الثورة على الكهنة
الأديان كلها سواء في الصحة من حيث اعتمادها على الوحي في إيجاد أخلاق جديدة يؤمن بها الشعب كي ينأوا بها عن الرذائل ويمارسوا الفضائل، ولا يمكن مؤمنًا بأحد الأديان الإلهامية أن ينكر، لهذا السبب، صحة الأديان الإلهامية الأخرى؛ لأن الأساس واحد فيها جميعًا، كما أن منطقها في الإقناع واحد، وإذا كان هناك تفاضل بينها فلا يكون هذا من حيث الصحة أو الكذب وإنما من حيث ملاءمة هذه الأخلاق لتخريج الإنسان الصالح أولًا.
وجميع الأديان الإلهامية، جميعها بلا استثناء، نشأت للثورة على أخلاق المجتمع، فهي في صميمها ثورات؛ لأن النبي كان يجد من الفساد واللؤم والقسوة والظلم ما كان يثير في نفسه الغضب والشهامة والكفاح لتغيير هذه الأخلاق إلى ما يناقضها من الصلاح والحب والرحمة والعدل، ولذلك كان المجتمع يضطهده، كما كانت الحكومات التي يؤلفها هذا المجتمع تعارضه وتطارده، ومن هنا كفاح الأنبياء هذا الكفاح الذي يجعل من حياة كل منهم قصيدة عالية في الشرف والشهامة والسمو.
وهذا الكفاح يستمر إلى ما بعد موت النبي بسنين، والقائمون به يتولون — بطبيعة كفاحهم — الزعامة والرياسة للمؤمنين، فإذا انتصروا تولوا الحكومة أيضًا، مباشرة أو مداورة، وعندئذ يستقر الدين ويعود همُّ زعمائه ورؤسائه المحافظة على المبادئ والأسس الجديدة، بعد أن كان همهم للمبادئ والأسس القديمة.
أي إن الدين يستحيل — برجاله الجدد — من الثورة إلى الجمود، ومن الرغبة في التغير والتطور إلى الرغبة في الاستقرار والتأبد.
وتظهر طبقة جديدة من المتفقهين في الدين ينتفعون ويرتزقون منه، وهم يكافحون بذلك كل تغيير في المجتمع أو الحكومة؛ لأن تغيير المبادئ والأسس القائمة يحتاج إلى الرجال الجدد وإلى انتقال السلطة والرزق من طبقة قديمة إلى طبقة جديدة.
ولذلك كان رجال الدين، على الدوام، محافظين، ولا يمكن أن يكون بينهم ثائر، وإذا وجد فإنه يخرج من حظيرتهم أو يعدم، وهذا هو معنى الاضطهاد الديني الذي سفكت دماء الألوف بسببه في جميع الأديان الإلهامية.
ثم إذا وجد رجال الدين من حكوماتهم تأييدًا، أو إذا كانوا هم يتولون الحكم، فإنهم ينساقون في السلطة المطلقة. وكل سلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد فسادًا مطلقًا، وعندئذ يتفشى الفساد إذ لا يجد من يجرؤ على معالجته أو كف رجاله عن الإسراف، ثم يكون الانفجار!
- (١)
تحتاج كل ثورة إلى ظهور طبقة جديدة من الشعب تحتاج إلى تغيير الوضع الاقتصادي؛ لأنه لم يعد ملائمًا للمصلحة القومية أو البشرية العامة.
- (٢)
تحتاج إلى الثقاب الذي يشعل الثورة.
ونجد هاتين القاعدتين واضحتين في ثورة «لوثر» الألماني سنة (١٤٨٣–١٥٤٦) على الكنيسة الكاثوليكية البابوية.
فقد كان هو نفسه كاثوليكيًّا على ولاء أمين للكنيسة الكاثوليكية، وهذه الكنيسة كانت ولا تزال، بوضعها الكنسي، عالمية، وكان هو على ضمير يقظ في الدين، يحس ضرورة الصلاح والرحمة والإخاء بين البشر؛ أي كان مسيحيًّا عميقًا في إيمانه.
