مقدمة

تختلف هزيمة ألمانيا عام ١٩٤٥م عن هزيمتها في عام ١٩١٨م اختلافًا بيِّنًا من كل الأوجه تقريبًا، وأبرز وجه للاختلاف يُهمُّنا ونحن نُمهِّد للحديث عن «زيارة السيدة العجوز» وصاحبها، هو إرادة العصر الذي تلا الانكسار مباشرة؛ فقد تبع عام ١٩١٨م اتساع لنشاط المدرسة التعبيرية Expressionismus، وإيمان بعصر جديد ولغة جديدة، إيمان بضرورة التحرر من التقاليد البالية، إيمان ﺑ «الإنسان الجديد». وإنْ كنَّا لا ننكر أن الفكر في تلك الآونة خالجته نزعات ما بعد الحروب من الخوف والتشاؤم والاستخفاف، ولكن الإيمان بالإنسان الجديد في عصر جديد تمكَّن من الجيل وأصبح سِمة العصر. أمَّا هزيمة ١٩٤٥م فقد أعقبها لا إيمان بقيم جديدة — إن صح أن نُعبِّر هكذا — أعقبها تصدُّع الكيان السياسي والتاريخي والاقتصادي والأخلاقي، واعتقد الإنسان الألماني بعدم جدوى الإنتاج والإبداع بعامة، والإنتاج والإبداع الفني الأدبي بخاصة؛ إذ إن نهاية العالم قد حلَّت أو هي توشك أن تحل. وبالفعل لم يكن هناك أدب اللهم إلا ما ارتد إلى ألمانيا من أدب مَنْ كانوا قد هجروها في عصر الرايخ الثالث.

ولنتناول معًا مسرحية «في الخارج أمام الباب» لفولفجانج بورشرت (وُلِد عام ١٩٢١م، ومات عام ١٩٤٧م)، تلك التي ألَّفها عام ١٩٤٦م في الخريف، وكتب تحت عنوانها: «قطعة لا يريد مسرح أن يُمثِّلها، ولا جمهور أن يشهدها.» يحكي عن رجل من كثيرين غابوا عن ألمانيا وطالت غيبتهم، فلمَّا رجعوا خاوية بطونهم، حافية أقدامهم إلى دُورهم، تبيَّنوا أنهم لم يرجعوا إلى دُورٍ لهم؛ لأن دُورهم لم يعد لها وجود، وأصبح مأواهم هناك «في الخارج أمام الباب»، هناك في الخارج أمام الباب كانت ألمانيا، كان وطنهم في الليل الدامس تحت المطر المنهمر، على قارعة الطريق. وقبل أن يبدأ المشهد الأول من هذه المسرحية، يعرض المؤلف مقدمة فيها رجل عجوز يبكي ويتحدَّث مع الحانوتي ومع الموت. أمَّا الرجل العجوز الباكي، فيُفصح عن شخصيته قائلًا: أنا الرب الذي لم يعد يؤمن به أحد. ويقول عن سبب بكائه: «لأني لا أقوى على تغيير الحال. إنَّهم يقتلون أنفسهم بالرصاص. إنَّهم يشنقون أنفسهم. إنَّهم يُغرِقون أنفسهم. إنَّهم ينتحرون، اليوم مائة، غدًا مائة ألف. وأنا، أنا لا أقوى على تغيير شيء.» ثمَّ يتكلَّم الرب مع الموت على هذا النحو: «أنت الرب الجديد. بك يؤمنون، وإياك يخشون. أنت الرب الصمد. لا يُنكرك أحد، ولا يسبُّك أحد.»

ثم بدأ الأدب، فظهرت في ميونيخ جريدة أمريكية باللغة الألمانية اسمها «الصحيفة الجديدة Neue Zeitung» كتب فيها نفر من الألمان، نذكر منهم إريش كستنر Erich Kâstner، وأخرج الفرنسيون مجلة بالألمانية Lancelot، وأنشأ دوبلين Dôblin مجلة أسماها «الباب الذهبي Das goldene Tor»، وأعقبه هانس بيشكه Hans Paeschke، ويواخيم موراس  J. Moras فأسسا مجلة «المركور، مجلة ألمانية للفكر الأوروبي» التي ظهرت أول الأمر في بادن بادن، ثم انتقلت إلى ميونيخ. كانت هذه المجلات والجرائد تُعنى بالسياسة وأمورها، وتهتم إلى جانب ذلك بالأدب، خاصة ما كان منه عالميًّا، ثم ظهرت طبعات شعبية من الروايات العالمية المترجمة، كانت في أول أمرها أقرب من ناحية إخراجها إلى المجلات، ثم ما لبثت أن اتَّخذت شكل «كتب الجيب». وفي عام ١٩٤٦م أخرج ألفريد أندرش Alfred Andersch، وهانس فرنر رشتر Richter مجلة «النداء Ruf»، غلب عليها الطابع السياسي، على نحو لم يتفق وسياسة السلطات الأمريكية فأوقفتها.
فلمَّا أُوقِفت مجلة «النداء» اجتمعت في عام ١٩٤٧م في دار الأديبة إلزه شنايدر-لانجيل Ilse Schneider-Iangyel في ألجوى جماعة من الأدباء والصحفيين وأرادوا أن يُخرجوا مجلة جديدة باسم «العقرب Der Skorpion» بدل النداء الموقفة، لكن هانس فرنر رشتر أخبر المجتمعين بأنَّ المجلة المقترحة لن يُسمح بخروجها، فقرَّرت الجماعة التي أُطلق عليها «جماعة ٤٧» نسبة إلى عام اجتماعها، أن تعقد كل عام اجتماعًا يُطالع فيه الأدباء ما يُنشئون من أدب، ويُسمَح لمن يشاء أن ينقده كما يريد. كانت الجماعة في أول أمرها تضم أسماءً، منها:
  • هانس فرنر رشتر

