لما أراد العبيد أن يكونوا بشرًا
ألغي الرق في القرن الماضي، ولم يعد الإنسان سلعة يعرض في السوق، ويفحص عن أسنانه، ويشد جلده، ويجرب في العدو، ويقاس نبضه، ثم يعين ثمنه، كما يفعل بالحيوان!
والفضل في إلغاء الرق يعود إلى ارتقاء المجتمع البشري بتغير اقتصادياته الإنتاجية، وعلى أساس هذا التغير تطورت العواطف البشرية، وارتقت إلى إنسانية جديدة لم يكن يعرفها جدودنا.
يعود الرق في الأصل إلى الحروب، فقد كان الأسرى في العصور السحيقة يقتلون، ولكن وجد أن استغلالهم بالكدِّ في الزراعة، أو الخدمة في أي عمل شاق، أَعْوَدُ على الناس بالكسب من قتلهم، ويبدو من كلمة «إسرائيل» أن معنى الرق قد اشتق من الأسر، فالأسير هو العبد، وإسرائيل تعني «عبد الله» في اللغة العبرية، «وإن يكن هناك رأي آخر يقول بأن المعنى هو «قوة الله»؛ من الأسر أي القوة.»
وكانت الأمم القديمة تعتمد على العبيد باعتبارهم القوة المنتجة في البلاد، وهي القوة التي أصبح مقامها في عصرنا آلات الحديد عند الأمم المتمدينة وأيدي العمال عند الأمم المتخلفة.
- الملأ: أي الأشراف الذين لا يكدحون.
- والمساكين: أي الصناع اليدويين.
- والعبيد: أي الكادحين الأرقاء.
والأغلب أن هذا النظام الاجتماعي كان عامًّا في جميع الأمم القديمة، وكان العبيد يمثلون قوة اقتصادية إنتاجية لا يمكن الاستغناء عنها؛ ولذلك لا نجد أن موسى أو المسيح أو محمدًا كانوا يستنكرون الرق، وهذا على الرغم من أنهم جميعًا كانوا ثائرين على المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها؛ وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا مجتمعًا يحيا بلا رق. بل كذلك كان هذا رأي الفلاسفة الإغريق.
وما نتباهى نحن به من إنسانية قد سمت بنا عن الرضا بالرق، إنما يعود إلى وسائل الإنتاج الجديدة التي جعلت آلات الحديد تعمل وتنتج أكثر مما ينتجه مئات العبيد، وهذه الآلات لم تكن معروفة عند الأمم القديمة التي مارست الرق.
وليس شك أن العبيد قد قاسوا ضروبًا من القسوة من سادتهم، ولكن الأديان عنيت أكبر العناية، في حدود الموقف الاجتماعي للعبيد، بالمحافظة على صحتهم وتخفيف آلامهم.
ولكن يجب ألا نبالغ في مقدار القسوة التي لقيها العبيد في العصور القديمة؛ ذلك لأننا نتكلم عنهم، ونحن على وجدان آخر هو وجدان القرن العشرين الذي عرف الحرية، والإخاء، والمساواة، وحق تقرير المصير، والاشتراكية، وسائر التطورات المذهبية والفلسفية التي تناقض الرق، أما الأمم القديمة فلم تكن تعرف ذلك.
ثم إن العبيد أنفسهم لم يكونوا على وجدان بأنهم ولدوا أحرارًا، ويجب أن يكونوا أحرارًا، ولو أنهم كانوا قد أحسوا هذا الوجدان لآثروا الموت على الرق؛ ذلك أنهم نشئوا في مجتمعات تقول بالرق، وتؤيده، وتعين له نظمًا ترتب أحواله؛ أي إنهم كانوا ذاهلين، لا يدرون حقوقهم البشرية، ولا يرغبون في أن يكونوا بشرًا.
ولكن هذه الحال كانت تنطوي على بعض الشذوذ، فإن هناك العبد الذي كان يتعلم ويحصل من الثقافة على ما يلهمه الإحساس البشري، فيجد الحافز إلى التحرر، وهذا ما نجده مثلًا في كثير من العبيد المثقفين الذين اشتروا حريتهم من سادتهم بالمال مثل ياقوت الرومي.
ثم كان الإسراف في القسوة ينبه العبيد أحيانًا ويذكرهم بأنهم كانوا من البشر ويمكن أن يكونوا منهم … لذلك كانوا يثورون.
