
مضت فترة صمت لم يشعر أيهما بطولها حتى قطعها الأول متسائلًا في لهجة تحمل بعض الاستخفاف: إذن فأنت تريد أن تقنعني بأنك لست مرتاحًا في كندا؟ لكن، ألم تحقق حلمك؟ ألم تجد هناك ما كنت تبحث عنه؟ ألم تجد هناك الحرية والديمقراطية والعدالة وتكافؤ الفرص وكل تلك المستحيلات التي لا نعرف هنا عنها شيئًا؟
أكمل الأول بنفس النبرة المستخفة في صوته وكأنه يحاور شخصًا يقول كلامًا غير منطقي: لماذا لا تعود إذن إلى مصر؟
التفت إليه وكأنه استيقظ من حلم، ثم فكر للحظة وأجاب: ليت الأمر كان بتلك السهولة! أنا لا أستطيع العيش في مصر يا صديقي. ليس لأن مصر سيئة؛ لكن لأنني نسيت كيفية الحياة فيها، نسيت كيف كان شكل الحياة هنا، ثم إنه حتى شكل الحياة الذي قد أتذكره لم يعد موجودًا! لم أعد أعرف الإسكندرية! أسير في شوارع لا أعرفها ولا أتذكر أي شيء مما يحيط بها، ولا أستطيع أن أجد الأشياء التي أتذكرها! هل تعرف؛ منذ أيام كنت أتمشى في كفر عبده، حيث كنت أحب التمشية قديمًا وسَط الفيلات والأشجار في الشتاء، حينما كنت أضع سماعات الأذن وأستمع إلى محمد منير من جهاز الووكمان في جيبي، ثم تذكرت بيشوي صديقي من المدرسة الثانوية، الذي كان يقيم هناك، وكنا نقضي في بيته ساعات طويلةً نستمع إلى الموسيقى ونشاهد مباريات الكرة. أتعرف، حاولت الوصول إلى الشارع الذي كان يقيم فيه بيشوي فلم أستطع! لا شيء هناك كما كان عليه، أتذكر الشارع جيدًا، كانت على ناصيته تلك الفيلا إنجليزية الطراز التي تطل شرفة بيشوي على حديقتها، وكان في آخر الشارع محل مكوجي صغير لا أتذكر اسمه الآن، لكنني أتذكر جيدًا واجهته الخشبية الزرقاء ذات الزجاج المزخرف المكتوب عليه اسم المحل بالفرنسية، كان هناك كذلك الفكهاني النوبي الذي كان يأتي بأفضل بطيخ يمكنك الحصول عليه في الإسكندرية، والذي اشتريت منه فاكهة البابايا لأول مرة في حياتي، ولم أكن أعرف اسمها وقتذاك. أتعرف، لم أستطع التعرف على الشارع! لم أعثر على أي فكهاني نوبي ولا على محل مكوجي ذي واجهة خشبية زرقاء، لم تعد هناك فيلا إنجليزية الطراز يا ياسين، لم أستطع أن أحدد أي واحدة من تلك البنايات الجديدة قد قامت على أنقاض حديقة الفيلا التي كنا نستمتع بتغريد الطيور على أشجار حديقتها قُبيل الغسق من شرفة بيشوي، لم تعد هناك أي أشجار! هل تذكر مثلًا محل الفشار في محطة الرمل؟ لعلك تعرف أنه لم يعد موجودًا كذلك. هل تذكر بيانكي التي كنا نفعل الأعاجيب لنحصل على تصاريح دخولها؟ لقد تحولت إلى عشوائيات تطفح في شوارعها مجارير الصرف. الإسكندرية التي أعرفها لم تعد موجودة! أصبحت مدينةً من الماضي لا يمكنك رؤيتها إلا في أفلام الثمانينيات والتسعينيات. لقد أصبحت أحس بالغربة هنا، لو انتقلت للعيش هنا سيكون ذلك كانتقالي للعيش في بلد جديد أحتاج بعض الوقت للتعرف عليه وفهمه، وما الذي يجعلني أنتقل للعيش في مدينة جديدة في عمري هذا؟ لقد تعبت من الهجرة، كلما انتقلت إلى بلد وفهمته وتأقلمت مع طبيعة الحياة به أجد نفسي مدفوعًا إلى هجرة جديدة! يكفيني ذلك، لقد اكتفيت من الترحال.