  • ألفريد أندرش

  • هاينس ألريش

  • فالتر كولبنهوف

  • هاينتس فريدريش

  • أرنست كرويدر

  • نيكولاوس زومبرت

وفي الأعوام التالية، برزت أسماء أعضاء جُدد، نذكر منهم:

  • إلزه أيشنجر

  • إنجبورج باخمان

  • فالترينز

  • هاينرش بل

  • أرنست شنابل

  • زيجفريد لينتس

  • أوفه يونزن

  • هانس ماجنوس إننتسنسبرجر

  • جوتنر جراس

وكان الاجتماع يستمر عدة أيام، ويُسمح للمشترك بساعة يتلو فيها من أدبه المطبوع أو غير المطبوع ما يختاره، ثم ينقده الحاضرون بما يلوح لهم. وبمرور الزمن تكوَّنت فئة من النقَّاد المتخصصين أمثال فالترينز، ووُجِّهت الدعوة إلى الصحفيين، والناشرين، وأساتذة الجامعات لحضور الاجتماعات. وفي عام ١٩٥٠م كوَّن لفيف من الناشرين جائزة أسموها «جائزة جماعة ٤٧» مُنحت في الفترة من ١٩٥٠م إلى ١٩٥٧م إلى جونتر أيش، وهاينرش بل، وإلزه أيشنجر، وإنجبورج باخمان، ومريين، وفالزر، وجونتر جراس.

وقد عرضنا لهذه الجماعة بشيءٍ من التفصيل؛ لنُبيِّن كيف خرجت من نشاطها وتوجيهها أعمال الأدب الألماني المعاصر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أنواع الأدب الغنائي، والمقالة، والرواية، والقصة. واكتسب طائفة منها أهمية كبيرة في خارج ألمانيا، وخاصة أعمال «هاينرش بل» و«جونتر جراس» و«زيجفريد لينتس».

أمَّا المسرح فأمره يختلف؛ لم تتكوَّن من أجله جماعة مثل جماعة ٤٧، ولم يتَّجه إليه من جماعة ٤٧ إلا نفر قليل في الفترة الأخيرة (مثلًا زيجفريد لينتس في مسرحيته المشهورة «وقت الأبرياء»). ظلَّ المسرح الألماني إذن يعيش على مسرحياته القديمة ذات القدم الراسخ، من أعمال جوته، وشيللر، ولسنج، وكلايست، وعلى القليل الجديد، مثل «في الخارج أمام الباب» التي مُثِّلت في هامبورج صبيحة وفاة صاحبها، ولقيت نجاحًا هائلًا، واحتلَّت مسارح ألمانيا كلها في وقتٍ وجيز، ثم على «المسرحيات المستوردة» في أغلب الأحيان، أو لِنَقُل «المسرحيات المصدَّرَة.» فإنَّ دول الاحتلال كانت تفرض على المسارح الألمانية مسرحياتها التي كانت تعتقد أنَّها تُمثِّل ثقافتها. فمُثِّلت مسرحيات لأونيل؛ مثل وراء الأفق Beyond the Horizon والقرد الكثيف الشعر The Hairy Ape، ثم عفى عليها النسيان، ومُثِّلت مسرحيات لوايدر، وميللر، وويليام، فثبتت أقدامها، وعمَّ أثرها على نحو عميق. كذلك مُثِّلت مسرحيات لكُتاب فرنسيين مثل: كلوديل، وجيرودو، وأنوي، ومونترلان، وسارتر.

وطال إحجام الألمان عن المسرح حتى ظهر قطبان سويسريَّان كبيران، فأنشآ للمسرح الألماني (بالمعنى الواسع لكلمة ألماني) مسرحيات جديدة أصيلة، ما لبثت أن اجتازت الحدود الألمانية إلى الدنيا كلها؛ ماكس فريش، وفريدريش دورينمات.

أمَّا ماكس فريش Max Frisch فقد وُلِد في مدينة زيوريخ في ١٥ مايو ١٩١١م، ودرس آداب اللغة الألمانية، حتى كان عام ١٩٣٢م فانقطع عن الدرس واحترف الصحافة، وتنقَّل من أجلها بين البلقان، وتركيا، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، واليونان، وإيطاليا. ثمَّ تحوَّل عن الصحافة إلى فن العمارة وهندسة المباني، وأصبح مهندسًا معماريًّا ناجحًا. وانتهى به المطاف إلى الأدب بفنونه المتعددة؛ من مقالات وقصص إلى روايات ومسرحيات، فأبدع فيها جميعًا إبداعًا تعدَّت شهرته البلاد الناطقة بالألمانية إلى بلاد الدنيا البلد بعد الآخر. وأول ما لفت أنظار الألمان إليه مسرحيته «ها هم يعودون إلى الغناء» Nun singen sie wieder بعد الحرب العالمية الثانية بقليل؛ إذ وجدوا فيها صوتًا ألمانيًّا يدَوِّي قويًّا في الفضاء بأشياء تجيش في صدورهم ولا يَقْدرون — وقد انكسروا في الحرب — أن يكسوها كلامًا، ويُنشئوا منها خلقًا آخر. وتتابعت أعماله تؤكد زعامته، نذكر منها:
  • «فلمَّا انتهت الحرب» ١٩٤٨م

