عودة الطيار
إلى روح فوزي المعلوف
بَلَدٌ فِي مَجَاهِلِ الْأَبْعَادِ
مَاتَ فِيهِ فَتَى الزَّمَنْ
فَامْتَطِي الرِّيحَ يَا طُيُورَ بِلَادِي
وَاحْمِلِيهِ إِلَى الْوَطَنْ
عَشِقَ الْمَجْدَ مُنْذُ سُحْرَةِ عُمْرِهْ
فَغَزَا سِرَّهُ بِأَسْرَارِ شِعْرِهْ
شَاعِرٌ يَسْحَرُ الدُّمَى بِأَغَانِيهِ
فَتَجْرِي فِيهَا الْحَيَاةُ بِسِحْرِهْ
لَوْ أَصَاخَ الْمَاضِي الْبَعِيدُ إِلَيْهِ
لَتَمَنَّى لَوْ كَانَ أُذْنًا لِعَصْرِهْ
وَلَوَ انَّ الزُّهُورَ شَمَّتْ شَذَاهُ
لَتَمَنَّتْ لَوْ خَبَّأَتْ بَعْضَ عِطْرِهْ
وَلَوَ انَّ الْخَيَالَ جَارَاهُ فِي الرِّيـ
ـحِ لَضَلَّ الْخَيَالُ عَنْ مُسْتَقَرِّهْ
وَلَوَ انَّ النُّسُورَ خُبِّرْنَ عَنْهُ
لَتَمَنَّيْنَ لَوْ دَرَجْنَ بِوَكْرِهْ
طَارَ فِي عَالَمِ النُّجُومِ يُدِبُّ الرُّ
وحَ فِي عَالَمِ النُّجُومِ بِأَسْرِهْ
يَا لَهُ فِي الْعَلْيَا جَنَاحًا كَأَنَّ الطَّـ
ـيْرَ غَارَتْ مِنهُ فَهَمَّت بِكَسرِهْ!
اهْجُرِ الْأَرْضَ وَابْنِ جُدْرَانَ عُشِّكْ
فِي الْخُلُودِ — عَلَى ذُرَاكْ
طِرْ وَدَعْنِي أَحِلَّ أَخْشَابَ نَعْشِكْ
بِنَشِيدِي — لِكَيْ أَرَاكْ
لَيْسَ لِلشَّاعِرِ الْمُسَجَّى عَلَى الْأَحْـ
ـلَامِ نَعْشٌ مِنَ الْجُذُوعِ حِجَابُهْ
إِنَّ نَعْشًا تَغَلْغَلَ الْخُلْدُ فِيهِ
عَالَمٌ ضَاقَ بِالشُّمُوسِ رِحَابُهْ
الْمَسَامِيرُ فِيهِ مِنْ مَنْجَمِ النُّو
رِ وَمِنْ جَنَّةِ الرُّؤَى أَخْشَابُهْ
عَالَمٌ أُفْقُهُ الْخَيَالُ الْإِلَهِـ
ـيُّ وَنُورُ الْمُخَيِّلَاتِ سَحَابُهْ
الشُّعُورُ النَّقِيُّ كَوْثَرُهُ الْمُنْـ
ـسَابُ وَالنَّدُّ وَالْبُخُورُ تُرَابُهْ
عَالَمٌ قُوتُهُ ثِمَارٌ مِنَ الْحُـ
ـبِّ وَخَمْرٌ مِنَ السَّلَامِ شَرَابُهْ
نَسَمَاتُ الْغُفْرَانِ هَبَّتْ عَلَيْهِ
فَتَلَاشَتْ أَتْعَابُهُ وَعَذَابُهْ
عَالَمُ الْخُلْدِ لَيْسَ يُفْتَحُ إِلَّا
لِمُلُوكِ الْخَيَالِ وَالْحُبِّ بَابُهْ
يَا عَرُوسَ الْخَيَالِ قُودِي خَيَالِي
وَارْفَعِيهِ — عَنِ الْوُجُودْ
وَدَعِينِي أَسْمَعْ نَشِيدَ الْجَمَالِ
إِنَّ فِيهِ — مَعْنَى الْخُلُودْ
فُتِحَ النَّعْشُ لِي فَأَبْصَرْتُ قَصْرَ الرُّ
وحِ قَامَتْ عَلَى قُلُوبٍ عِمَادُهْ
وَرَأَيْتُ الْفَجْرَ الْمُذَهَّبَ بِالنُّو
رِ أَحَاطَتْ بِعَرْشِهِ أَجْنَادُهْ
وَتَرَاءَى لِيَ الْأَثِيرُ بِلَوْنِ الْـ
ـعَاجِ يَقْتَاتُ بِالشُّعُورِ جَمَادُهْ
وَنُجُومٌ تَمُوجُ فِيهَا حَيَاةٌ
كُلُّ نَجْمٍ مِنْهَا يَسِيلُ فُؤَادُهْ
وَالْأَعَاصِيرُ وَالصَّوَاعِقُ فِي زِيْ
يِ حَمَامٍ، وَاللَّيْلُ ذَابَ سَوَادُهْ
وَرَأَيْتُ الْخَيَالَ فِي ثَوْبِ مَلْكٍ
تَتَنَزَّى مِنَ الرُّؤَى قُوَّادُهْ
وَرَأَيْتُ الْفِكْرَ الصَّرِيحَ إِلَهًا
لَا يُرَى غُلُّهُ وَلَا جَلَّادُهْ
كَانَ عِيدٌ فِي ذَلِكَ النَّعْشِ لَوْ أَصْـ
ـغَى إِلَيْهِ الْوَرَى لَزَالَ حِدَادُهْ