كان الآخر ينصت إليه باهتمام ويهز رأسه موافقًا حتى انتهى من حديثه الطويل، فكر لبرهة ثم أجابه وقد غابت نبرة الاستخفاف وحلَّت محلها الجدية: لقد تغير البلد فعلًا، أنا مثلك في أحيان كثيرة لا أكاد أعرف أين أنا، لقد صارت الحياة هنا صعبةً بحق، هذا البلد يبذل كل جهده لكي يجعل استمرار الحياة فيه مستحيلة.
حدجه الثاني بنظرة استنكار وأجاب: لكنني أشعر أنك تعيش حياةً جيدةً هنا، يبدو من مظهرك أن حالتك المادية متيسرة إلى حد كبير، ما الذي يضايقك إذن من العيش في بلدك التي تعرفها وسَط أهلك وأصدقائك؟ ما الذي يسوءُك في أن تَشيخ في مدينتك أو حتى في القاهرة؟ أنت تذكر طبعًا قول الأبنودي على لسان عمته يامنة:
ثم اختفت الابتسامة وأضاف بنبرة جادة إلى درجة التحذير: ثم، ليتها كانت مسألة مال وحسب. ليس بالضرورة أن تعيش بشكل جيد في هذا البلد إذا كنت تملك المال فقط، مهما كان حجم أرصدتك البنكية فأين يمكنك الهروب من الزحام، من التلوث، من التطرف، من موظفي الحكومة، من الطرق؟ لن تستطيع أموالك أن توفر لك العيش في جزيرة منعزلة؛ فليس ثمة جزر منعزلة في هذا البلد. يمكن لخطأ أحمق من موظف حكومي، أو لقرار عشوائي من محافظ أو وزير أو رئيس حي أن يهدم بجرة قلم كل ما بنيته، أو أن يفسد عليك حياتك للأبد. حتى الناس العاديون، هؤلاء الذين تراهم حولك، يمكنهم أن يقلبوا حياتك إلى جحيم، أولئك الذين انضموا إلى داعش واحترفوا تفجير السيارات وقطع الرءوس مثلًا، من أين تظن أنهم أتوا؟ لقد كانوا هنا وسَطنا طوال الوقت، كانوا يسيرون معنا في الأسواق ويجلسون بجوارنا في المواصلات، وما زال كثيرون منهم يعيشون بيننا ويتعاملون معنا، بل إن بعضهم كنت أعرفه بشكل شخصي؛ ذلك الطبيب الذي كان قد أجرى لي جراحةً في عيادته بشارع سيزوستريس مثلًا، لم يكن فيه ما يثير الريبة، مجرد طبيب شاب، ثم رأيته قبل عام على يوتيوب وهو يحمل سلاحًا آليًّا ويتوعد بذبح المشاركين في الانتخابات الرئاسية. هل يمكنك أن تتصور أن الرجل الذي أسلمت له نفسك ليخدرك ويشق لحمك بالمشرط، كان في قرارة نفسه يعتقد أن ذبحك سيوصله إلى الجنة؟ حتى هؤلاء البسطاء والشبان المتحمسون لأي شيء، الذين ظلوا يتجمعون تحت شرفة مكتبي لعامين، يتصايحون ويرددون هتافات لا معنى لها؛ كانوا السبب في أن خسرتُ كل ما بنيته طَوال حياتي، رغم أنني لم أتسبب لهم في أي ضرر. كانوا يريدون أن يسقطوا فلانًا أو فلانًا؛ فإذا بهم يسقطونني أنا ويغلقون باب الرزق أمام ثلاثين موظفًا كانوا يعملون بشركتي، ولا أعلم كيف يدبرون أقوات عائلاتهم الآن بعد موجة الغلاء الأخيرة. ماذا أقول لك عمَّا يمكن للحياة في هذا البلد أن تفعل بك؟ الحياة هنا خطرة يا ياسين، الحياة هنا كالتدخين، ضارة بالصحة وتسبب الوفاة.