  • «سور الصين» ١٩٤٦م و١٩٥٥م

  • «جراف أودرلاند» ١٩٥١م

  • «دون جوان أو حب الهندسة» ١٩٥٢م

ونُشير بصفة خاصة إلى يومياته التي اشتهر بها:

  • «أوراق من جوال الخبز» ١٩٤٠م

  • «يوميات مع مارينون» ١٩٤٧م

  • «يوميات» ١٩٤٦م–١٩٤٩م

وأمَّا فريدريش دورينمات Friedrich Dürrenmatt فقد وُلِد في ٥ يناير عام ١٩٢١م؛ أي بعد مولد ماكس فريش بنحو عشر سنوات. وُلِد في كونولفينجن Konolfingen من أعمال برن بسويسرا، لأب راعٍ بروتستانتي، ربما تمنَّى أن يُصبح ابنه يومًا خلفه في مهنته، لكن ابنه اتجه وجهة كثيرًا ما نلحظها في أبناء الرعاة البروتستانتيين، وتتلخص في العزوف عن الدراسات اللاهوتية، والإبداع في ألوان قد تتعارض مع اللاهوت تعارضًا تامًّا. وربما كفانا أن نشير إلى أسماء لسنج، ونيتشه. بعد أن أتمَّ فريدريش دورينمات دراسته الثانوية في برن، درس الفلسفة والأدب واللاهوت في جامعَتَي برن وزيوريخ. واحترف الخط والرسم في أول الأمر حتى عام ١٩٤٠م، فكتب أولى محاولاته المسرحية قطعة لم يلبث أن أنكرها إنكارًا، فعمَد إلى النثر، وأخرج مجموعة من القصص القصيرة. وفي عام ١٩٤٣م أنشأ كوميديا لم تُطبع ولم تُمثَّل، وإنَّما نعرف عنها القليل مما ذكره بعض النقَّاد، وخاصة ما كتبه هانس بنتسيجر Hans Bänziger في كتابه عن ماكس فريش، وفريدريش دورينمات الذي أخرجه إلى الناس في عام ١٩٦٠م. في مقدمة هذه الكوميديا تحدَّث دورينمات عن هدفه كما يجول في مخيلته، فقال إنَّه «صياغة المكان في أدب يتجه ناحية الكلمة.» وفسَّر تلك العبارة الصعبة قائلًا إنَّ كل شيء عند الإغريق كان له أهمية؛ لأنَّ كل شيء عند الإغريق كان محددًا في المكان، أمَّا الآن فإنَّنا «نعيش في اللامكان يُحيط بنا ما لا جوهر له ولا معنى. هناك الدولة، والدين، والفن، ولكنَّها غير مرتبطة معًا بصلة؛ بل هي أشياء مجردة طغى عليها التكنيك وطغت عليها صورة ما لا جوهر له.» لهذا كان علينا أن «نخلق مكانًا.» نخلقه بالعقل؛ حتى تعود الكلمة فتُعبِّر عن الكل وقد اندمج وأصبح شيئًا واحدًا متحدًا … فإذا لم نفعل ذلك حطَّمنا أنفسنا؛ لأنَّ الأشياء ستتجه إلى داخلها وتتحوَّل إلى التحطيم. في هذه القطعة المبكرة يُعالج دورينمات الفكرة في غلظة وعنف كأنَّما هو في معركة يصول ويجول. وتتلخص فكرة تلك الكوميديا في أنَّ آلة هائلة ذات قدرة تحطيمية خطيرة جبَّارة يتم صنعها في بعض المصانع، فيقول آدم لصانعها: «لا بد أن ترد هذه القوة إلى الأقوى، والأقوى هو الله.» لكن آدم يتلقَّى حق التصرف فيها، ثم يتدخَّل ثالث في الأمر فيَحدث انفجار مُروِّع يأتي على كل شيء.

ودورينمات على حق في إنكاره هذه القطعة؛ لأنَّها غير ناضجة، ولكن النقَّاد بلا شك على حق في الاهتمام بهذه المحاولة الأولى؛ لأنَّها تحتوي على عنصر هام، يكاد يلازم كل ما أنشأ دورينمات بعد ذلك، على نحو ما سنوضح فيما بعد.

ثم أنشأ في عام ١٩٤٦م مسرحية «مكتوب Es steht geschrieben» هي أول عمل عبقري له بمعنى الكلمة، ثم ألَّف في عام ١٩٤٧م مسرحية الأعمى Der Blinde، وفي عام ١٩٤٩م مسرحية رومولوس الأكبر Romulus der Grose التي ثبَّتت أقدامه بحق في زيوريخ. وفي عام ١٩٥٢م أخرج مسرحية زواج السيد مسيسيبي Die Ehe des Herrn Mississippi، تلك المسرحية التي رفعت اسمه إلى قمة الشهرة في ألمانيا. وفي عام ١٩٥٦م أبدع مسرحية «زيارة السيدة العجوز»، التي تُعتبر بحق أعظم أعماله كلها على الإطلاق، وتُعتبر من أعظم أعمال الأدب الألماني، بل من أعظم ما أنتج العقل البشري في ميدان المسرحية عامة. ومن الطبيعي أن تَلقى هذه القطعة نجاحًا فريدًا، وأن تُمثَّل على أشهر مسارح العالم من نيويورك إلى موسكو. وفي عام ١٩٦٢م ظهرت مسرحيته علماء الطبيعة Die Physiker التي تُعتبر تحولًا مفاجئًا في إنتاج دورينمات إلى الكلاسيكية. وقد أسماها دورينمات نفسه «Mein erstes Klassisches Stück»؛ أي أُولى مسرحياتي الكلاسيكية؛ كلاسيكية لأنَّه التزم فيها وحدة المكان ووحدة الزمان، واقتصد في الشخصيات، وأوجز في الكلام، وجعل الحدث يملأ مدَّته بالضبط، لا يزيد عنها ولا ينقص، وجعله يدور في مكان واحد يشمله كما يشمل الجلد اللحم.
وعلماء الطبيعة تعالج موضوعًا بوليسيًّا، موضوع جريمة Kriminalstoff، وهو موضوع مُحبب إلى نفس دورينمات، يغلب على أعماله على نحو واضح، وقد أنشأ عددًا من الروايات البوليسية. نذكر منها:
  • القضية.

