الثورة الروسية
الثورة الروسية هي إحدى ثورات سنة ١٨٤٨، بيد أن الزمن تأخر بها سبعين سنة؛ ذلك لأن إنجيلها الذي دانت به وعلمها الذي انضوت إليه هو «البيان الشيوعي» الذي أخرجه كارل ماركس في ١٨٤٨.
وقصة الشعب الروسي الذي انتهى إلى هذه الثورة في ١٩١٧ هي قصة العذاب والهوان والفقر والجهل والمرض، يسومه إياها ملوك مجانين، ونبلاء أوغاد، وأثرياء في غيبوبة، لا يدرون معاني الشرف أو الإنسانية!
ثم كنيسة تؤيد العذاب والهوان للفقراء، وتحالف الملوك والأمراء والنبلاء!
فقد كان النظام الإقطاعي «الرق الزراعي» قد ألغي من أوروبا كلها، منذ الثورة الفرنسية الكبرى، ولكنه بقي في روسيا إلى ١٨٦١ حين أعلن «القيصر إسكندر الثاني» إلغاءه، وتحرر بذلك نحو عشرة ملايين فلاح ومنحوا أرضًا لزراعتها، ولكن لم تمنح هذه الأرض أجزاءً يمتلك كل فلاح جزءًا منها، وإنما كان المنح للقرية عامة، وكان توزيع الأرض يجدد كل عام، فينتقل المالك من مكان إلى آخر، وبذلك يضعف نشاطه وتبرد حماسته في خدمة الأرض، إذ هو لا يكفل لنفسه البقاء فيها عامًا ثانيًا أو أعوامًا تالية، كما أن تكرار التوزيع يهيئ الفرصة للمحاباة وإيثار شخص على آخر.
ولذلك لم يقنع الشعب بالتحرير، وأصر على ضرورة إلغاء الحكم المطلق، وأصر «إسكندر الثاني» على الحكم المطلق، وقتله الثائرون في سنة ١٨٨١.
وجاء ابنه «إسكندر الثالث»، فاستمسك بالحكم المطلق، كأنه ميزة قد ميزه الله بها، وكأن عقله العظيم خير من عقول ١٣٠ مليونًا من الروس! وقد استطاع أن يحكمهم، ولكن بالبوليس السياسي والنفي إلى سيبريا، بل أحيانًا بالإعدام! وكان هذا الأسلوب في الحكم خيرًا عنده من أسلوب الحكم النيابي بالبرلمان.
وحفلت روسيا بالثائرين الكاظمين، وفر عدد كبير منهم إلى العواصم الأوروبية التي أتاحت لهم فرصة التدبير للثورة وهم في أمن من البوليس السياسي الروسي، وحاول الثائرون عدة مرات اغتيال «إسكندر الثالث»، ولكنه كان ينجو منهم، وبقي إلى أن مات في سريره في ١٨٩٤.
وكان المظنون أن ابنه «نقولا الثاني» آخر القياصرة، سيفرج عن الحريات التي كان أبوه يعتقلها، وأنه سيعلن الدستور، ويتبرأ من البوليس السياسي، ويكف عن اعتقال الأحرار ونفيهم إلى سيبيريا … ولكنه — في رعونة نادرة — أعلن عقب ارتقائه العرش أنه سيستمسك بالحكم المطلق!
ومن ذلك الوقت أيقن الروس وأيقنت أوروبا أن الثورة ستقع، وأنها سوف تنتقم من القيصر والنبلاء الانتقام القاسي …
ووقعت الحرب بين روسيا واليابان، وانهزمت روسيا، وثار الشعب في ١٩٠٥، ولكن الحكومة حطمت الثورة بجيشها الذي كان يقوده أبناء النبلاء والأمراء أعداء الشعب الكارهون للدستور.
ولكن القيصر «نقولا» اضطر إلى التسليم بإنشاء برلمان كي يستر فضيحته وفضيحة أعوان السوء الذين حوله من الهزيمة في الحرب، واجتمع البرلمان، «الدوما»، ثلاثة شهور فقط، ولم يطقه القيصر أكثر من ذلك، فحله!
ثم جعل يلعب بالبرلمان على الطريقة التي كان يسيغها «فؤاد وفاروق» في مصر، فإذا كان الأعضاء خاضعين يحنون الرءوس فإن البرلمان يبقى، وإذا قالوا: «لا.» فإن البرلمان يغلق. وتعفن اسم القيصر على الألسنة والأقلام في أوروبا، فلم يكن يُذكر إلا باللعنة، وفي بداية هذا القرن حين ألغى «الدوما» صاح «كامبل بانرمان» رئيس الوزارة الإنكليزية: ماتت الدوما فلتحي الدوما.
