توم بين: ثائر أمريكي
ونستطيع أن نقصد إلى أية مكتبة محترمة في القاهرة، أو لندن، أو بكين، أو دلهي، أو باريس، فنجد أن له مؤلفات عظيمة مثل «عصر العقل» و«حقوق الإنسان»، مؤلفات حية تنادي صفحاتها بالشرف والإنسانية والإخاء والعدل، وتنادي قبل كل شيء بحكم العقل.
وقد كان في إنكلترا ملك صعلوك، لا يعرف اسمه أحد من الناس في عصرنا، حمل الحكومة أو القضاء الإنكليزي على أن يحكم على «توم بين» بالإعدام! ونجا «توم» من المشنقة بالفرار إلى فرنسا.
وقد نسينا اسم هذا الصعلوك، وبقي اسم «توم بين» حيًّا في قلوبنا، بل هو يبعث الحياة في عصرنا للملايين من الموتى.
ولد «توم بين» إنكليزيًّا ومات أمريكيًّا بل عالميًّا.
وليس في أمريكا من هو أعظم من «توم بين» سوى «أبراهام لنكولن»، وليس هناك من هو أعظم من «أبراهام لنكولن» سوى «توم بين». كلاهما كان مكافحًا للظلام، وكلاهما كان يرى الرؤيا الإنسانية.
ولد في إنكلترا في قرية صغيرة، وعاش مع أبيه في فقر وكرب، وفر من البيت وعاد إليه، وتصعلك وتشرد، فعرف الصناعات اليدوية الحقيرة، التي لم تكن تدر عليه ما يمسك به بطنه من الجوع، وأخيرًا استطاع أن يعمل جابيًا للضرائب، ولكنه لم يستقر …
وكان «بنيامين فرانكلين» — الأديب العالم الفيلسوف — في لندن، وعرف الصبي الشاب «توم بين» مقامه، وكان يعرف قبل ذلك آثاره، فقصد إليه، وهناك سأله عن أمريكا، وهل يمكنه أن يجد العيش فيها؟ فأجابه «فرانكلين» بأنه لن يجد العيش فقط، بل إنه سيجد الحرية أيضًا، هناك بلاد لا تعرف لها حدود، وأعمال لا يطرأ عليها عطل، وناس أحرار تركوا أوروبا لما فيها من طغيان الملوك والكهنة، وخرجوا يواجهون القدر ويقتحمون الدنيا، ونجحوا! …
ونفض الصبي الشاب حذاءيه من غبار إنكلترا، وقصد إلى أحد موانيها، وصعد إلى سفينة قد بسطت شراعها تزمع الإبحار إلى نيويورك، فصعد إلى القبطان وعرض عليه الخدمة بالسفينة لقاء نقله إلى الميناء الأمريكي … وتأمله القبطان، ووزن الصفقة فوجد أنه كاسب منها، فقبله.
وهبط «توم بين»، على الأرض الأمريكية، وهو فارغ الجيب، مملوء القلب، وتناول كل ما وقع في يده من عمل، ووجد ما أغناه من جوعه السابق.
وتأمل الصبي الشاب هذه الدنيا الجديدة، وقارنها بالدنيا القديمة التي تركها وراء المحيط الأطلنطي: ففي إنكلترا فقر وتعطل وفي أمريكا ثراء وعمل، وفي إنكلترا محافظون، وفي أمريكا أحرار … بلاد جديدة تخلو من التقاليد، ولذلك تخلو من القيود.
وأكثر من هذا! فإنه وجد ثلاث عشرة ولاية يتحدث سكانها عن الحرية والاستقلال والانفصال عن الإمبراطورية البريطانية.
