جان جاك روسو: داعية الثورة
قبل أن تهب الثورة الفرنسية كان يهيئ لها، ويضع مبادئها، ويحطم خصومها، رجال الفكر من أمثال «فولتير»، إلى «ديدرو» إلى «دالمبير» إلى «جان جاك روسو»، وذلك بالدعوة إلى المساواة بين جميع أبناء الشعب في الحقوق، وهي مساواة كان ينكرها النظام الإقطاعي والامتيازات الملوكية، وكذلك بالدعوة إلى إخراج الكنيسة من الحياة المدنية، وحرمانها امتيازاتها العديدة، وكذلك بالدعوة إلى الحياة العصرية التي كان يفهمها «ديدرو» و«فولتير» على أنها الاعتماد على العلم والمعرفة.
وكان أبرز الدعاة إلى الثورة من حيث لا يعلم، هو «جان جاك روسو»، فإن مبادئ الثورة التي ما زلنا نعزوها إليها هي هذه الكلمات الثلاث: الحرية، والإخاء، والمساواة!
وهي كلمات «جان جاك روسو»!
ونقول: إن «جان جاك روسو» لم يكن يدري أنه يدعو إلى ثورة؛ لأننا لا نجد أية كلمة صريحة في مؤلفاته عن ذلك، ولكن ثورة حياته ومؤلفاته كانت تناقض النظام السابق للثورة في المجتمع والدولة، بحيث أصبحت هذه الحياة وهذه المؤلفات مبادئ عامة للحياة الجديدة.
حياة البساطة في العيش، بدلًا من الترف الذي كان ينغمس فيه الملك والنبلاء والأثرياء.
وحياة الطبيعة والإكبار من شأن الريف وسذاجة العيش، بدلًا من الإكبار من شأن المدن وعادات الحضارة المرهقة بترفها وتكاليفها.
والإيمان بالدين كما نجده في الطبيعة وليس كما نجده عند الكهنة، والإحساس الإنساني نحو البشر، بدلًا من الإحساس الطبقي عند النبلاء.
والاعتماد على الرقة والحنان والإخاء، بدلًا من الغلظة والقسوة والتعالي على الشعب.
وعندما نتأمل هذه المبادئ نجد أنها تنتهي بوقوف «روسو» في صف الشعب، بل بدعوته إلى أن تكون الحكومة والمدرسة وجميع مؤسسات الدولة والمجتمع شعبية، ومن هنا: الحرية والإخاء والمساواة.
نشأ «جان جاك روسو» في عائلة فرنسية قديمة كانت قد هاجرت إلى سويسرا، وكان مولده في جنيف في ١٧١٢، وكانت سويسرا في ذلك الوقت تكاد تكون القطر الوحيد الذي يأخذ بالنظام الجمهوري بين أقطار كلها ممالك وعروش، ولذلك كان «جان جاك» يفتخر بانتمائه إلى مدينته، ويوقع اسمه ويردفه بعبارة «مواطن من جنيف». وقد أمضى عمره في فرنسا واشتبك في المجتمع الفرنسي بمشكلاته وفنونه، فكانت باريس وطنه الذهني ومعترك اتجاهاته الفلسفية.
ويكاد المتأمل في حياته يقول: إنه لم يحصل على تعليم مدرسي فضلًا عن تعليم جامعي، ولكنه علم نفسه، وكان على ذكاء جعله يختار أحسن ما يعلم به نفسه من المؤلفات، كما أن ظروف حياته جعلته يفتح عقله ويرحب بالأفكار والآراء.
كان أبواه من البروتستنت الخارجين على المذهب الكاثوليكي، واستطاع الكاثوليك أن يدخلوه ديرًا، وأن يعيدوه إلى مذهبهم، ولكنه رأى في الدير من النقائص ما حمله على أن يتأمل في معاني الدين، وعلى أن يستقر على أن المروءة والشرف وحب الخير والإخاء هي كل الدين.
وكذلك عرف في بداية شبابه سيدة بارة آوته وأطعمته وأحبته، فتعلم منها أن الطيبة طبيعة الإنسان، وصارت هذه العقيدة مبدأ حياته ومذهبه الاجتماعي: أن الناس طيبون، وإنما تفسدهم الحضارة ومظالم الحكومة والمجتمع، وتكاد تعود جميع مركباته الفلسفية إلى هذا المبدأ.
