عظيم يدعى علي بن أحمد
لا نسمع عن ثورة العبيد بعد ذلك إلا بعد ألف سنة تقريبًا، وقد وقعت هذه الثورة في العراق، فيما بين ٢٥٥ و٢٧٠ هجرية؛ أي في العصر الذي كان أحمد بن طولون يتولى فيه الحكم في مصر.
وكان زعيم هذه الثورة علي بن أحمد … ابن الحسين بن علي، وبقيت ثورة العبيد الزنج نحو خمس عشرة سنة، حاربوا فيها الخليفة العباسي، وانتصروا عليه، وانتصر عليهم، ولكن الغلبة في النهاية كانت له.
وقد اتخذت هذه الثورة لونًا دينيًّا؛ لأن الزعيم كان من العلويين ينتمي إلى علي بن أبي طالب، وكان العلويون يتزوجون من الإماء الزنجيات، ولعل ذلك لفقرهم؛ لأن الأمة البيضاء أغلى ثمنًا من الأمة السوداء، ولذلك أصبحت وجوههم تنزع إلى السواد، ومن هنا وجد علي بن أحمد رابطة عنصرية تربطه بالزنوج.
ولا بد أنه كانت هناك أسباب اقتصادية خلف هذه الحركة، ولكننا نجهلها، وكتب التاريخ تذكر سيرة هذا القائد، ولكنها لا تروي لنا خطبه أو مناقشاته أو المؤلفات التي كتبت في الدفاع عن مذهبه؛ أي تحرير الزنوج، وذلك بالطبع لأنها وجدت فيها جميعها زندقة تجافي الدين الذي يقر الرق.
ولكن يجب ألا ننسى أن علي بن أحمد لجأ إلى الدين كي يبعث هذه الحركة؛ وذلك لأن المجتمع الإسلامي كان مجتمعًا دينيًّا يرأسه رجل دين وهو الخليفة، فالانتقاد عليه يحتاج أيضًا إلى التبرير الديني، فهو لذلك طالبي من سلالة علي بن أبي طالب؛ أي إنه كفء لأن يقف ضد الخليفة، وأن يبرر لنفسه السيادة للمجتمع الإسلامي.
ونقرأ عنه في تاريخ الطبري أنه جمع الزنوج «وقام فيهم خطيبًا ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم ويملكهم الأموال.» أي إنه وعدهم أن يكونوا رؤساء ومالكين، ومعنى هذا إلغاء الرق.
فكيف استطاع أن يصالح بين هذا القول وبين الرق الذي أجازه الدين؟
هذا هو ما يصمت عنه الطبري؛ لأنه يجد أنه لو ذكر الأسباب التي برَّر بها علي بن أحمد هذا القول لتورط في تدوين كلمات كافرة هي أشبه بالدعاية ضد الدين.
ثم يروي لنا الطبري أن علي بن أحمد جمع الموالي؛ أي السادة الذين كانوا يملكون العبيد، وقال لهم: «لقد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان، الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرَّم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم.»
ثم يروي لنا الطبري أيضًا بأنه أمر العبيد أن يضربوا سادتهم بحساب ٥٠٠ شطبة؛ أي جلدة، لكل واحد!
وهذا هو خطؤه؛ لأنه كان يجب عليه إما أن يعفو العفو الكامل عن هؤلاء الموالي؛ أي السادة، حتى يستبقي ولاءهم أو على الأقل حيادهم، وإما أن يقتلهم، ولكنه خلى عنهم بعد أن أنزل بهم الهوان وأحفظهم عليه.
ومما يسترعي النظر أن الطبري قص علينا سيرة علي بن أحمد في نحو مائة صفحة لم يذكر فيها كلمة «ثورة»؛ إذ كان يسميها «فتنة» ولم يحس فيها أي عطف على العبيد الذين شاء قائدهم أن يجعلهم من البشر!
ونجد في خلال المعارك التي نشبت بين الخليفة العباسي وبين الثائرين من الزنوج ما يشبه الحرب العنصرية، فإن الثائرين زنوج سود، والخليفة ينفذ إليهم جيشًا يقوده رميس، وواضح أن هذا الاسم تركي … تركي أبيض، ليس عربيًّا، يحارب عربيًّا أسود ينتمي إلى علي بن أبي طالب!
ويعرض رميس التركي على زعيم الثائرين خمسة دنانير عن كل عبد يسلمه إلى مولاه؛ أي إلى سيده، ولكن علي بن أحمد يرفض هذا العرض. ألم يكتب على رايته إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ؟!
ويروي لنا الطبري لقاءً وقع بين بعض الحجاج وبين علي بن أحمد، الذي كان قد استولى على البصرة وعلى ما يحيط بها من أقاليم كبيرة، فيقول راويًا عنهم: «فلما أتيناه، أمر فبسط له على نشز من الأرض، وقعد، وكان في السفن قوم حجاج أرادوا سلوك طريق البصرة، فناظرهم — أي ناقشهم — بقية يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: «لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردهم إلى سفنهم».»
وقد يتساءل القارئ: لماذا لم ينضم الفقراء والمسحوقون من العامة إلى العبيد؟
والجواب أن الأخلاق التي كانت سائدة وقتئذ هي أخلاق السادة الذين كانوا يعيشون في مجتمع اقتنائي، يقتني أفراده المسكن والمزرعة والعبد والسلعة، فكان رجل العامة يأخذ بهذه القيم وإن لم يطمع في الحصول على هذه المقتنيات، ولذلك كان هو نفسه أيضًا يبرر الرق، بل إن وجود الرق كان يكسبه في دنياه الفقيرة شيئًا من الامتياز، أليس هو حرًّا؟
وفشلت ثورة الزنج، ولكن لا بد أن كثيرًا من العبيد الذين سمعوا بها بعد ذلك كانوا يتنهدون عندما كانوا يذكرونها!