وجاءت الحرب الكبرى الأولى في ١٩١٤، واتضح من الشهور الأولى أن الجيش لا يجد الأسلحة أو الأعتدة التي يحتاجها، وأن الألمان ينزلون به الهزيمة تلو الهزيمة، لهذا السبب، ولأن ضباطه وقواده إنما وصلوا إلى مراتبهم العليا لأنهم كانوا أبناء الأثرياء والنبلاء، وليس لأنهم كانوا أكفاء! وسالت دماء الشباب الروسي بلا رحمة! والحرب عبء كبير تحتاج إلى تعبئة جميع القوات في الشعب وتنظيمها، وهي ليست جيوشًا وأسلحة فقط، إذ هي مصانع ومزارع وحماسة وطنية، وتضامن بين المدنيين، وأفكار فلسفية، وأهداف سياسية، ولكن الحكومة الروسية، مثل الجيش الروسي، كانت في أيدي النبلاء والأثرياء، ولم تكن في أيدي الأكفاء، ولم يكن هؤلاء النبلاء والأثرياء يبالون قتل الملايين من الجنود الروس. وانهار الجيش وانهارت الأمة.
كان الجيش الروسي يحارب ببنادق ليس لها ذخيرة، وبمدافع صدئة، ليس لها قنابل! وهذا إلى جوع قاتل بسبب الفوضى في نقل الأطعمة وسرقة الموظفين والنبلاء لها.
وكان هذا أيضًا حال الشعب، فقد جاء عليه وقت كان يقرَّر للفرد فيه رطل من الخبز الأسود في اليوم، ثم أُنزل هذا القدر إلى نصف رطل، ثم إلى ربع رطل، بل بقيت بطرسبرج أسبوعًا كاملًا بلا خبز!
وفي مثل هذا البلاء يجن الضعفاء، فكان «القيصر» وزوجته يستشيران الكاهن النصاب «راسبوتين» ويؤثران رأيه على رأي الساسة والقادة، مع أن عقل هذا الكاهن الفلاح لم يكن يرتفع على عقول الضاربين بالودع والرمل في مصر!
وتقدم بعض الضباط ببرامج إصلاحية للجيش والشعب.
وجعل «القيصر» يغير وزيرًا بعد آخر، ولكنهم كانوا جميعهم سواءً في الانحلال؛ إذ كانوا موظفين قدامى يعجزون عن الارتفاع إلى مستوى الأحداث العالمية الكبرى … وتفاقمت الفوضى!
وأخيرًا في مارس من ١٩١٧ تجرأ بعض المدنيين والعسكريين على مطالبة القيصر بالنزول عن العرش، ولم يجد محيصًا من النزول …
وتألفت وزارة «كيرينسكي»، وكان رجلًا من أولئك الساسة الذين يفهمون السياسة على أنها دهاء، ومناورات حزبية، وبزة حسنة، وسهرات تدبر فيها المقالب، وكان يمكن أن ينجح في أوقات عادية يسودها السلم، أما حين تكون الحرب والدم وصليل السيوف ولعلعة المدافع، فإنه لا ينجح.
وكانت في روسيا أحزاب كثيرة وقتئذ: مثل حزب المنشفيك، الذي كان يتألف من الاشتراكيين الإصلاحيين دعاة التدرج، وحزب البولشفيك الذي يتألف من الاشتراكيين اليساريين دعاة الثورة، وكان يقوده لينين.
وفي ظروف الحرب، في ١٩١٧، حين كان الجيش الروسي يتقهقر وهو يكاد يكون أعزل، والقيصر يتنازل بعد أن رأى بعينيه تدمير بلاده على يديه، والجوع يعم السكان … لم يكن بد من أن ينجح دعاة الثورة دون دعاة التدرج، وسقط هؤلاء مذ سقط «كيرينسكي»!
وكان أعظم ما حقق النجاح للبولشفيين وساعد على انتصارهم على «كيرينسكي» والمنشفيين أنهم جعلوا القاعدة لسياستهم المطالبة بعقد الصلح فورًا، وكان الصلح منية الجيش والشعب، في حين أن «كيرينسكي» كان لا يزال يقول بمواصلة الحرب، الحرب بلا سلاح وبلا طعام.
ومما يدل على أن حكومة كيرينسكي لم تكن على وجدان لمنطقة الخطر التي كانت تعبرها روسيا في تلك الأيام أن بعض الثائرين في ثورة ١٩٠٥ كانوا لا يزالون مسجونين في ١٩١٧ ولم تفرج عنهم حكومة «كيرينسكي».
وعقد الصلح بين البولشفيين الروس، والعسكريين الألمان، في فبراير من ١٩١٨، ومن ذلك الوقت تغيرت روسيا عما كانت عليه أيام القياصرة، بل إن تغيرها صار يفصل ما بينها وبين أوروبا في الاجتماع والسياسة والثقافة.