الثورة الهندية
عندما نتأمل أحوال الهند — في القرنين أو القرون الثلاثة الماضية — نحس الحيرة حين نقارن بين مظالم الاستعمار البريطاني وبين مظالم التقاليد الدينية للهنود.
فإن هذه التقاليد جعلت الهنود يفرزون نحو خمسين مليونًا من أبنائهم، ويجعلونهم منبوذين لا يخالطونهم، ولا يأذنون لهم في الدخول في المعابد ولا يعلمونهم، ولا يجيزون لهم احتراف الصناعات الكاسبة!
وهذه التقاليد نفسها هي التي أوجدت إحراق الأرامل عقب وفاة أزواجهن، وقد منع هذا الإحراق منذ القرن التاسع عشر، وبقي حلق رءوس الأرامل واعتبارهن مشئومات منحوسات يجب أن يختفين عن الأعين!
وهذا التفاوت الاجتماعي بين طبقات الأمة الهندية هو الذي سول للإنكليز استعمار الهند؛ لأن أمة تحتقر أبناءها إلى هذا الحد لا ينتظر منها أن تتحد وتقاوم الاستعمار.
ويرجع استعمار بريطانيا للهند إلى نحو ثلاثة قرون، حين بدأت شركة تجارية تشتري منتجات الهند من الشاي والقمح والقطن ونحو ذلك، ثم صارت الشركة حكومة تسير على مبادئ الاستعمار، من شراء المواد الأولية بأرخص الأثمان في الهند، ثم صنعها سلعًا في بريطانيا، ثم إعادتها كي يشتريها الهنود بسبعة أو ثمانية أضعاف الثمن الذي تسلموه حين باعوا مادتها خامة غير مشغولة.
- (١)
أبناء المستعمرة المغلوبة يعملون بأقل الأجر لإيجاد المواد الخامة.
- (٢)
أبناء الأمة الغالبة يأخذون هذه المواد ويصنعونها سلعًا.
- (٣)
لذلك يُمنع أبناء المستعمرة المغلوبة من ممارسة الصناعات؛ أي من إنشاء المصانع الآلية التي تنتج إنتاجًا كبيرًا.
- (٤)
تعاد السلع إلى الأمة المغلوبة فتشتريها بأغلى الأثمان.
- (٥)
خلاصة الاستعمار هي أن الأمة المغلوبة تنتج المواد الخامة، ثم تشتري السلعة المشغولة، فهي بذلك سوق مزدوجة للأمة الغالبة.
وهذا هو ما جرى وما يزال يجري في المستعمرات.
واستطاع الإنكليز أن يستغلوا تعفن الهنود، هذا التعفن الذي جعل الحياة الهندية أسلوبية تقليدية غير ابتكارية انتهاضية! وكيف تستطيع أن تقنع رجلًا بأنه مظلوم، وأن الاستعمار يسحقه، وأنه يجب أن يجدَّ ويكافح للحصول على الاستقلال والشرف، إذ كان مجتمعه قد عدم الشرف، وصار يقتل الأرامل، ويحلق رءوسهن، وينبذ خمسين مليونًا من أبنائه لا يجعل لهم حرمة البقرة؟
ولكن هذا الاستعمار نفسه ينقل معه ترياقه، وهو الثقافة الأوروبية، فإن هذه الثقافة دخلت الهند وحطمت العقائد الهندية، وأكسبت الشخصية الهندية استقلالًا جديدًا، فأصبح التفكير يأخذ مكان التسليم، والابتكار يحتل مكان التقاليد، والنهضة مكان الجمود، ولذلك، وهذا هو ما يجب أن ننتبه له، لا ينهض ولم ينهض بالأمم الشرقية التي ذلت تحت أقدام الاستعمار سوى أولئك الذين لقنوا الثقافة الأوروبية وعبوا منها، مثل غاندي ونهرو، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، وكمال أتاتورك، ومصدق، وبورقيبة، وعلال …
أما الذين قنعوا بالثقافة الشرقية، فقد قعدوا، وما يزالون قاعدين، ويجب ألا ننسى أن كلمات الوطنية، والديمقراطية، والحرية، والإخاء، والمساواة، والبرلمان، والدستور، والأسرة، والمجتمع، هي جميعها كلمات أجنبية أو وطنية، فقد حملناها، نحن العصريين، معاني عصرية جديدة اكتسبناها من أوروبا، وليس من الشرق.
•••
كان الشرق في الهند يقول بإعدام الأرملة! وبعد أن ألغى القرن التاسع عشر هذا الفحش، صار يقول بحلق شعرها! وكان يقول بحرمان المرأة أعمال الرجال! وكان يقول بنجاسة خمسين مليون هندي! وكان يقول بحكم «الراجا» الذي يشتري الياقوت واللؤلؤ والألماس وسائر البهارج، بدلًا من ترقية شعبه! وكان يقول بالحكم المطلق لهذا «الراجا» أو «المهراجا»!