أليسوا هم من البشر مثل الإنكليز؟ فلماذا يحكمهم الإنكليز؟
أليست الحرية من حقهم كما هي من حق الإنكليز؟
وتشربت نفس «توم بين» هذه المبادئ الجديدة، وأصبح أمريكيًّا بقلبه وعقله، يدعو إلى الثورة على الإنكليز، ورأى نفسه ذات يوم، وهو يستمع إلى الخطباء الأحرار الذين يدعون إلى الثورة في الميادين، فحمي قلبه، وثار عقله، فاعتلى خشبة، وحمل على الملك الألماني الأصل الذي يتبوأ عرش إنكلترا … الملك السمين الذي يريد استعمار أمريكا، فلعنه، وأنكر الحق الإلهي المزعوم للملوك، وعرف عنه في هذه اللحظة أن له لسانًا يفصح ويبين!
وألف الأمريكيون جيشًا لمقاتلة الإنكليز، فانتظم فيه، ولكنه كان يعرف أن قلمه أمضى من سيفه، فجرده وأخرج كتابًا بعنوان «التعقل».
وكان هذا الكتاب الشرارة التي بعثت الاشتعال العام، فإنه كتبه بروح الشعب الذي يكنه في قلبه عواطفه، ويؤمل آماله، ويتكلم بلغته، فجاء الكتاب حديث النفس للنفس، ودعوة الحرية للمترددين، وشرح اليقين للمتشككين.
ويتساءل «توم بين» في هذا الكتاب: بأي حق وبأي عدل وبأي شرف، يجوز لإنسان أن يتحكم في الناس ويقول: أنا ملكٌ، لي رأي فوق رأيكم جميعًا ولو كنتم ملايين! ولي الأمر وأنا فرد، وعليكم الطاعة وأنتم ملايين؟!
ويتساءل: كيف يجوز لملك أن يتولى الحكم بقوة الوراثة؟ ولنفرض أن الملك الأول كان عادلًا عاقلًا، فهل جميع سلائله من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد سيكونون أيضًا عادلين عقلاء.
ويسرد على القارئ ألوانًا من الجنون والخسة، وأنواعًا من السرقات والمفاسق التي ارتكبها ملوك إنكلترا، ويقول: يجب أن نتعقل، وإذا تعقلنا فإننا لن نرضى بهذا الحال، وإنما الحكم السليم هو النظام الجمهوري، نختار من يحكموننا كل عام أو كل بضعة أعوام، ثم نبقيهم أو نطردهم إذا أحسنوا أو إذا أساءوا …
ويقرأ الجنود هذا الكتاب فيجدون فيه مذهبًا جديدًا؛ مذهب الثورة، مذهب الحرية والجمهورية، والشعب أولًا والشعب أخيرًا هو صاحب الجلالة!
ولكن هنا نقف ونتساءل: أين تعلم «توم بين»؟ وكيف استطاع أن يؤلف الكتب التي تهز الأمم، وترج القارات، وتخلد على السنين بل القرون؟
أين تعلم هذا الرجل؟
لم يتعلم! وفي هذا ميزته!
ولا نعني بهذا الجهل ميزة، ولكن حركات الشعوب، حين تكون هذه الشعوب منغمسة في الظلام، غارقة في الظلم، تجوع، وتذل، وتحرم، وتقيد، هذه الحركات تحتاج إلى الكاتب الذي يتألم آلامها، ويحس إحساساتها، وينطوي على عواطفها، حتى إذا كتب نطق بمعانيها، وهاج جراحها، وبعث شهامتها، وأكسبها اللغة التي تعبر بها عن غضبها وإصرارها وانتهاضها.
لو أن «توم بين» كان قد دخل «جامعة أوكسفورد» وعاش تلك العيشة المتعالية المترفعة، لما كان قد عرف كيف يخاطب الجماهير! بل الأرجح أنه كان يشمئز منها ويعزف عنها، وكان يستطيع عندئذ أن يكتب بلغة «ستيل» و«أديسون»، لغة المجاز الأنيق، والاستعارة البراقة، والتورية الخلابة، ولكنه كان يعجز عن الوصول إلى قلوبها، إذ هو ليس منها!