  • القاضي وجلاده.

يُعتبر دورينمات أكثر رجال المسرح الناطقين بالألمانية موهبة، يكاد النقَّاد يُجمعون على ذلك إجماعًا. ومن خصائص موهبته أنَّها تَمد جذورها إلى قاعدة الثقافة الإنسانية، فتسبر غورها وتقوم بجذعها وفروعها وأوراقها وسط الحاضر إلى آخر ما تطور إليه من علوم وضعية أبرزها الطبيعة النووية. ونحن في معرض الكشف عن أصول دورينمات؛ نقف أول ما نقف عند قوله: «إنني أقرأ قليلًا جدًّا، لا أقرأ من الإنتاج الحديث غير ما كان متعلقًا بالعلوم الطبيعية، وأعرف الكلاسيكيين طبعًا.» ولا يعنينا في هذا المقام أن نبحث في مدى صدق دورينمات في وصفه لكمية ما يقرأ بقليل جدًّا، ولا البحث عن المعيار الذي قاس عليه هذه الكمية فوجدها على نحو ما وجد، وإنَّما يهمنا التأكيد على نواحٍ جوهرية تُعيننا على إجادة فهمه:
  • أولًا: أنَّه يقرأ في العلوم الطبيعية بشغف وخاصة في الطبيعة النووية، وهذا يوضِّح فكرته عن القنبلة الذرية — القنبلة الذرية التي يكاد يُشير إليها في كل مسرحياته — ودورينمات يقول في تحديد عالمنا الحاضر: «لقد انساق عالمنا إلى المهزلة كما انساق إلى القنبلة الذرية.» فهو إذن يرى أنَّ عالمنا الحاضر يُحدده أمران يراهما مترابِطَين؛ القنبلة الذرية والمهزلة. في عام ١٩٥٥م ألقى دورينمات محاضرة عن «مشاكل المسرح» تساءل فيها عن إمكانية تمثيل العالم الحالي على المسرح، ثم أجاب بقوله: «لقد فقدَت الدولة شكلها، وليس من الممكن تمثيلها إلا في صورة إحصائيات مثل علم الفيزياء الذي لا يُمكنه أن يُعبِّر عن الدنيا إلا بمعادلات رياضية. والظاهر أنَّ القوة في عصرنا لن تكون صورة إلا عندما تنفجر في قنبلة ذرية … والقنبلة الذرية لم يعد في الإمكان تصويرها من يوم تمكَّن الإنسان من صناعتها.» ثم يعود في عام ١٩٥٦م إلى القنبلة الذرية في قصته العطل Die Panne رافعًا إيَّاها إلى درجة إله العصر الحاضر أو بديله، يقول: «لم يعُد يخيف الناس إله ولا عدالة ولا قدر … وإنَّما يُخيف الناس حوادث المواصلات، تكَسُّر الجسور نتيجة خطأ في بناء مصانع للقنابل الذرية.» وفي زيارة السيدة العجوز تنشد الجوقة:
    «الفظائع كثيرة؛
    زلازل هائلة،
    جبال تنفث النيران، فيضانات البحور،
    حروب، دبابات خلال حقول القمح
    لها صليل،
    الفطر الشمسي للقنبلة الذرية.»
    أمَّا «علماء الطبيعة» فهي تتويج لاهتمام دورينمات بالطبيعة النووية. أسمع أينشتاين فيها يقول عند الختام:

    «أنا الذي صُغْت هذه المعادلة: الطاقة = كتلة المادة المتحوِّلة × مربع سرعة الضوء، تلك المعادلة التي كانت بمثابة مفتاح المادة إلى طاقة. أنا أحب الإنسانية، وأحب كماني، لكنَّهم صنعوا القنبلة الذرية بناءً على توصيتي.»

