الثورة المصرية الأولى
كانت الثورة المصرية الأولى جملة ثورات:
وقعت ضد «الوالي التركي» وأخضعته.
ثم ضد «نابوليون» وأخرجته.
ثم ضد «محمد علي» ولم تنجح …
وكان بطلها وقائدها «عمر مكرم»، وكان الشعب هو القائم بها.
ولم يكن الوجدان وقتئذ وطنيًّا، إذ كان، كما هو الشأن في العصور المظلمة، دينيًّا، ولم يبدأ الوجدان الوطني في مصر إلا في ثورة «عرابي».
ولذلك لم تكن لمصر راية وطنية، ولذلك أيضًا عندما هبَّ الشعب لمكافحة نابليون حمل العلم النبوي إذ لم يكن يعرف غيره.
وهذا الإحساس الديني هو الذي كان يجعل الشعب المصري يتقبل ولاة الأتراك ولا يعارض! ألم يكن الوالي مسلمًا؟
ولكن عندما نتعمق هذه الثورات الثلاث، نجد بذور الوجدان المصري، ونكاد نحس همسات المصريين بالتذمر من الوالي «التركي» ومن «المماليك الشركس»، ومن «محمد علي الألباني».
ثم سافر راجعًا إلى الصعيد يتمم ما بقي عليه لأهله من العذاب الشديد، فإنه فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار، وأذل أعزة أهله، وأساء أسوأ السوء معهم في فعله، فيسلب نعمهم وأموالهم، ويأخذ أبقارهم وأغنامهم، ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه، أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه، ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة، والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة، ويلزمهم بتحصيلها وغلاتها، وتعجيلها، فتعجز أيديهم عن الإتمام، فعند ذلك يجري عليهم أنواع الآلام، من الضرب والتعليق، والكي بالنار، والتحريق، فإنه بلغني والعهدة على الناقل، أنه ربط الرجل ممدودًا على خشبة طويلة، وأمسك بطرفيها الرجال، وجعلوا يقلبونه على النار المضطرمة مثل الكباب، وليس ذلك ببعيد على شاب جاهل سنه دون العشرين عامًا، وحضر من بلد ولم ير غير ما هو فيه، لم يؤدبه مؤدب، ولم يعرف شريعة، ولا مأمورات ولا منهيات! وسمعت أن قائلًا قال له: «وحق من أعطاك.» قال: «ومن هو الذي أعطاني؟» قال له: «ربك.» قال له: «إنه لم يعطني شيئًا، والذي أعطاني أبي، فلو كان الذي قلت فإنه كان يعطيني وأنا ببلدي! وقد جئت وعلى رأسي قبع مزفت مثل المقلاة.» فلهذا لم تبلغه دعوة، ولم يتخلق إلا بالأخلاق التي دربه عليها والده وهي تحصيل المال بأي وجه كان.
هذا هو مثال من حكم «محمد علي» وابنه «إبراهيم» ونحن نتكلم عن تسخير الفلاحين في حفر قناة السويس، ولكن يجب ألا ننسى أن «محمد علي» كان يسخر الفلاحين أيضًا في الزراعة، وهذا هو السبب لهجرة فلاحي مديرية الشرقية إلى فلسطين، فإنهم فروا من وطنهم كي ينجوا من مظالم هذا الطاغية!
وهناك من السذج، الذين لا يفهمون دورات التاريخ ومنعطفاته، من يعتقدون أن «محمد علي» كان عظيمًا حين قتل «المماليك» مع أن هذه المذبحة قد رجعت بمصر أكثر من قرن بدلًا من أن تعمل لتقدمها!
ذلك أن هؤلاء «المماليك» كانوا يمثلون في مصر طبقة النبلاء، وكانت الأمة لا تعرف بعد الطبقة المتوسطة، فلو أن طبقة «المماليك» بقيت لكان منها هيئة المعارضة «لمحمد علي»، كما كانت الحال في أيام الملك «جون» في إنكلترا، وكانت تستطيع أن تستخلص منه حقوقًا، كما استخلص نبلاء إنكلترا هذه الحقوق في ١٢١٥.
ولكن بعد ذبح المماليك لم يعد «محمد علي» يجد أية معارضة، فطغى وأحال الأمة كلها إلى عبيد، ويجب أن نذكر أن الجبرتي يصف «المماليك» بأنهم مصريون، ويصف «محمد علي» ورجاله بأنهم أتراك وألبان.
وساد الظلام والجمود البلاد منذ ١٨٠٠ إلى ١٨٨٢، حين هبت الثورة الثانية ضد الخائن «توفيق»، على الرغم من فترة «إسماعيل» الذي تجرأ وأدخل الحضارة الغربية في مصر، ولكنه أدى الثمن غاليًا إذ كان ديونًا باهظة انتهت باحتلال الإنكليز لوطننا.