ولكن «توم بين» الذي عرف الفقر، وجاع وحفي وتعرى وبكى، عرف هذه الجماهير، فكتب من قلبه إلى قلوبها، ومن جرحه إلى جراحها فاستجابت له!
وما زلنا، بعد ١٧٠ سنة، نقرأ كتابه هذا الذي اهتزت له الجماهير بالشرف والشهامة والشجاعة فنجد السذاجة البليغة، والصراحة المقنعة، والكلمة الحكيمة، والصرخة الإنسانية!
أنت ملك! ولماذا؟ وبأي حق تحكمنا؟
ألأنه كان لك جد لص، قبل خمسمائة سنة، غزا إنكلترا ونهب سكانها وشردهم وقتلهم؟
وبأي حق تحكم أنت أمريكا؟
وهو يناشد الشرف في الثائرين الأمريكيين ويقول لهم: إن هذه الثورة ليست لأمريكا فقط … إنها للعالم كله. إنها للإنسانية!
كلمات ساذجة يقولها رجل الشارع ويفهمها، فتدخل قلبه وتختمر نظريات فلسفية جديدة تعلو على صناعات الكلام.
وهو يكتب مقالًا في إحدى المجلات بعنوان: «تأملات في الألقاب»، ما أغربه وما أعذبه! لكأنه كان معنا في مصر قبل عامين، يتحدث عن صاحب المقام الرفيع، وعن الباشا السمين، وعن البك المستكرش!
إنه كتاب حي، له رنين في قلوبنا، تتذبذب كل جارحة من جوارحنا طربًا به!
وهو يحمل السلاح، بعد أن حمل القلم، ويحارب الإنكليز، وبعد أن ينتصر الأمريكيون يسمع عن الثورة الكبرى في فرنسا، فيقصد إليها كي يغذوها بدمه وعقله!
هو للعالم كله أينما دعاه شعب ينشد الحرية! هو لأمريكا التي تطرد الاستعمار الإنكليزي! وهو لفرنسا التي تقتل الصعلوك المتوج لويس السادس عشر! وهو للجمهورية التي تقول: إن صاحب الجلالة هو الشعب …!
ولكنه قبل أن يقصد إلى فرنسا يعرج على إنكلترا، بعد أن أعلن استقلال أمريكا، كي يدافع عن الثورة الفرنسية؛ لأن اثنين من الكتَّاب كانا قد حملا عليها: منهما الكاهن «مالثوس» الذي قال: إن دعوة الإخاء والحرية والمساواة، هذه الدعوة الفرنسية، هي هراء؛ لأن الناس يجب أن يأكل بعضهم بعضًا!
أما الثاني فهو «بورك» الذي افترى على الثائرين، بل على الشعب الفرنسي كله، واتهمه بالتوحش؛ لأن محاكم الثورة كانت قد أصدرت أحكامًا قاسية على أعداء الوطن، وبلغ من إسرافه في الدفاع أن آثر حكم الملوك على النظام الجمهوري!
وحصر «توم بين» دفاعه عن فرنسا في الرد على مزاعم «بورك»، وأصدر كتابًا بعنوان: «حقوق الإنسان».
وكان في هذا الكتاب، وفي حياة «توم بين» الماضية في أمريكا، ما يوغر قلوب الحاكمين في إنكلترا؛ ولذلك رفعت عليه الدعوى العامة بأنه خائن للوطن؛ أي الوطن الإنكليزي، وحكم عليه بالإعدام!
ونصح له قبل صدور الحكم بالفرار إلى فرنسا، ففر ونجا من المشنقة …
وما هو إن وطئت قدماه الأرض الفرنسية، حتى غمرته أمواج من البشر صائحين هاتفين: «توم بين» الجمهورية! لتحي الجمهورية! لتحي أمريكا!
ولا تقل: إن «توم» أمريكي أو إنكليزي أو فرنسي …
إنه فوق القومية والوطنية، إذ هو إنسان قبل كل شيء! ولذلك اختاره الفرنسيون نائبًا عنهم في الهيئة التأسيسية التي كلفت وضع الدستور!