وهذا هو ما نجد في حركة سبارتكوس في إيطاليا حوالي سنة ٧٣ قبل الميلاد، فإن الرومانيين كانوا يختصون بعض العبيد بالمصارعة في رومة، وكان العبد الذي يصارع آخر يقتله أمام المتفرجين الذين يهتفون ويصفقون! وكان سبارتكوس واحدًا من هؤلاء، إذ كان عبدًا مقدونيًّا، أنف أن يبقى كالخروف يربى ويسمن للذبح، وكان يعرف أنه سوف يوجد من يقتله في النهاية دون شك! وكان تلميذًا في مدرسة لتعليم المصارعة للعبيد في «بادوا»، ففرَّ مع سبعين عبدًا آخرين كانوا يتعلمون معه، وكانوا خليطًا من الزنج والبيض والسمر، من إسبانيا والسودان وسوريا ومصر ومقدونيا وألمانيا ومراكش، فحضهم على الثورة، واجتمع حوله من رومة وسائر المدن والقرى نحو مائة ألف عبد، وجعلوا من قمة فيزوف البركان المعروف مركزًا لقيادتهم وصاروا يعيثون وينهبون.
ولكن ثورتهم فشلت؛ ذلك أنهم كانوا من أمم متفرقة، ليس لهم لغة مشتركة للتعبير عن أهدافهم، ولم يكونوا قد دُربوا على الحرية والعمل المستقل.
واستطاع الرومانيون أن يهزموهم، وانتقموا منهم بأن قتلوا نحو ٦٠٠٠ صلبوهم على الصلبان التي أقاموها على الطرق العامة، وكان هذا تنكيلًا فظيعًا جعل العبيد راضين بالعبودية ألفي سنة بعد ذلك، ولم يبق من قصة سبارتكوس سوى الذكرى يصبو إليها الأحرار، ويحسون لوعة الحرية المسحوقة عندما يذكرون هذه العاصفة التي اجتاحت إيطاليا، ثم انتهت بالدماء … دماء العبيد.
ولم ينهزم سبارتكوس وقواته من العبيد الثائرين بقوة الجيوش الرومانية، بمقدار ما انهزم بتخاذل العبيد أنفسهم، فإن هؤلاء، مع المسحوقين من الرومانيين الذين كانوا في حال العبيد فقرًا وذلة، لم ينضموا إليه؛ لأنهم نشئوا، كما قلنا، في مناخ خلقي اجتماعي يؤيد الرق، ثم لم يجدوا لغة الثورة وكلماتها الملهمة التي تبعث الشجاعة وتعين التوجيه، فقد كان كل عبد يتساءل: ماذا أفعل إذا صرت حرًّا؟ ثم لا يعرف الجواب!
وفكر سبارتكوس كثيرًا في تحريك العبيد والفقراء والمحرومين، من الرومانيين والفلاحين المطرودين؛ كي يجعل منهم جيشًا يحطم به الدولة الرومانية، ويؤلف دولة جديدة تقام على الحرية ويلغى فيها الرق، ولكنه وجد تبلدًا، بل جمودًا عامًّا من كل هؤلاء إلا القليلين الذين رافقوه منذ ابتداء ثورته وتورطوا معه!
وألف الرومانيون جيشًا لمحاربته، وكان يقوده كراسوس، وهو رجل ثري ليس بالقائد الحربي ولا بالسياسي المحنك، ولكنه ثري فقط، يحس وجدان طبقته، ويلتهب من الغيظ؛ لأن الرق الذي تنبني عليه ثروته سيزول.
وبقي سبارتكوس يحارب وينتصر، ولكن ليس الانتصار الحاسم الذي يقضي على العدو، ومما أضعفه أنه ترجح وتردد بين أن يخرج بالعبيد الذين يؤيدونه إلى خارج إيطاليا، وهناك بين «البرابرة» من الألمان أو الصقالبة يؤسس دولة حرة، وبين البقاء في إيطاليا يحاول إيجاد حكومة حرة، بلا عبيد، للرومانيين.
والرجل الذي يتردد في المغامرات يخسر على الدوام؛ لأن المغامرات موت أو حياة، ولكنها ليست بين بين!
وجمع كراسوس القوات الاقتصادية ضد سبارتكوس، وانجلى الصراع وتحدد بين السادة الأثرياء من ناحية، والعبيد المحرومين من ناحية أخرى.
وحاول سبارتكوس أن يحتل جزيرة صقلية، ويستعدي قراصنة البحر على الرومان، ولكن الرومانيين استعدوا عليه رومانيًّا شريرًا يدعى فريس، كان من السفاحين، فحاربه.
ولم تكن المسيحية قد ظهرت بعد؛ إذ إنها كان يمكن أن يستنبط منها سبارتكوس فلسفة الرحمة التي ربما كانت تزود الثائرين بالكلمات والأفكار عن الإخاء البشري والتراحم والمساواة.
وانطفأت الشعلة التي أضاءها سبارتكوس، وعاد الرق سيرته الأولى في رومة وجميع أنحاء الدولة الرومانية!