أجاب الثاني بنبرة فضول: هل فكرت في الهجرة؟
ابتسم الأول وقال بلهجة محبطة: لا يمكنني الهجرة في عمري هذا. كما لا تستطيع أنت الحياة هنا، لا أستطيع أنا كذلك الحياة في كندا، لقد سافرت عدة مرات إلى الخارج، ورأيت بعض البلدان العربية والأجنبية، لكنني رأيتها كعابر سبيل يمر بها لعدة أيام ثم يغادر، لا أعرف كيفية الحياة في هذه البلدان، ولا أعرف شيئًا عن التفاصيل اليومية الكثيرة التي يتوجب على المرء التعامل معها، ولا أظنني أستطيع في عمري هذا ترك الحياة التي تعودت عليها لثمانية وأربعين عامًا، والبدء من جديد في عالم آخر. كانت الهجرة بالنسبة لي حلمًا قديمًا لم يعد صالحًا للتحقق الآن، وأنا متعايش تمامًا مع هذه الحقيقة، بالضبط كما كنت أحلم في طفولتي باللعب لنادي الزمالك، بعض الأحلام يصبح ببساطة غير قابل للتحقق بعد سن معين، أنا باختصار مثبت هنا بالمسامير، وقد قررت منذ سنوات أنني سأنجح هنا مهما كلفني الأمر.
أجاب الثاني في تفهم وتعاطف: معك حق، أفهم ما تعنيه جيدًا. يمكن للناس النجاح إذا أرادوا ذلك بالتأكيد، لكنك على الأقل معتاد على الظروف هنا، وتستطيع التعامل معها كما فعلت طيلة تلك السنوات، لكنني أنا لا أستطيع ذلك؛ لقد أصبحت أحضر إلى مصر كالسياح، أقيم لبضعة أيام في فنادق باهرة الجمال في شرم الشيخ أو مرسى مطروح أو الجونة، ألتقط بعض الصور الرائعة حقًّا، ثم أنشرها على تطبيقات التواصل الاجتماعي لأجد سيلًا من التعليقات من الزملاء والمعارف في شتى البلدان، يستغربون كيف أترك بلدًا ساحرًا كالذي يرونه في تلك الصور؛ لأعيش في مدينة كئيبة لا تشرق عليها الشمس مثل تورونتو، لم أعد أزور الإسكندرية أو القاهرة إلا للضرورة، أما فيما عدا ذلك فقد أصبحت غريبًا بالكامل عن هذا البلد، وذلك إحساس بالغ القسوة لو كنت تدرك ما أقصد، أستقل سيارة أجرة فلا يمكنني تخمين حدود ما يجب أن أدفع، لا أعرف سعر زجاجة الماء أو عبوة المياه الغازية، ولا أستطيع حتى أن أخمن ذلك لأنني عندما غادرت هذه المدينة كانت الورقة ذات العشرة جنيهات ما زالت تعتبر مبلغًا ذا قيمة! هل تعرف معنى أن تختفيَ ذكرياتك كلها؟ تاريخك كله يتم مسحه بنفس البساطة التي تمسح بها الصور غير المهمة من هاتفك المحمول، جذورك التي كانت ضاربةً في عمق الأرض منذ أعمار وأعمار تجدها فجأة معلقة في الهواء. أنا لست كنديًّا يا ياسين، ولن أكون في يوم من الأيام! كندا هذه رغم ما فيها من مميزات، ورغم أنني أحمل جنسيتها لكنها ليست وطني مهما عشت فيها، ربما تكون وطنًا لأبنائي أو لأبنائهم بعد ذلك، لكنني لا أريد أن أدفن هناك، وقد سجلت ذلك كتابةً في وصية قانونية أطلعت بناتي عليها! أنا الآن بلا وطن، لا أجد نفسي هنا، ولا أجد نفسي هناك، أتفهم؟