ولكن المجتمع الذي كان يعيش فيه كان جديدًا، بالمقارنة إلى مجتمعات القرون الماضية، وكان هو يحس وجدانًا جديدًا يكدر عليه ولاءه للكنيسة الكاثوليكية، فقد رأى اكتشاف القارة الأمريكية وعمره تسع سنوات، وتحقق للعالم أن الأرض كروية، وسمع عن النهضة الإيطالية ودعوتها البشرية، ثم كان يحس بزوغ الوطنية الألمانية التي تناقض السلطة العالمية للكنيسة البابوية، ثم كانت هناك دوافع جديدة من هذه الوطنية تقول بأن يكون لكل شعب لغته دون اللغة اللاتينية العامة، وكان الكتاب المقدس لا يقرأ إلا في اللغة اللاتينية بحيث لم يكن يفهمه عامة الشعب من الألمان والفرنسيين أو الإنكليز، ثم كان للكنيسة من الأوقاف ما كان يبعث الحسد عند أبناء شعبه الألمان.
كان «لوثر» يحس هذه الإحساسات الجديدة غامضة مضطربة في نفسه، ولكنها انفجرت واستضاءت عندما اشتعل الثقاب!
وذلك أن كهنة الكنيسة الكاثوليكية، في سلطتهم المطلقة، التي أدت إلى فساد مطلق، كانوا يبيعون الغفرانات؛ أي إن مرتكبي الخطايا يستطيعون أن يحصلوا على غفرانات لها، فلا يحاسبون يوم القيامة عنها، إذا أدوا مقدارًا من المال يتلاءم مع خطورة الخطيئة وقدرة الخاطئ! وكان «الكاهن» يهبط على المدينة أو القرية ويجمع ما استطاع مما يبيع من غفرانات!
ورأى «لوثر» هذا الكاهن «جون تيتزل» يهبط على مدينة «وتنبرج» ويبيع هذه الغفرانات، فثار وحض الألمان على أن لا يشتروا هذه الغفرانات، ثم أعلن عن ٩٩ نقطة يخالف فيها الكنيسة الكاثوليكية، وذلك في سنة ١٥١٧.
وكان الشعب الألماني معه في هذه الثورة، ولكن حكام الشعب كانوا ضده.
وترجم «لوثر» الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية، وصار في مستطاع الفلاحين والكناسين والحدادين والخبازين أن يقرءوا الكتاب المقدس ويعرفوا دينهم بلغتهم، وكانوا قبل ذلك على جهل إلزامي به؛ لأنه كان مكتوبًا بغير لغتهم.
وبعد أن كان «لوثر» راهبًا جحد مجد الرهبنة وتزوج!
واستطارت هذه الثورة الدينية من ألمانيا إلى جميع الأقطار الأوروبية، وتحرر الضمير البشري من سلطة الكهنة، وكان لهذا كله صداه في حرية الفكر في ميادين أخرى غير الدين!
وانعكس هذا الصدى نفسه على الكنيسة الكاثوليكية التي رمَّت ما فسد فيها وزمت ما انفلت، وظهر فيها مصلحون عرفوا الأخطاء الماضية فأصلحوا وجددوا، وبذلك وقف تيار الثورة عليها.
ولكن يجب ألا ننخدع فنرى في «لوثر» مصلحًا ديموقراطيًّا، فإن كلمة «الديمقراطية» لم تكن قد وجدت بعد، ولذلك لم تكن فكرتها قد تسللت إلى العقول، حتى إنه عندما ثار الفلاحون على سادتهم في ألمانيا حضَّ على قتلهم …
وبهذا الحض على القتل أثبت أنه مصلح ديني فقط، لم يطمح إلى أن يكون مصلحًا اجتماعيًّا.