ونحن نجده بعد ذلك يكره الكنيسة، ولكنه يحب المسيحية.
وهو يشيد بالحب، ولكنه يكره التقيد بالزواج.
وهو يحس بسوء المجتمع الذي يعيش فيه إحساسًا عميقًا، حتى إنه يحمل أبناءه عقب ميلادهم إلى الملاجئ التي تعنى باللقطاء؛ لأنه لا يطيق أن يراهم ويرى نفسه مسئولًا عن حياتهم المستقبلة في هذا المجتمع الفاسد الذي غيرته الثورة بعد موته بإحدى عشرة سنة.
أن تقدم العلوم والفنون يؤدي إلى تعاسة البشر وفسادهم.
وهو يعني هنا بالعلوم والفنون الحضارة الظالمة التي كانت تعيش فيها فرنسا أيام «لويس السادس عشر» باعتبار أن هذه الحضارة هي ثمرة هذه العلوم والفنون.
ثم هو يؤلف كتابًا آخر: «العقد الاجتماعي»، يقول فيه: إن الحكومات يجب أن تقام وفق أغراض الشعوب، وإن بين الحكومة وبين الشعب «عقدًا» مضمرًا هو ألا تعمل أي عمل يؤذي الشعب.
ويؤلف كتابًا آخر «أميل» عن التربية يقول فيه: إن الدين الحق هو الذي نعرفه من الطبيعة وليس من الكنيسة.
وعندما نتأمل هذه المؤلفات وأمثالها نستنتج منها أن المجتمع الفرنسي الذي كان يسوده النبلاء وينتظم فيه الإقطاع هو مجتمع سيئ، وأن الحكومة مرتبطة بعقد للشعب بحيث يجب أن تخدمه، فإذا لم تفعل وجب طردها، وأن الكنيسة التي تحيا بالامتيازات وتمتلك الممتلكات ليست هي ما نحتاج إليه، إنما نحتاج إلى التأمل في الطبيعة كي نصل من تأملنا إلى حقيقة الدين.
وشرعت الحكومة الفرنسية في تعقبه بغية إلقاء القبض عليه ومحاكمته لما كتبه عن الدين والمجتمع والحضارة، ففر إلى سويسرا ومن هناك صار يتنقل إلى الأقطار الأخرى، وهو على إحساس مؤلم بأنه مطارد من الحكومة منبوذ من المجتمع.
ولكن الحقيقة أنه لم يكن يدري أن المستقبل كان في صفه ومن حزبه؛ لأن مؤلفاته كانت خمائر تعمل في النفوس وتهيئها للثورة على الحكومة والكنيسة معًا.
وكان «روسو» في كراهته للمجتمع والحكومة والكنيسة ينشد مجتمعًا آخر يسوده العدل، فلا يكون فيه الجائع المحروم مع الشبعان المكتظ، ومن هنا كلماته التي أصبحت شعار الثورة: الحرية، الإخاء، المساواة.
ونستطيع أن نقول: إن جميع مؤلفاته كانت أحلامًا!
وهذه الأحلام هي ما يسمى في الأدب «الحركة الرومانتية» أي الابتداعية؛ إذ هو كان يبتدع ويخترع ويتخيل مجتمعًا آخر له تربية أخرى، وحكومة أخرى، ودين آخر، غير الواقع من هذه الأشياء، والديمقراطية والحكومة الشعبية هما من مخترعاته.
- جان جاك روسو: الذي تتلخص رسالته في أن الإنسان ولد حرًّا، ولكنه أصبح عبدًا في نظامي المجتمع والحكومة الفرنسيين، وأن المسيحية الحقة هي ما نفهمه الآن من الاشتراكية.
- وفولتير: الذي تتلخص رسالته في ضرورة تغيير المجتمع بإلغاء هؤلاء النبلاء المستغلين للشعب، وهذه الكنيسة التي تدعو إلى التعصب وتضطهد كل من يخالفها، وهذا العرش الذي لا يطيق قيام برلمان دستوري.
- وديدرو: الذي كان يقول بأن العلم والصناعة يغيران البشر، وأننا يجب ألا نسلم بالخرافات، وإنما نعتمد على العلم وحده، ومن هنا تأليفه للموسوعة التي كانت تحوي المعارف البشرية في عصره.