  • ثانيًا: أنَّه يعرِف الكلاسيكيين، وخاصة الإغريق معرفة تامة، ويؤكِّد ذلك بكلمة طبعًا. والظاهر أنَّ فكرته عن تفكُّك العالم الحاضر تفكُّكًا يحول في نظره دون التمكن من تجسيمه في عمل فني متكامل؛ مأخوذة من الإغريق على نحو تصوير نيتشه في كتابه «تولد التراجيديا من روح الموسيقى». وقد سبقت الإشارة إلى تأكيد دورينمات على أنَّ كل شيء عند الإغريق كان مُحدد المكان، وأنَّ كل شيء كان داخلًا في كل متكامل ينتظمه، ويكفي الإشارة إلى الفن عند الإغريق، لم يكن هناك فن كلام منفصل، وفن رقص منفصل، وفن غناء منفصل، وإنَّما كان هناك عمل فني متكامل يضم الفنون جميعًا. وشخصية المعلم في «زيارة السيدة العجوز»، هي الجسر الموصل بين يوم المحدثين وأمس الإغريق، المعلم لا يكف عن رد حاضره الأوروبي إلى ماضيه الكلاسيكي، الكلاسيكي الإغريقي أولًا، ثم الكلاسيكي العام ثانيًا. ولننظر إلى منظر «الرسول الذهبي» والعمدة والمعلم يجلسان فيه إلى مائدة، ويحتسيان الخمر ويتحدثان، ولنسمع حديثهما، وبخاصة حديث المعلم؛ لنتأكَّد من ذلك الجسر الرابط بين القديم والحديث:
    العمدة : «حقائب ثم حقائب، تِلال من الحقائب، وقبل ذلك حُمل قفص به نمر إلى فوق، حيوان أسود متوحش.
    المعلم : وأمَّا النعش فقد أمرت بوضعه في حجرة خاصة. عجيب.
    العمدة : شهيرات سيدات العالم لهن هواياتهن.
    المعلم : يبدو أنَّها تُزمع البقاء هنا مدة أطول.
    العمدة : خيرًا. إل متمكن منها. ناداها قُطيطتي البرِّيَّة وساحرتي الصغيرة. سوف يغرف منها ملايين. في صحتها يا معلم. في صحة إنقاذ كلير تساخاناسيان مؤسسة بوكمان.
    المعلم : ومصانع فاجنر.
    العمدة : وساحة الكوخ المشمس. فإنَّها إن نهضت نهض كل شيء؛ البلدية، المدرسة الثانوية، الرخاء عامة.

    (يقرعان كأسيهما.)

    المعلم : صحَّحت تمرينات تلاميذ جوللين في اللغة اللاتينية واللغة الإغريقية منذ أكثر من عَقدَين من السنين، فلم أعرف معنى الرجفة، يا سيادة العمدة، إلا منذ ساعة. مرعبًا كان نزول السيدة العجوز من القطار بملابسها السوداء. تهيأت لي كبارسة، كربَّة القدر الإغريقية، كان الأحرى أن تُسمى كلوتو لا كلير؛ فإنَّ هيئتها تبعث على الاعتقاد بأنَّ في مقدورها أن تغزل خيوط حياة البشر.

    (الشرطي يأتي، يُعلِّق خوذته على مشجب.)

    العمدة : اجلس إلينا، يا عسكري.

    (الشرطي يجلس إليهما.)

    الشرطي : ليس العمل في هذا العش متعة، لكن الخراب بدأ يزدهر. كنتُ لتوي مع صاحبة المليارات والبدَّال إل في شونة بيتر. منظر مؤثر. كان الاثنان خاشعين كأنَّهما في كنيسة، فتحرَّجت من ملازمتهما، وابتعدت لَما اتَّجهَا إلى غابة كونراد سفايل. مَوكِب بمعنى الكلمة، إلى الأمام الهودج، إلى جانبه إل، وإلى الخلف مدير الأعمال وزوجها السابع حاملًا الشص.
    المعلم : استهلاك الرجال. لايس أخرى.
    الشرطي : وثمة رجلان قصيران سمينان، لا يعلم أحد أمرهما.
    المعلم : نزلا من ملكوت الموت.
    العمدة : أنا مندهش، عمَّا يبحثان في غابة كونراد سفايل.
    الشرطي : يبحثان عمَّا بحثَا عنه في شونة بيتر، يا عمدة. إنَّهما يرجعان إلى الأماكن التي التهبت فيها عاطفتهم، إن صحَّ هذا التعبير.
    المعلم : لهبًا متأججًا. على المرء أن يعود بذاكرته إلى شيكسبير، روميو وجولييت. سادتي، لقد اهتزَّ كياني اهتزازًا. لأول مرة أحس في جوللين بالعظمة القديمة.
    العمدة : قبل كل شيء، نشرب الآن نخب حبيبنا الطيب إل الذي يبذل كل جهد ممكن في سبيل تحسين حالنا. سادتي، في صحة أحب مواطن في البلدة، في صحة خَلَفي.»

    المعلم يرد الخبرات الحديثة التي تمر عليه إلى أصولها القديمة «لأول مرة أحس في جوللين بالعظمة القديمة.» فهو عندما يرى السيدة العجوز نازلة من القطار مرتدية ملابس سوداء تخطو نحو أهل جوللين الذين ينتظرون منها إنقاذهم من الخراب المادي الذي حلَّ بهم؛ يربط بينها وبين ربَّات القدر عند الإغريق، حتى اسمها «كلير» يتحوَّر في ذهنه منسجمًا مع الصورة الجديدة إلى «كلوتر». وفي معرض الحديث عن الرجلين السمينين القصيرين يقول المعلم إنَّهما «نزلا من ملكوت الموت.»، من الأركوس عند الرومان والإغريق، وهو ملكوت الموت أو العالم السفلي عندهم يرويه نهران «ستيكس» و«آخيرون» ويعثو فيه كلب جهنمي يحرسه سيربيروس، وينقسم الملكوت إلى دار للمنعَّمِين ودار للمعلونِين.