•••
كنا فيما بين ١٧٩٠ و١٨٠٥ في ثورات لا تنقطع …
وكان يقود هذه الثورات الثلاث رجل من نور ونار هو «عمر مكرم»!
وُلد «عمر مكرم» في أسيوط حوالي ١٧٥٠، وتعلم بالأزهر، ولا يزال جزء من مكتبته في دار الكتب إلى الآن.
وفي ١٧٩٣ أسندت إليه نقابة الأشراف التي نزعها منه بعد ذلك الطاغية «محمد علي»؛ لأنه — أي «عمر مكرم» — لم يرض عن استبداده.
وفي ١٧٩٥ نقرأ في «تاريخ الجبرتي» أن «عمر مكرم» كان أحد الذين وقَّعوا على وثيقة تعهد فيها أميرا المماليك «مراد وإبراهيم» بالعدل والحق.
ونفهم من «تاريخ الجبرتي» أن الشعب المصري هو الذي اختار «محمد علي» بعد أن تعهد بأن يحكم بالعدل والحق، ونفهم أيضًا أن رجال مصر بقيادة هذا العظيم «عمر مكرم» هم الذين قصدوا إلى «خورشيد» الوالي التركي، وحاصروه في القلعة، وطلبوا عزله، إيثارًا «لمحمد علي» عليه.
وكانت الدولة العثمانية قد عينت «محمد علي» واليًا على جدة، ولكن أعيان مصر وعلماء الأزهر تمسكوا به، فبقي، وعين واليًا بعد عزل «خورشيد»؛ أي إن تعيين محمد علي واليًا على مصر كان بناءً على رغبة الشعب المصري في ذلك.
وفي كل هذه الأحداث التي انتهت بتولية «محمد علي» نجد في «تاريخ الجبرتي» من الكلمات والمعاني الديمقراطية ما يشرف جدودنا، ويدنس «محمد علي» بالخيانة والغدر!
كيف تثورون على من ولاه السلطان عليكم وقد قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.
ألا فاعلم أن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا الحاكم الذي أرسلكم ما هو إلا رجل ظالم خارج على قانون البلاد وشريعتها، فقد كان لأهل مصر دائمًا الحق في أن يعزلوا الوالي إذا أساء ولم يرض الناس عنه، على أنني لا أكتفي بذكر ما جرت عليه عادة البلاد منذ الأزمنة القديمة، بل أذكر لك أن السلطان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس سيرة الجور والظلم كان لهم عزله وخلعه.
وكيف يجوز لكم حصارنا ومعاملتنا معاملة الخوارج الكفرة؟
إننا نقاتلكم لأنكم عصاة قد خرجتم على الحق وثرتم على القانون.
كلمات من نور نفتقدها في الوزراء أصحاب الضياع والقصور والسيارات في أيام فؤاد وفاروق فلا نجدها!
•••
ونترك كفاح الشعب المصري للمستعمر الطاغية نابليون؛ لأن هذا ليس موضوعنا، ونقتصر على كفاح الشعب «لمحمد علي».
فإن هذا الألباني حين استقرت له الولاية برغبة الشعب، عمد إلى وسائل من الخبث للقضاء على قوة الشعب الذي كان قد استيقظ، بعض الشيء، بكفاحه السابق لخورشيد ثم لنابليون.
ولذلك نجد أنه عندما فرض «محمد علي» الضرائب على الشعب، عمد كثير من الأعيان والعامة إلى بيت «عمر مكرم» وهتفوا به؛ لأنه هو الزعيم المختار، وطلبوا منه مشافهة «محمد علي» في إلغاء الضرائب، وقصد «عمر مكرم» إلى «محمد علي» وأوضح له العهد السابق الذي تعهد فيه «مراد وإبراهيم» بالعدل والحق، ولكن «محمد علي» لم يبال؛ لأنه لم يكن رجل عدل وحق!
وكان «محمد علي» لا يزال يخشى سلطان الدولة العثمانية، فلما طولب بحساب الدولة، الميزانية، احتاج إلى أن يستشهد «بعمر مكرم»، فدعاه كي يوقع على الحساب الذي سيرسل إلى الآستانة، ولكن «عمر مكرم» رفض التوقيع.
وكان هناك «ديوان» قد ألفه «نابليون» من أعيان الشعب وعلماء الأزهر للاستشارة، ولكن «محمد علي» ألغاه.
وعرف «عمر مكرم» كما عرف «محمد علي» أن كليهما عدو للآخر.
وعندئذ أمر «محمد علي» بحرمان «عمر مكرم» من نقابة الأشراف، ثم أمر بنفيه إلى دمياط، حيث بقي تسع سنوات، عاد بعدها إلى القاهرة، ولكنه لم يلبث قليلًا حتى نفي إلى طنطا حيث مات بعد شهور …
وهكذا خلا الجو «لمحمد علي» ومعه جيش، وليس أمامه مماليك يقاومونه، وليس أمامه زعيم … فاستبد وطغى! …