وَإِذَا بِي أَرَى مَلَاكًا عَلَيْهِ
تَتَشَرَّدْ — رُؤَى دَمِهْ
فَاضَ ذَوْبُ الشُّعُورِ مِنْ رِئَتَيْهِ
وَتَجَمَّدْ — عَلَى فَمِهْ
فِي يَدَيْهِ رَبَابَةٌ، وَعَلَى جَفْـ
ـنَيْهِ كُحْلٌ تَحَارُ فِي أَلْوَانِهْ
إِنَّ كُحْلًا تَرَاهُ مُقْلَةُ الشَّا
عِرِ تَحْنِيطُ حُبِّهِ وَحَنَانِهْ
هُوَ «فَوْزِي» أَتَى إِلَى الْخُلْدِ لَا يَحْـ
ـمِلُ إِلَّا الْعَفَافَ مِنْ لُبْنَانِهْ
وَسِوَى آلَةِ الشَّقَا فِي يَدَيْهِ
وَجَفَافِ الدُّمُوعِ فِي أَجْفَانِهْ
فَأَحَاطَتْ بِهِ مِنَ النُّورِ هَالَا
تُ صَبَاحٍ كَأَنَّهَا مِنْ بَيَانِهْ
وَأَتَتْهُ النُّجُومُ فِي زَوْرَقِ الْحُـ
ـبِّ لِتُصْغِي سَكْرَى إِلَى أَلْحَانِهْ
وَإِذَا أَبَّلُونُ يَأْخُذُ تَاجًا
لُؤْلُئِيَّ الْإِطَارِ مِنْ تِيجَانِهْ
وَبِذَوْبِ اللُّبَانِ يَمْسَحُ صُدْغَيْـ
ـهِ وَعِطْرُ الْخُلُودِ مِنْ أَدْهَانِهْ
وَتَمَشَّى فِي عَالَمِ الشُّعَرَاءْ
صَوْتُ مَأْتَمْ — هَالَ السَّمَاءْ
حَمَلَتْهُ إِلَيْهِ رِيحُ الْفَنَاءْ
أَيُّ سُلَّمْ — يَرْقَى الْفَنَاءْ!
قَالَ لِلزُّهْرِ أَبَّلُونُ: أَطِلِّي
وَاسْمَعِي أَيَّ ضَجَّةٍ مَشْئُومَهْ!
أَيُّ صَوْتٍ أَتَى يَذُرُّ عَلَيْنَا
فِي حِمَانَا كِبْرِيتَهُ وَسُمُومَهْ؟!
مَا سَمِعْنَا مِنْ قَبْلُ نَدْبًا كَهَذَا
وَرِيَاحًا كَهِذِهِ مَحْمُومَهْ!
فَأَطَلَّتْ كَوَاكِبُ الْخُلْدِ حَيْرَى
ثُمَّ قَالَتْ بِمُهْجَةٍ مَكْلُومَهْ:
«… يَزْعُمُونَ السَّمَاءَ قَدْ ظَلَمْتَهُمْ
فَغَزَتْ شَعْبَهُمْ وَأَرْدَتْ نَدِيمَهْ!»
ثُمَّ سَادَتْ سَكِينَةٌ عَقِبَتْهَا
خَلَجَاتٌ مِنَ الْحُصُونِ الْعَظِيمَهْ
وَرَأَيْتُ الْخُلُودَ يُصْغِي وَشَاهَدْ
تُ عَذَارَاهُ خُشَّعًا وَنُجُومَهْ
تَتَلَقَّى طِوَالَ أَرْوِقَةِ الْأُو
لِمْبِ أَلْفَاظَ أَبَّلُونَ الْحَكِيمَهْ
وَدَوَى صَوْتُ أَبَّلُونَ يَقُولُ:
لِيُمَجَّدْ — فَوْزِي الْحَبِيبْ
أَغْلِقُوا الْقَصْرَ فَالْخُلُودُ الْجَمِيلُ
مَا تَعَوَّدْ — هَذَا النَّعِيبْ
أَيُّ شَأْنٍ لِلنَّاسِ بِالشَّاعِرِ المُلْـ
ـهَمِ لَا شَأْنَ لِلتُّرَابِ بِنَفْسِهْ
«هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخُلُودِ» فَفِي عَيْنـَ
ـيْهِ نُورٌ مِنَ الْخُلُودِ وَقُدِسِهْ
أَطْلَقَتْهُ الْأَرْضُ الَّتِي قَيَّدَتْهُ
فَانْثَنَى عَائِدًا لِمَسْقَطِ رَأْسِهْ
نَحْنُ أَوْلَى بِهِ فَهُمْ ظَلَمُوهُ
يَوْمَ دَسُّوا سُمًّا بِخَمْرَةِ كَأْسِهْ
يَوْمَ رَاحُوا يُكَدِّرُونَ نَدَى الْوَحْـ
ـيِ عَلَيْهِ وَيَشْمَتُونَ بِبُؤْسِهْ
أَزْعَجُوهُ عَهْدَ الشَّقَاءِ، وَلَمَّا
زُفَّ لِلْخُلْدِ أَزْعَجُوهُ بِعُرْسِهْ
وَإِذَا بِالْخُلُودِ يُغْلَقُ فِي وَجْـ
ـهِي فَأَهْوِي إِلَى الْفَنَاءِ وَيَأْسِهْ
وَبِقَلْبِي مِمَّا سَمِعْتُ نَشِيدٌ
لَمْ أَزَلْ مُصْغِيًا لِرِقَّةِ هَمْسِهْ!