  • ثالثًا: دورينمات يعرف المحدَثِين حق المعرفة، ويحمل في إنتاجه العبقري آثار عبقريتهم، وإن كان قد تجاوز في تصريحه المشار إليه الحديث عنهم، ولكنَّه أشار إلى كثير منهم في تعليقاته ومحاضراته ومقالاته. تأثَّر دورينمات ببرتولت برشت الكاتب المسرحي الألماني الشيوعي المعروف، وتأثَّر بأديب إيطاليا الأشهر لويجي بيراندللو، وتأثَّر خاصة بثورتنون وايلدر وبمسرحيته بلدتنا Our Town التي مُثِّلت أول ما مُثِّلت على مسرح زيوريخ Das Züricher Schauspiel haus في عام ١٩٣٩م، وكان دورينمات في الثامنة عشرة من عمره، تلك المسرحية التي حفرت في أذهان الناس الصورة الحاسمة لذروة ما يُمكن تحقيقه في عمل مسرحي حديث. هذا بالإضافة إلى كثير من المؤلفين التأثيريين والطبيعيين المتأخرين. كذلك نذكر في هذا المقام بيكيت ومسرحيته En attendant Godot، وديلان توماس ومسرحيته Under Milkwood.

تدور أحداث «زيارة السيدة العجوز» في بلدة صغيرة اسمها جوللين، تقع في مكان ما غير مُحدَّد، وراء الحدود الألمانية السويسرية في الوقت الحاضر، وتبدأ بمظاهر استعداد البلدة لاستقبال السيدة الثريَّة الطاعنة في السن «كلير تساخاناسيان»، صاحبة الملايين العديدة، ابنة البلدة، وكان اسمها قبل أن تغادرها كلارا فيشر، نسبة إلى أبيها الذي كان يعمل بَنَّاءً رقيق الحال … تأتي الآن لتزور البلدة بعد غيبة طويلة دامت عشرات السنين، أموالها لا تُحصى، أزواجها كثيرون كثرة تجعلها تخلط بينهم خلطًا. أمَّا زوجها الأول فصاحب آبار البترول الأرمني «تساخاناسيان» الذي ورثت عنه ثروته الطائلة، وورثت عنه كثيرًا من الحيل وأفانين تحقيق المآرب. ثم لَمَّا تُوفِّي ظلَّت تتزوج وتُطلَّق، متنقِّلة بين أزواج يُمثِّلون المهن المختلفة، والطبقات المختلفة، والأعمار المختلفة، كلهم من ذوي الشهرة الواسعة، حتى انتهت عند بدء أحداث المسرحية إلى الزوج رقم ٧.

أمَّا جوللين فقد أصابها من الخراب المفاجئ ما أصاب كلارا من الثراء المفاجئ، انتهى حالها إلى بؤس لا يوصف، لا يجد الناس معه ما يأكلون أو يلبسون أو يعملون، كل المصانع أقفلت أبوابها، كل المؤسسات الاقتصادية تحطَّمت، فلمَّا سمع أهل البلدة بقدوم بنت بلدهم كلارا فيشر صاحبة المليارات لزيارة بلدهم؛ خفق قلبهم، ووضعوا أملهم كله في هبة تهبها إياهم، أو مساعدة تُساعدهم بها، فتخرجهم بها من الخراب إلى الرخاء. العمدة يقف عند محطة السكك الحديدية، يجمع أعيان البلدة، إن صح تسميتهم بهذا الاسم؛ فقد حلَّ بهم الفقر، ولم يعد مظهرهم الرث يوحي بمكانة رفيعة. ويتفاهمون والعمدة في إعداد استقبال مُؤثِّر لصاحبة الملايين عندما تطأ أرض مسقط رأسها، حتى يرق قلبها، فتدس يدها في كنزها وتغرف لهم منه غرفًا. واهتمام أهل البلدة مركَّز على البَدَّال «إل» الذي كان صديق كلارا أيام صباها في البلدة، وكان الحب يربط بين قلبيهما. وإل رجل في الستين من عمره تقريبًا، يروي كيف كانت كليري صبية رائعة الجمال، عنيفة الطبع، عاطفية الميول، ويتحسَّر على الأيام التي فرَّقت بينهما بعد حب عنيف. ولا يكاد يصل إلى تمام كلامه حتى تظهر كلير تساخاناسيان نازلة من القطار السريع الذي لم يحدث أن توقَّف في جوللين، تلك المحطة الصغيرة الخربة؛ فقد جذبت كلير تساخاناسيان، صاحبة الملايين، فرملة الطوارئ؛ حيث أرادت أن تنزل، وشرع ينزل وراءها مَن معها؛ زوجها وحاشيتها وأربعة من ماضِغِي اللادن كانوا من المجرمين العُتاة ينتظرون الموت في سجن سنج سنج، فأخرجتهم بمالها، وكلَّفتهم بحَمل هودجها الذي يحلو لها أن تتنقَّل فوقه، واثنان من الخِصْيَان أعميان، يفرحان فرح الأطفال الصغار، ويكرران الكلام آليًّا مرتين.

