الثورة المصرية الثالثة
لما انتصر الإنكليز على عرابي، واحتلوا بلادنا بدعوة من الخائن «توفيق»، عم البلاد ذهول وكمد، ومضت عشر سنوات استرد فيها الأتراك والشركس كل ما كانوا يكافحون عليه عرابيًّا من مناصب، ولكن الإنكليز بعد أن استقروا لم يعودوا يحسون أنهم في حاجة إلى تأييد الأتراك والشركس، إلا في التعيين للوزارات وبعض المناصب الكبرى القليلة، وذلك لأنهم أخذوا مكان الأتراك والشركس في الجيش والمناصب العديدة الأخرى، وأصبحنا نحن لقاء استعمار مثلث من الإنكليز، والأتراك، والشركس!
ولكن هذه الحال لم تدم أكثر من عشر سنوات، أحس فيها الأتراك والشركس وأبناؤهم أنهم مغبونون مع الإنكليز أكثر مما كان يمكن أن يغبنوا مع عرابي، فأصبحوا وطنيين! ولكن وطنيتهم كانت تقول بأن مصر جزء من الدولة العثمانية، ولن تنفصل أبدًا منها، ولن تستقل بنفسها عنها، وتابعهم في هذا الرأي كثير من المصريين، بل إن «مصطفى كامل» كان يقول به!
ولكن يجب أن نقف هنا ونتأمل الموقف وقتئذ: فإن مصر قبل دخول الإنكليز لم تكن مستقلة من حيث القانون، إذ كانت تؤدي جزية سنوية للدولة العثمانية، كما أن الخديوي كان يتولى الحكم بفرمان من سلطان الأتراك، ولم يكن في مقدور مصطفى كامل أن يقول، حوالي ١٨٩٨، باستقلال مصر التام بلا اعتماد على الدولة العثمانية، ولو أنه كان قد قال ذلك لوجد نفورًا عامًّا من الخديوي والأمراء والباشوات والأثرياء، وكذلك كان شأن «محمد فريد» بعده.
واحتجنا إلى أن ننتظر «أحمد لطفي السيد» الذي شرع حوالي ١٩٠٧ في تعليم الشعب أن مصر للمصريين فقط، وليست للأتراك ولا للإنكليز …
وكان لهذا الاتجاه في الوطنية المصرية أثر كبير بين الأقباط الذين كانوا ينفرون من الدعوة السابقة التي كانت تقول بأن مصر جزء من الدولة العثمانية.
وارتكب الإنكليز فظيعة «دنشواي» في ١٩٠٦، حين أعدموا وجلدوا بعض الفلاحين أمام أبنائهم وزوجاتهم؛ مما أثار الشعب كله، ونبه الغافلين، وأنطق الصامتين! وقد ارتجت البلاد لهذا الحادث، وظهر عظماء من الفدائيين الذين يدبرون الاغتيالات، ولا يبالون أن يعدموا في سبيل الاستقلال! ولو أن الإنكليز لم يرتكبوا هذه الفظيعة لتأخرت حركة الاستقلال! فإن الحزن الذي غمر الشعب، وهو يقرأ عن إعدام الفلاحين، وعن عذاب الأبناء والآباء والزوجات، وهم يشاهدون الحبال تشد على أعناق آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، هذا الحزن انقلب غيظًا وحقدًا على الإنكليز، وإصرارًا على دعوة الاستقلال! وأصبح شباب الأمة، الذي كان راكدًا قبل ذلك، في حال التنبه والتربص بالإنكليز.
ثم جاءت الحرب الكبرى الأولى فوقع الإنكليز فيما كان أسوأ من حادث دنشواي، فإنهم صاروا يخطفون الفلاحين من مساكنهم أو حقولهم، ويربطونهم بالحبال، ويرسلونهم إلى فلسطين، بدعوى أنهم «متطوعون» لمساعدتهم في قتالهم للأتراك! وكانوا أيضًا يستولون على الجمال والحمير والتبن وسائر المحاصيل، بتعويضات ضئيلة! ولم يكن الفلاحون قبل ذلك على وجدان وطني، ولكن هذه الإجراءات أسخطتهم على الإنكليز، وبعثت فيهم هذا الوجدان.
وظهر بطل عالمي جديد في شخص الرئيس «ويلسون» الذي دعا إلى الصلح على أسس عديدة، كان أحدها «تقرير المصير» للأمم الخاضعة! ومع أن كلًّا من فرنسا وبريطانيا حاولتا تزييف دعوة «ويلسون» فإننا أحسسنا جميعًا في مصر أن هنا فرصة للمطالبة باستقلالنا، بل إننا يجب أن نسارع إلى المطالبة قبل أن تخمد الحماسة التي بعثها «ويلسون».
وقصد «سعد زغلول» مع «عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي» إلى «دار المندوب السامي البريطاني» وطلبوا من الحكومة الإنكليزية الحكم الذاتي لمصر، ولم يطلبوا الاستقلال، اعتقادًا بأن الطلب الأول أيسر على الإنكليز أن يلبوه من الطلب الثاني.
