أسباب الثورات وطرزها
من الكلمات التي أفزعتني وصدمتني لأول رؤيتي لها كلمة «رينان» حين قال في أحد مؤلفاته، يصف مصر بالعقم الذهني: إنها — أي مصر — لم يظهر فيها «حتى ثائر واحد»!
ولكني بعد أن درست ما لم يدرسه «رينان» وعرفت الأسس التي تنبني عليها الثورات، أفقت من هذه الصدمة؛ ذلك أنه لا يبعث على الثورة سوى ظهور طبقة جديدة قد تغير مركزها الاقتصادي، فشرعت تكافح كي تغير أيضًا مركزها الاجتماعي والسياسي.
وقد مضت على مصر آلاف السنين وطرق الإنتاج فيها لا تتغير، فلم يظهر فيها طبقات جديدة، ومعنى هذا أن استقرار الطرق الإنتاجية قد أدى إلى استقرار النظم الاقتصادية والاجتماعية، وأدى هذا في النهاية إلى بقاء الطبقات كما هي، فلم يكن هناك باعث على الثورة.
وصحيح أننا أحيانًا نجد الثورة دون أن نتبين البواعث الاقتصادية التي بعثتها، ولكن جهلنا لهذه البواعث لا يدل على غيابها، بل يدل على صعوبة الدرس للوقوف عليها لا أكثر.
إننا نجد على الدوام في تاريخ الثورات أن هناك طبقة تسيطر على المجتمع وتتسلط على الحكم، ولكنها غير منتجة، وهي؛ لأنها غير منتجة، لا تحس المسئوليات الاجتماعية، فتنحل أخلاقها، ويتزعزع تماسكها، وهي تسرف وتتبذخ؛ لأنها تستهلك ولا تنتج، وقد تحيا على هذه الحال سنين، ولكن الشعب الذي يحتقرها ينتهي بالثورة عليها، كي يضع مكانها الطبقة المنتجة التي علمها الإنتاج أصول الشرف والاستقامة، كما أوحى إليها القوة، وغرس فيها الإرادة والنشاط، فهي لذلك تثور وتنجح في ثورتها، ولهذا السبب نجد لكل ثورة طرازًا يختلف عن الطرز الأخرى للثورات.
ففي العصور القديمة، حين كان الدين يستوعب جميع ألوان النشاط البشري، كانت الثورات دينية؛ ذلك أن الطبقة الحاكمة إنما كان طبقة دينية، وكانت تستولي على وسائل الإنتاج، وتنعم بما تغله لها من ثراء، وما تتمتع به من بذخ، فكانت عقلية الثورة دينية، ومن هنا كثرت الشيع والملل والنحل في القرون الماضية، سواء عند العرب أم عند الأوروبيين، وكل فرقة دينية جديدة كانت تعني ثورة جديدة.
أما الآن، في عصرنا، فإننا لا نجد هذه الفرق الدينية؛ لأن الأمم العصرية لم تعد تجعل الفكريات الدينية وسيلة التفوق الاجتماعي والسيطرة الحكومية، ونحن نعيش في عصر العلم والحقائق وليس في عصر العقائد.
اعتبر ثورات اليهود التي كان يقوم بها رجال الدين وحدهم، أو اعتبر ثورة الزنوج في البصرة ضد الخليفة العباسي، فإن زعيم هذه الثورة، علي بن محمد بن الحسين، احتاج إلى أن يزعم أنه ينتسب إلى الإمام علي كي يقود الثورة.
بل اعتبر الحروب الصليبية التي لم تكن أكثر من ثورات دينية، ولم تكن الظروف التاريخية تبيح الثورة على شكل آخر؛ لأن الطبقة الحاكمة كانت طبقة دينية، فإذا فقدت كرامتها لأنها أسرفت في الظلم والطغيان، أو انتهت بالإهمال إلى الفوضى، هبت طبقة دينية أخرى وثارت عليها وأخذت مكانها، كما فعل العباسيون حين طردوا الأمويين.