ويضطرب أهل البلدة اضطرابًا لوصولها قبل الموعد الذي قدروه لوصولها، ثم يُجمِعون أمرهم قدر الاستطاعة، ويجتهدون في الترحيب بها أمام المحطة، وفي فندق «الرسول الذهبي»، حيث يُلقي العمدة خطبة مطوَّلة يُضمِّنها تصويرًا مبالَغًا فيه، كله نفاق وتزلُّف، يستميل بها صاحبة الملايين، لكنَّها تقطع الكلام، وتعلن باختصار أنَّها مستعدة لتقديم مليار كامل هدية إلى البلدة بشرط أن تُمكَّن من الحصول على العدل، يعني بشرط أن يوجد بين القوم من يقتل التاجر «إل». ويُدهَش أهل البلدة؛ فقد كانت كلير تساخاناسيان طول الوقت منذ وصولها إلى البلدة برفقة إل، يتنقلان بين الأماكن التي شهدت حبهما، ويستحييان الماضي، وها هي ذي الآن تُطالب برأسه، وعلة ذلك أنَّ علاقتها بإل في عام ١٩١٠م، قبل أربعين سنة، أثمرت طفلة تنكَّر لها أبوها كل التنكر، وتخلَّى عن أمها، فأقامت ضده دعوى إثبات بنوة، فما كان من إل إلا أن أحضر شاهدين كاذبين مرتشيين أقسما أمام المحكمة أنَّهما كانا على علاقة بكلارا فيشر، فحكمت المحكمة برفض الدعوى. هذان الشاهدان هما الخَصيَّان اللذان تمكَّنَتْ من الحصول عليهما بعد أن أَثْرت وازداد نفوذها، جلبت أحدهما من أستراليا والآخر من كندا، لم يفلتا منها بهربهما في كل طرف من أطراف الدنيا الواسعة. فلمَّا استحوذت عليهما حرمتهما من البصر، وجرَّدتهما من الرجولة وضمَّتْهما إلى حاشيتها. وأمَّا مدير أعمالها الذي شرح للحاضرين القضية تفصيلًا، فهو القاضي الذي رأس المحكمة التي نظرت دعوى البنوة عندما رفعتها كلارا ضد إل. أغرته المليونيرة بالمال فترك وظيفته وانضمَّ إلى حاشيتها يُدير أعمالها ويُتابع قضيتها.

رفض عمدة جوللين طلب المليونيرة فور استماعه إليه؛ متعلِّلًا بالتمسك بمُثُل ومقومات «الثقافة الغربية». لكن الحياة في جوللين بدأت تتغير تدريجيًّا؛ بدأ الناس يوسعون على أنفسهم ويشترون طعامًا أجود، وشرابًا أحسن، ويقتنون السيارات، ويجددون العمران. بدأ الناس يعيشون عيشة من أدخل في حسابه أنَّ ثروة هائلة في الطريق إليه، يذهبون إلى المتاجر فيشترون على الحساب، وأصحاب المتاجر يمنحونهم القروض كلَّما أرادوا. ويحس إل بالقلق؛ إنَّه لا يملك إلا أن يبيع للناس على الحساب هو أيضًا؛ فليس في مقدوره وحده أن يَسْبَح ضد التيار، ولكنَّه يتوقع أنَّ الأمور تتطوَّر ضده. أمَّا كلير تساخاناسيان فتظل في فندق «الرسول الذهبي» تعيش حياتها وتنتظر نتيجة حتمية، تنتظر محصلة القوى. تعيش حياتها فتترك الزوج رقم ٧، وتتزوج الزوج رقم ٨، وهو ممثل سينمائي شاب جميل، ثم لا تلبث أن تدعه لتتزوج التاسع، وهو عالِم حائز على جائزة نوبل.

وهنا يفلت النمر الأسود الذي أتت به معها، يفلت من قفصه وينطلق في البلدة، من مكان إلى مكان، فيحمل أهل البلدة أسلحتهم دفاعًا عن النفس. وما إن يرى إل الأسلحة في أيدي الناس حتى يتأكَّد أنَّ حياته في خطر لا شك فيه. فيُقرر الهجرة، ويحمل حقيبته إلى القطار، ولكنَّه لا يستطيع التقدم خطوة، لا لأنَّ أحدًا يمنعه، ولكن لأنَّه وقع في شباك خوفه، وأصبح أسير ذنبه الذي اقترفه ولا يستطيع الإفلات منه، فيشق بنفسه جو الانتظار السلمي الذي فرضته كلير تساخاناسيان، ويذهب فيضع نفسه تحت تصرف محكمة مواطنيه.

ووسط اجتماع أهل البلدة يقف العمدة فيضع مضمون الحادثة في شكل مُلفَّق للوصول إلى الهدف، فيرفع إل الذي انتهى معنويًّا إلى قمة التكريم مبلغًا الصحافة أنَّ الهبة التي منحتها المليونيرة للبلدة قد أتَّت بفضل توسط صديق صباها السيد إل. ويصطف المواطنون صفين، يسير بينهما إل حتى يبلغ منتهاهما فينطبقان عليه، ثم يعودان إلى الانفراج، فإذا إل ممد على الأرض جثة هامدة. فيقول الطبيب: سكتة قلبية. وتُفسِّر الصحافة: أَصَابَتْه من الفرح.

وهنا تأمر كلير تساخاناسيان النعش أن يؤتى به، النعش الذي أحضرته معها يوم حضورها، فيوضع به إل، وتُبْلغ المليونيرة الزوج رقم ٩ بأنَّها لا حاجة بها إليه قائلة: «لقد وجدت حبيبي.» ويتلقَّى العمدة شيكًا بمليار.