ولكن الشعب الذي عرف بما قام به هؤلاء الثلاثة، قام قومة واحدة في طلب الاستقلال غير قانع بالحكم الذاتي، واضطر «سعد» مع رفيقيه إلى مجاراة الشعب، وأحسوا قوة جديدة باعتمادهم على الشعب: وضرب الإنكليز الشعب والزعماء، ولم يترفعوا عن الجلد والشنق والنفي بلا حساب، وصحيح أن الشعب في فورة الغضب التي استولت عليه عقب القبض على الزعماء؛ كان قد قتل الموظفين الإنكليز العزل النائين عن القاهرة، ولكن مثل هذا العمل مألوف في الثورات! …
وكان من أعظم السمات التي اتسمت بها «ثورة ١٩١٩» هذه أن الفلاحين اشتركوا فيها، فكانت ثورة عامة تجمع بين الباشوات والموظفين الكبار والصغار والفلاحين وسكان المدن …
وكان من أعظم هذه السمات أيضًا اشتراك الأقباط والمسلمين فيها، واتحادهم جبهة واحدة للمطالبة بالجلاء، وكان خطباء المسلمين يخطبون في الكنائس وخطباء الأقباط يخطبون في المساجد، يدعون إلى ذلك الهدف الأسمى المشترك.
وكان من أعظم هذه السمات أيضًا خروج المرأة المصرية من البيت إلى الشارع، ومن الحجاب إلى السفور، وتغير المجتمع المصري، واتجه وجهة غريبة بهذه الظاهرة!
وإذن لم تكن الثورة على الإنكليز ثورة فقط، إذ كانت أيضًا نهضة …
وسلم الإنكليز في ١٩٢٢ بشيء يقارب الحكم الذاتي فصار لنا دستور وبرلمان.
ولكن «العميد البريطاني والملك فؤاد»، كان كلاهما يتربص بنا، فإن الإنكليز كانوا على أمل باسترداد ما سلموا به، وكان فؤاد على ظن بأن ما حصلنا عليه من استقلال إنما هو له وليس للمصريين، وأن البرلمان لعبة سوف يلعب بها مدة ثم يكسرها!
ولم ينخدع الشعب بما سلم به الإنكليز من استقلال أو حكم ذاتي لمصر، فإن الفدائيين الذين وهبوا حياتهم لمصر لم ينقطعوا عن تدبير المؤامرات لقتل الإنكليز! وقتل السردار في ١٩٢٥، وحل البرلمان، وجاء الإنكليز وفؤاد ﺑ «زيور» التركي رئيسًا للوزارة، وانتخب برلمان جديد كان «زيور» يعتقد أنه سوف يؤيده، فلما لم يجد ذلك حله في اليوم الذي عقد فيه.
وليس في أحداث العالم كله حادث يقارب هذا الحادث في امتهان إرادة الشعب المصري! ولم يلق «فؤاد وزيور» التركيان جزاء هذه الجريمة الشنعاء الذي كانا يستحقانه، وهو إعدامهما علنًا في ميدان عابدين! ولكن الإنكليز كانوا لنا بالمرصاد أيضًا، وكانوا لهما حماة مناصرين!
وكان الإنكليز وفؤاد على نية إعدام «الوفد»، وهو الحزب الذي تألف حول «سعد زغلول» منذ بداية الحركة، فألفوا أحزابًا عديدة لمناوأته وتفتيته! ومع الأسف العظيم نقول: إنه وجد مصريون، ساسة وصحفيون، يؤيدون هذه الأحزاب!
وكان يمكن أن تنجح ثورة ١٩١٩، وأن تستحيل إلى نهضة عامة، ولكن الباشوات الذين تزعموها لم يكونوا على وجدان بروح العصر، إذ كانوا هم أنفسهم إقطاعيين! كما أن مناوأة «فؤاد» لهم من ناحية، ومناوأة الإنكليز من ناحية، جعلت الناس الطيبين في «الوفد» عاجزين كل العجز عن الإصلاح!
وكذلك كان الشعب يتباعد عن الوفد سنة بعد أخرى، حتى إنه في ١٩٣٠ عندما اجترأ فؤاد على إلغاء الدستور بمعاونة «إسماعيل صدقي» لم يثر الشعب عليه الثورة التي كان يجب أن يقوم بها! ذلك أن حماسته للدستور كانت قد فترت!
ومع ذلك يجب أن نعترف بأن «الوفد» نجح في كف «فؤاد» ثم «فاروق» عن الطغيان إلى حد بعيد، ولكنه في ١٩٥٠ انتهى إلى أن مطاوعة فاروق أولى من مخالفته، وكان الموعز على هذه الخطة «فؤاد سراج الدين»، ونفر الشعب من الوفد لهذا السبب.
ولو أن «الوفد» كان قد ثبت على المكافحة لاستبداد «فؤاد وفاروق» لما كنا في حاجة إلى ثورة الجيش في ١٩٥٢ …