ولا بد أنه — بعد أن صار نائبًا «فرنسيًّا» يشترك في وضع الدستور الفرنسي في النظام الجمهوري الجديد — قد ذكر حياته الماضية، ولا بد أن موجة من الإنسانية كانت تغمره في هذه الذكرى …
لقد كان يصنع الكورسيهات في لندن!
وكان إسكافًا يرمم الأحذية البالية!
وكان يفر من ضرب والده له!
كان يخدم على السفن بأجر سفره!
ولقد أحب خادمة وتزوجها، وماتت قبل أن تتم العام الأول من السعادة، فعرف لذة الحب ولوعة الفراق!
واشتغل في الصحافة وألف كتابًا خالدًا!
وحمل السيف مجاهدًا للاستعمار الإنكليزي!
وها هو ذا يدخل فرنسا، وهو يجهل اللغة الفرنسية، فيلقى الألوف من الرجال والنساء يهتفون: «فيف «توم بين»! فيف لا ريببليك!» أي ليحي توم بين! لتحي الجمهورية!
ويحملونه على الأعناق لأنه ملك، ملك القلوب!
حياة عامرة بالكوارث التي تربى فيها، كما هي عامرة بالمتع التي سعد بها، وكان حكيمًا وسعيدًا.
وهو يقعد إلى جنب أحد النواب الذين يعرفون الإنكليزية، في هذا المجلس الذي يقرر الدستور لفرنسا، وهو يسأل ويحاول أن يوجه الأشخاص حتى يأخذوا بقواعد الدستور الأمريكي.
ولكنه يجد المعارضة، وفي جو الثورة يستطير الغبار، وتخرج كلمات الغضب هوجاء مجنونة عندما تحتد المناقشات!
وفي نوبة من هذا الجنون يلقى القبض عليه؛ لأنه «خائن»!
ويزج به في السجن في باريس!
وهناك في سكينة السجن يفكر «توم بين» كثيرًا! ويبكي كثيرًا.
هذه الجماهير الجاهلة، في باريس ولندن ونيويورك، يغمر عقولها الظلام، وليس هذا الظلام مقصورًا على تلك الأساطير التي كان يتذرع بها الملوك للاستبداد بالشعوب، فإن هناك أساطير أخرى تستبد بهذه الجماهير، وهو يعني الأساطير الدينية التي كان الكهنة يبتزون بها أموال الشعب!
ولم يكن «توم بين» ملحدًا، ولكنه كان يكره الكنائس، ويعتقد أنها لا تقل في مظالمها عن العروش، وكان أكبر ما يحمله على هذا الاعتقاد أن الكنائس كانت — سواء في إنكلترا أو فرنسا — تؤيد العرش الإنكليزي في الاستبداد بالأمريكيين، كما تؤيد استبداد العرش الفرنسي بالشعب الفرنسي؟
وكتابه «عصر العقل» يدل اسمه على غايته … إننا يجب أن نعيش بالحقائق وليس بالعقائد.
وقد دعا فيه إلى أن يكون الدين للضمير الشخصي، وإلى أن يكون الإنسان حرًّا في عقيدته، ليس بينه وبين الله كاهن، وإلى أن الحرية لا تتجزأ، وأن الدعوة إلى الحرية السياسية يجب أن ترافقها دعوة إلى الحرية الدينية، وأن المحافظين دعاة التقاليد — سواء في السياسة أم الدين — هم أعداء البشر؛ لأن الدنيا تحتاج إلى التغيير الدائم حتى يتطور الإنسان ويرتقي.
وخرج من السجن، بعد أن توسط له السفير الأمريكي في باريس، فعاد إلى أمريكا حيث بقي يرعى هذا الشعب الجديد بنصائحه وكتاباته، حتى دفن في سنة ١٨٠٩.