ساد صمت طويل هذه المرة، طال الصمت حتى لم يقطعه أي حديث بعد ذلك، غرق كل منهما تمامًا في أفكاره، في ذلك العمر الذي مضى وكيف مضى، في تلك السنوات الضبابية الغائمة التي لا يدرك ما كان يفعل فيها بالتحديد، سنوات تبدو منسية، لا يميزها شيء، وكأنما ابتلعها ثقب أسود، تلك الأعوام ما بين صخب الشباب وضجيج الحياة بكل عنفوانها، وبين الركود المميت الذي يقبع فيه الآن، تلك السنوات الجرداء الخالية من الذكريات المميزة وكأنها لم تكن، سنوات لم تضف إليه إلا بعض الشيب والكثير من الدهون، سنوات الثقب الأسود التي لا يكاد يذكر حدثًا هامًّا مر به فيها، بينما لم يزل يحمل تلالًا من الذكريات والتفاصيل عن السنوات السابقة لها، وقت أن كان حيًّا بحق، وقت أن كانت حركته لا تسكن، وعقله لا يتوقف عن التفاعل مع كل صغيرة وكبيرة، وقت أن كان بإمكانه ممارسة الحماقات وارتكاب الأخطاء. هل صنعت تلك السنوات أي فارق يذكر في حياته؟ هل كان شعوره بها سيختلف إن سافر إلى الخارج أو ظل في مصر، إن تزوج فريدة أو تزوج غيرها أو إن لم يتزوج قط، إن عمل في وظيفة ثابتة أو أسس عمله الخاص؟ أليست النتيجة هي ذاتها بشكل أو بآخر كما هو حال ذلك الشخص الآخر الواقف أمامه والذي يبدو مثله كهلًا حزينًا؟ أليست هي ذات الدُّوامة وهو نفس الثقب الأسود؟ هل كان له حق الاختيار من الأساس، أم أنه قدر لا مفر منه؟ هل كان سيغير اختياره إن أتيح له ذلك؟ وهل كان القدر ليتغير بالتبعية؟ ما الهدف إذن؟ ما الغاية من كل ذلك؟ أليست هي من الأصل لعبة روليت كبيرة؟ يولد طفل ما لأب سويسري يمتلك مصنعًا للشوكولاتة، ويقضي أمسياته في الاستماع إلى سيمفونيات شتراوس على ضفاف بحيرة هادئة وسَط جبال الألب الخضراء، بينما يولد طفل آخر في ذات اللحظة لأب أمي لا يجد قوت يومه في كشك خشبي فوق مستنقع تفتك به الأمراض المعدية في بنجلاديش. لم يختر أي منهما أين يولد أو لأي أبوين، ثم يحاول أحد مرتدي ربطات العنق الأنيقة في قناة فضائية ما إقناعنا بنظرية تكافؤِ الفرص، أو يستميت رجل دين ما في إثبات نظرية متهافتة عن أن كل إنسان يحصل على حظه في هذه الحياة على هيئة أربعة وعشرين قيراطًا، قد يكون بعضها صحةً وبعضها مالًا وبعضها ذريةً وبعضها ذكاءً إلى آخر تلك الترهات. كيف يمكن أن يكون هذان المولودان في ذات اللحظة قد حصل كل منهما على نصيب مماثل للآخر؟ هذه الحياة ظالمة بالتأكيد، عرف ذلك منذ زمن، وأراد أن يعتاد عليه كما يطالبه بيل جيتس في عبارته الشهيرة. لكنه لم يستطع؛ ربما لأنه ليس بيل جيتس، وربما لأنه لا يريد الاعتياد على حياة ظالمة!
•••
على رصيف المحطة العتيقة التي تستقبل بصخبها وزحامها القادمين إلى المدينة وكأنما تمهد لهم ما سيكابدونه فيها، كأنما تمنحهم لمحةً مبسطةً عن صخب وضوضاء تلك البقعة من الأرض التي وطئتها للتو أقدامهم؛ كي لا يباغتهم ذلك دونما تمهيد مسبق، على رصيف تلك المحطة كان يقف ذلك الشاب المتعب رافعًا في سأم ورقةً بيضاء طُبع عليها بحروف واضحة كبيرة اسم «ياسين عمران». كان كلاهما في الحقيقة يتوقع أن ينتظره شخص ما ليصطحبه إلى الوجهة التي يقصدها؛ يتوقع الأول من يصطحبه إلى الميناء حيث مكتب الشركة اليونانية التي حضر لمقابلة مديرها الإقليمي لمناقشة خطة الاندماج المقترحة مع الشركة التي يعمل بها، بينما يتوقع الثاني من يأخذه إلى مطار برج العرب حيث يستقبل زوجته وأبناءه القادمين مع جدهم وجدتهم لأمهم من شرم الشيخ بعد أن قضوا بصحبتهما هناك أسبوعًا، قبل أن يصطحبهم عائدين إلى القاهرة التي يطيرون منها في الصباح الباكر إلى تورونتو في رحلة طويلة، يتوقفون خلالها لأربع ساعات في مطار فرانكفورت.