ثم ظهرت بعد ذلك في أوروبا طبقة من النبلاء غير الدينيين؛ أي من نسميهم الإقطاعيين، فكان الشعب في أوروبا: ملكًا ونبلاء وعامة، فإذا استبد الملك فإن استبداده سيقع أولًا على النبلاء، وحتى حين يقع على العامة يكون النبلاء هم وسيلته إلى ذلك؛ لأن العامة كانت في الأغلب من الموالي أي عبيد الإقطاعيين … ولذلك كنا نجد الثورات مقصورة على الصراع بين الملوك والنبلاء، أما الشعب فلا يكاد يذكر، وهذا ما نرى في الثورة الإنكليزية في سنة ١٢١٥، وهي ثورة النبلاء على الملك جون.
ولم تكن في أوروبا في ذلك الوقت طبقة متوسطة، ولكن هذه الطبقة المتوسطة التي كانت تتألف من التجاريين والصناعيين؛ أي أولئك الذين كانوا يمارسون التجارة والصناعة، أو يأخذون بفكرياتهما دون ممارستها، هذه الطبقة قامت بثورات أخرى غايتها الحرية والأمن، ونجد طرازها واضحًا في ثورة كرومويل ضد الملك «تشارلس الأول» في إنكلترا «حوالي سنة ١٦٤٠» وفي فرنسا «في ١٧٩٨».
وإلى هنا لا نجد ثورة للعمال؛ لأنهم لم يكونوا على وجدان بأنهم طبقة؛ إذ كانوا إلى ذلك الوقت يعيشون تلك العيشة الزراعية التي كانت تجعلهم موالي — أي عبيد — الإقطاع أو مثل الموالي.
ولكن لما كبرت المدن، وجذبت الموالي من الريف إليها، فاستخدمتهم في الصناعة والتجارة والنقل، أصبحنا نجد «العمال» الذين لم نكن نجدهم قبل سنة ١٨٠٠.
أصبحنا نجدهم في المصانع التي تعمل بالآلات؛ أي بالحديد والنار، وأصبح هؤلاء العمال يعيشون في المدن، ويتلقنون ثقافتها، ويتجمعون حول المصنع، فيحسُّون روحًا طبقيًّا لم يكن يحسه الفلاح الحر المولى المستعبد في القرية.
ولذلك نجد في سنة ١٨٤٨ طرازًا آخر من الثورات، هو ثورات العمال الذين يتحدثون عن الاشتراكية والتأميم ويصطدمون بالطبقة المتوسطة.
هذا ما حدث في أوروبا. أما ما حدث في مصر فيختلف كثيرًا … وذلك أننا منذ احتلال الأتراك لبلادنا في ١٥١٧ أصبحنا نحس وجدانًا آخر هو هذا الاستعمار التركي، أو الامتياز العنصري الاقتصادي لأبناء الشركس والترك دون أبنائنا.
ولذلك نجد أن أول ثائر مصري هو «عمر مكرم» الذي ثار في وجه الوالي التركي ثم في وجه محمد علي، وكان إحساسه مختلطًا، ولكنه كان عنصريًّا شعبيًّا إلى حد بعيد: مصري فقير ضد الأتراك الأثرياء.
ثم نجد هذا الإحساس يقوى في «عرابي». فإن كلمات «شركسي وتركي ومصري» كانت تجري على لسانه وعلى ألسنة شركائه، ولكننا نجد أيضًا بزوغ الإحساس الاقتصادي بحيث يكاد يكون إحساسًا طبقيًّا. فإن عرابي كان من الفلاحين الفقراء، وكان كارهًا لفاقتهم ثائرًا على المالكين الأثرياء من الترك والشركس والأجانب. ثم نجد ثورتنا في ١٩١٩، وكانت ضد الاستعمار البريطاني فقط، وأخيرًا نجد ثورة الجيش في ١٩٥٢ وهي مختلطة العواطف، ولكنها تميل ميلًا واضحًا نحو إنصاف الفلاحين، وهو؛ أي الجيش، يمثل بضباطه وجنوده الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة من الفلاحين، وليس هناك شك في أن خلف هذه الحركات بواعث اقتصادية، قد تكون مختفية، ولكن اختفاءها لا يدل على غيابها.