إني لأود أن تصيب الهند صاعقة تحطم جميع معابدها ثم نعود بعد ذلك فننشئ دينًا جديدًا.
- الأول: الاستقلال القومي السياسي، بإخراج الإنكليز، وإخضاع المهارجة والراجوات والأمراء للشعب الهندي، وإعلان السيادة القومية بالدستور والحكم البرلماني.
- والثاني: استقلال النفس الهندية عن التقاليد وتحريرها من ألوف الآلهة التي استبدت بالشعب الهندي ومزقته، وأذلت العقول والقلوب، وألغت الشخصية الإنسانية!
نشأ «غاندي» في عائلة هندوكية متوسطة، وتعلم في مدرسة عصرية تسير على النظام الإنكليزي، ثم رحل إلى إنكلترا حيث درس الحقوق لكي يصير محاميًا، وعاد إلى الهند، وحاول التكسب فلم ينجح، ثم رحل إلى أفريقيا الجنوبية، وكانت هناك جالية هندية مؤلفة في الأكثر من العمال الذين كان الأوروبيون قد جلبوهم للعمل في مناجم الألماس والفحم … وهناك وجد من هوان المعاملة التي يعامل بها الأوروبيون الهنود ما أثار إحساسه، وحفز كرامته على أن يتحدى الأوروبيين الذين كانت تؤيدهم الحكومة، فقد كان القانون يمنع الهندي من الحقوق البشرية البدائية الساذجة، كالسير مثلًا على طوار الشارع، كما كان يحرمه المساواة مع الأوروبيين في السفر بعرباتهم بالقطار، أو الدخول في الفنادق أو المطاعم التي يدخلونها! وهذا إلى هدر لحقوقهم في الأجور الحسنة أسوة بزملائهم الأوروبيين، وإلى مكافحة منظماتهم التي يبغون بها ترقية أحوالهم.
وعمد «غاندي» إلى المقاومة السلبية، فلم يحمل سلاحًا ولم يحضَّ على حمله، وكان يقنع بألا يتعاون الهنود مع الأوروبيين، وأصبح الهندي عندما يجد تعنتًا وتعسفًا يلجأ إلى أساليب فذة في المقاومة، كأن ينبطح على عرض الشارع فيعطل المرور.
وكان الهنود يعتقلون بالآلاف ويحكم عليهم بالحبس والسجن، ويسطو عليهم رجال الشرطة، ولكنهم لم يهنوا! …
وجاءت سنة ١٩١٩ فرأى «غاندي» أن الفرصة سانحة لأن يتوسع في رسالته ويكافح الاستعمار والاستغلال، لا في أفريقيا الجنوبية وحدها، ولكن في الهند أيضًا.
وعاد إلى الهند … وهناك دعا إلى المقاومة السلبية، بألا يتعاون الهنود مع الإنكليز، ودعا إلى مقاطعة السلع الإنكليزية، بل دعا إلى الكف عن تأدية الضرائب.
وكان ألصق هذه الضرائب بالشعب ضريبة الملح، فإن الفقر العام في الهند كان يحمل الفقراء على أن يقتصروا على الخبز أو الأرز لا يجدون غيرهما طعامًا، وفي مثل هذه الحال يحتاجون إلى الكثير من الملح كي يسيغوهما، فدعا غاندي الهنود إلى رحلة إلى ملاحات الشواطئ حيث يجفف الملح، وسار مع المتظاهرين نحو ثلاثين كيلومترًا على الأقدام، والشرطة المسلحة تلح عليهم بالضرب، والطريق يبلل بالدم، والاعتقالات تتوالى، ولكنهم وصلوا إلى الملاحات، وجمعوا الملح دون أن يؤدوا عنه ثمنًا.
وكانت القيمة الرمزية لهذا العمل أكبر بالطبع من القيمة الواقعية؛ لأن الهنود عرفوا منه أن الكف عن أداء الضرائب شيء يمكن التعويل عليه في مكافحة الاستعمار.
وعمم «غاندي» المغزل والمنسج، كي يزود الهنود بالقماش الوطني، بعد أن قاطعوا الأقمشة الإنكليزية، وجعل من المغزل رمزًا للديانة الوطنية الجديدة، رمزًا فقط؛ لأنه كان يعرف أن الغزل باليد لا يغني كثيرًا، وأن العبرة بإنشاء المصانع الكبيرة التي أخذت بها الهند بعد خروج الإنكليز، وكان غاندي يقول في بعض مقالاته، وهي صلوات وطنية: «إني لأخجل أن أطالب الإنكليز بالجلاء، إذا كنت لا أزال أحتاج إليهم كي أستر جسمي بالأقمشة التي يصنعونها!»
