لم يعرف التاريخ أعظم من لنكولن
عرفنا ثورة «سبارتاكوس» العبد المصارع وسائر العبيد في إيطاليا، ثم ثورة العبيد بقيادة «علي بن أحمد» في العراق.
والآن نعرض لثورة أخرى كان يقودها عبد مثقف يدعى «توسان لوفيرتور»، في جزيرة هايتي التي تقع شرق القارة الأمريكية.
ذلك أن هذه الجزيرة كانت مدة الثورة الفرنسية إحدى المستعمرات الفرنسية، فلما هبت الثورة انقسم السكان فيها إلى ملوكيين وجمهوريين، ولقن «توسان لوفيرتور» مبادئ الثورة، ووجد فيها دعوة إلى الحرية تنطوي على إلغاء الرق، فحمل راية الجمهورية في ١٧٩٤، وحرر العبيد في هايتي وقاد جيشًا منهم حارب به الملوكيين، وواصل الحرب إلى سنة ١٨٠٠ حين هزم الملوكيين، وأعلن استقلال هايتي التي أحالها جمهورية حرة للعبيد المحررين.
ولكن «نابليون» الذي نشأ على مبادئ الثورة، كان قد تنكر لها عندما وجد تاجًا وعرشًا وحاشية وبلاطًا وقصورًا وحظايا، فلم يطق ظهور دولة حرة تنهض على أنقاض مستعمرة من العبيد، ولذلك أنفذ أسطولًا وجيشًا إلى هايتي، وحارب «توسان لوفيرتور»، ثم هزمه وألقى القبض عليه وحمله إلى فرنسا.
ولم يبد «نابليون» من النذالة والخسة طيلة حياته قدر ما أبدى في معاملة هذا الإنسان العظيم «توسان لوفيرتور»، فإنه ألقى به في مطبق، وتركه للحشرات والظلام والرطوبة، حتى مات سنة ١٨٠٣!
وأعاد نابليون، وليد الثورة الكبرى، الرق إلى هايتي!
وفيما بين ١٨٠٠ و١٨٥٠ ظهر الرق في أبشع صوره وأشنع وسائله!
ذلك أن العبد كان عند العرب أو الرومان أو المصريين «شخصًا» له اسم، يعيش بين أفراد العائلة، يعمل وهو شاب أو كهل، ثم يبلغ الشيخوخة فيجد الاحترام، بل ربما كان يجد الحظوة.
وكانت للعبيد حقوق منذ أيام حمورابي (حوالي سنة ٢٠٠٠ق.م)، وكانوا يستطيعون شراء حريتهم من سادتهم.
وكان المصري أو العربي يتزوج الأمة فترتفع إلى مستواه بالحب والأمومة لأبنائه، وتحيا حياة الأحرار.
ثم عرف الأمريكيون الرق في الولايات المتحدة وسائر المستعمرات الأوروبية في القارة الجديدة، وصاروا يجلبون العبيد من أفريقيا ويستخدمونهم في زراعة القطن، فكان الأمريكي الذي يملك ألفي فدان أو ثلاثة آلاف يشتري نحو خمسين أو ستين عبدًا، لا يعرف أشخاصهم ولا يعينهم بأسمائهم، إذ كانوا قطيعًا عنده يعملون في الزراعة كما تعمل الماشية سواءً بسواء، وكانت مصلحته، ما دامت قائمة، تدفعه إلى العناية بهم، ولكن إذا سقطت هذه المصلحة، بأن صار العبد هرمًا، فإنه لا يبالي به، بل يتركه في جوعه ومرضه حتى يموت!
وتحرك الضمير البشري لهذه الحال، فألغت إنكلترا الرق في بلادها، ثم ظهر الأبرار من الأمريكيين ودعوا إلى إلغاء الرق.
وكان خلف هذا البر مصلحة اقتصادية عينت هذا الاتجاه!
ذلك أن الشماليين في الولايات المتحدة كانوا صناعيين في الأكثر، زراعيين في الأقل، وكانوا لا يستخدمون العبيد؛ لأن العبد الخادم الذي لم يتعلم ولم يتدرب لا يمكن استغلاله في مصنع آلي يحتاج إلى عمال متعلمين، كما أن الزنوج لم يكونوا على صحة تساعدهم على العيش في الأقاليم الشمالية حيث الثلج والزمهرير؛ إذ هم أبناء القارة السوداء التي لا تعرف غير الحر.
ولذلك وجد الشماليون أن الرق يجب أن يزول من الولايات المتحدة، ووجد الجنوبيون أنهم ينتفعون بالرق، ولذلك استمسكوا به.
ويجب أن ننسى هنا هذا الاختلاف في المصلحة الاقتصادية، وأن نشيد بفضل الشماليين الذين تزعمهم العظيم «أبراهام لنكولن»، هذا العظيم الذي لم تعرف الولايات المتحدة قبله أو بعده من يساويه في الشرف والمجد وجمال النفس وطيبة القلب، بل ليس للأمريكيين وحدهم أن يفخروا به؛ لأنه إنسان عالمي؛ إذ كانت حياته «لحظة في تاريخ الضمير البشري»، فمن حق كل إنسان أن يفخر بأن لنكولن كان إنسانًا مثله، كما أنه من واجب كل إنسان أن يدعو دعوته إلى الحرية والشرف والمجد والطيبة.
وقاد لنكولن الشماليين في حرب دامية مزقت الأرض، وحطمت المدن، وأيتمت الأبناء، وعممت الدمار، ولكنها رفعت الإنسان، بأن ألغت الرق، وأحالت العبيد بشرًا كسائر البشر.
وكانت هذه الحرب في سنة ١٨٦٠، ومنذ تلك السنة كان «إلغاء الرق» رسالة الولايات المتحدة في أنحاء العالم كله، تحارب حكومتها النخاسة وتحرر العبيد أينما وجدتهم.
وإني حين أتأمل وجدان هذا الرجل وهو يقود الثورة البشرية على التقاليد الوحشية، أكاد أعتقد أنه لم يظهر قط إنسان في عظمته، وإنما هو عظيم لأنه كافح بالعقل النير والقلب الطيب في أعظم شأن من شئون البشر، وهو الحرية، بل أكاد أن أقول: إنه أفرج عن البشر وغسل ضمائرهم من عار الرق الذي لوث أسلافهم.
وبإلغاء الرق ارتقى تاريخ الإنسان وسجلت له حقوق جديدة في معاني الحرية.