وبالغزل — بهذا الرمز — عمم «غاندي» الوجدان الصناعي في الهند، وعلم الهنود أن الأمة الراقية لا يمكن أن تقنع بالزراعة، إذ يجب أن تأخذ بالصناعة …
وكانت الحرب التي أعلنها «غاندي» على تقاليد بلاده أكبر من الحرب التي أعلنها على الإنكليز، فإنه أنشأ جريدة لخدمة المنبوذين، وجمع لهم المال، وعلمهم الصناعات التي كانوا يحرمون ممارستها قبل ذلك، ودعا إلى المساواة بين الجنسين، ولم يسبَّ الأديان الهندية، كما فعل تاغور، ولكنه كافح عسفها بالعمل.
ورأى التعصب يسود الهندوكيين والمسلمين، وأن المصادمات بينهم لا تنقطع، فعمل جاهدًا على تعميم التسامح، وكتب المقالات في مدح الإسلام والخلفاء الراشدين، وكان كلما وقع تصادم عمد إلى الصوم عشرين أو ثلاثين يومًا، حتى يخجل المتعصبون ويكفوا عن هدم المساجد الإسلامية أو المعابد الهندوكية! وكان قتله على يد واحد من هؤلاء المتعصبين الهندوكيين، الذين لم يطيقوا تسامحه البار مع غير الهندوكيين!
كان «غاندي» — وهو محامٍ في أفريقيا الجنوبية — يكسب نحو ستة أو سبعة آلاف جنيه في العام، نزل عنها كلها وارتضى لنفسه وزرة من القماش يستر بها جسمه أو بعض جسمه، وعنزة يشرب لبنها، ولم يكن يكلف الأمة التي خدمها أكثر من عشرين قرشًا في الشهر هي جملة نفقاته في اللباس والسكنى والطعام!
لم يشتر غاندي عزبة، ولم يسكن في قصر، ولم يقتن سيارة، ولم يسع كي يكون صاحب دولة، أو رفعة، أو سعادة، أو عزة!
ولو كان قد سعى، ولو كان قد اقتنى، لنال كل ما كان يتمناه، ولكن الهند عندئذ ما كانت لتحصل على استقلالها.
إنما حصلت الهند على استقلالها، حين لم تحصل عليه مصر؛ لأن زعماء الهند كانوا يخدمون الهند، فكان الشعب يحترمهم ويرضى أفراده بأن يضحوا كما يضحي زعماؤه.
وأحس الجميع أن الكرامة والشرف والمجد لا تتحقق بجمع المال، ولكنها تتحقق بخدمة الوطن، فخدموا جميعًا وطنهم، وهذا ما لم نفعل نحن في مصر؛ لأن زعماءنا جمعوا المال واللقب والقصر والسيارة فنزع أفراد الشعب أو وجهاؤه وأمراؤه ورؤساؤه نزعتهم.
وجاء «نهرو» بعد «غاندي»، فباع تراثه من الأرض والعقار، وأرصد نفسه للوطن، وقضى في السجن ثلاث عشرة سنة لأنه كان يصر على أن يعصي المستعمرين ويحرض عليهم ويدعو إلى الاستقلال.
وانتهى الإنكليز في ١٩٤٧ إلى النهاية المحتومة، وهي الجلاء؛ لأنهم وجدوا أن كل هندي هو «غاندي» أو «نهرو» لا يرشى ولا يساوم!
ولكن الثورة لم تنته بجلاء الإنكليز …
فإن القادة الهنود سنوا دستورًا يقطع الطريق على التقاليد الشرقية، حتى لا تعود، فتدمر المجتمع الهندي ثم تفتح الباب بعد ذلك للاستعمار.
وألغوا حكم المهراجات والراجات والأمراء الاستبدادي، وساووا بين الرجل والمرأة في الانتخابات، وفي المواريث وفرص العمل، والوظائف الحكومية، وجعلوا من النساء وزيرات!
وألغوا النجاسة، وعاقبوا بالعقوبات الصارمة من يهين رجلًا أو امرأة بزعم النجاسة، وجعلوا من المنبوذين وزراء! ونزعوا الأراضي الزراعية من المالكين الكبار، ووزعوها على المعدمين.
وفصلوا الدين من الدولة، وساووا بين جميع الأديان، وأصلحوا البور من الأرض.
ولكنهم تنبهوا إلى أعظم وأخطر الأسس للاستقلال والقوة، وهو الصناعة، فأسسوا المصانع الآلية الكبرى، حتى لقد نجحوا في إنشاء مصنع للفولاذ هو أكبر المصانع في العالم كله، وهم الآن يصنعون الأتومبيل، والراديو، والطائرة، والدبابة، والقاطرة، في مصانعهم، وهذا هو ما سوف يكفل لهم صون استقلالهم …
إن قصة الكفاح الوطني في الهند هي قصة إنسانية رائعة، هي قصة القديس الذي انتصر على إبليس، قصة الشرف الذي تغلب على الخسة، قصة التبصر الذي غزا المستقبل …!
هي قصة تفرحنا جميعًا عندما نذكر الهند، وتحزننا جميعًا عندما نذكر مصر!