•••

ربما اعتقد الإنسان متعجِّلًا أنَّ موضوع القطعة هو أنَّ صاحب المال يُمكنه أن يشتري بماله كل شيء، صاحبة الملايين تشتري العدالة، تمامًا كما تشتري إيقاف القطار حيث تريد بمالها. وإنَّما الموضوع في صميمه هو: التغير الأوتوماتيكي البشع في أخلاق الناس؛ إذ يُحرِّك توقعهم الحصول على مليار ضميرهم الخلقي على نحو يجعلهم يعتقدون أنَّهم يُقيمون العدل وهم يقتلون مواطنًا من أهلهم «إل». لم يخطر ببال واحد منهم أن يسأل بني عشيرته المجتمعين للقضاء على إل: كم منهم هجر صديقته بطفل تنكَّر له؟ بغض النظر عن الآثام الأخرى. الإثم الذي حدث لصاحبة الملايين، هو في نظرهم «الضرب من الآثام الذي لا بد من التكفير عنه»؛ أي إنَّ العدالة شيء نسبي يُمنح لمن استطاع إلى شرائه سبيلًا. تلك هي الحقيقة الهدمية التي تتوصَّل إليها هذه الكوميديا التراجيدية.

•••

زيارة السيدة العجوز تراجيديا وكوميديا في آنٍ واحد، هي نوع أدبي مسرحي، ليس دورينمات أول من عالجه، ولكنَّه في معالجته له على هذا النحو مُجدِّد فيه من ناحية أصوله الفلسفية. ذكرنا أنَّ دورينمات متأثر بالفيزياء والفيزياء النووية تأثرًا مختلطًا بتأثره بالأدباء الأقدمين والحديثين. وأظهر ما أدَّى إليه اشتغاله بالفيزياء هو رفضه الأبطال ورفضه التراجيديا البحتة، ودفعه إياها إلى الكوميديا، يقول: «إنَّ الكوميديا هي النوع الوحيد الذي يتفق معنا، لقد انساق عالمنا إلى المهزلة انسياقه إلى القنبلة الذرية، تمامًا كما أنَّ الصور الغامضة التي رسمها هيرونيموس بوش مضحكة.»

وهيرونيموس بوش H. Bosch ذلك الذي يستشهد به دورينمات، رسام هولندي (من حوالي ١٤٥٠م إلى ١٥١٦م) رسم لوحات عجيبة فيها روح المغامرة، مستوحاة من تصورات العصور الوسطى، وفيها تفصيلات كثيرة، غبية مضحكة.

من لوحاته المشهورة «حديقة اللذات»، «الجحيم»، «جنة الدنيا وجنة الآخرة»، «انتصار الموت»، و«يوم الحساب».

«زيارة السيدة العجوز» كوميديا؛ لأنَّها تستخدم وسائل الكوميديا المختلفة وتُحسِن استخدامها:

فالأسماء في غالبيتها منتقاة على نحو يبعث على الضحك، أسماء الحاشية تنتهي ﺑ «بي»؛ توبي، روبي، كوبي، لوبي … إلخ. والمصوِّر اسمه «تسيمت»، يعني «قرفة»، والمُحضَر اسمه «جلوتس»، يعني «بحلق»، والطبيب اسمه «نوسلين»، يعني «بندقية صغيرة» … إلى آخر هذه الأسماء.

وهناك التصرفات المضحكة؛ فالبلدة وقد أصابها ما أصابها من الكساد، لم يَعُد بها سوى قبعة واحدة تصلح للاستقبالات الهامة؛ لهذا اتفق أعيان البلدة على استعمالها على التوالي، يلبسها الواحد منهم أثناء مثوله بين يدي صاحبة الملايين، وعندما يفرغ يتناولها الثاني سرًّا ويُمثِّل دوره. وربما كان أعظم التصرفات المضحكة بالقطعة كلها، خطبة العمدة التي يلقيها في فندق الرسول الذهبي للترحيب بكلير تساخاناسيان. وتتميَّز بعمق جذورها، فالمشاهِد يُطالع حيرة العمدة وأهل البلدة في بحثهم وراء تفصيلات يستعين بها العمدة في خطبته:

العمدة : «لا بد لي من تفصيلات عن السيدة تساخاناسيان أستعين بها في خطبتي الصغيرة التي سأُلقيها عند الغداء في فندق «الرسول الذهبي».

(يُخرِج مُذكِّرة من جيبه.)

المعلم : لقد فتَّشت السجلات المدرسية تفتيشًا دقيقًا. إنَّ درجات كلارا فيشر — للأسف الشديد — درجات بالغة الرداءة حتى في السلوك، إلا في علم النبات والحيوان؛ فدرجاتها متوسطة.
العمدة (مثبتًا ذلك في مذكرته) : حسنًا، درجات متوسطة في علم النبات والحيوان، هذا حسن.
إل : هنا يُمكنني أن أقدِّم العون للعمدة. كانت كلارا تُحب العدل، بكل ما في ذلك من معنًى. حدث ذات مرة أن اقتاد بعض الشرطة متشردًا فانهالت عليه بالحجارة.
العمدة : حب العدل. لا بأس. نقطة لها دائمًا تأثيرها، ولكن يَحسُن أن نُغفل ما فعلت بالشرطي.
إل : كذلك كانت مُحسنة؛ كانت توزِّع ما تملك، وحدث مرة أن سرقت بعض البطاطس من أجل أرملة فقيرة.
العمدة : ميل إلى البر والإحسان. هذه النقطة، يا سادة، نقطة لا بد أن أوردها. إنَّها أهم نقطة. هل يذكر أحدكم مبنًى أقامه أبوها؟ فلا بأس بالإشارة إلى هذا في الخطبة.
جميعًا : لا أحد.
العمدة يقفل مذكرته.»

هذه جذور الخطبة. ليس فيها ما يُثير الضحك، اللهم إلا حيرة العمدة ومحاولته خلق نواحِي عظمة في كلارا بالإكراه. وهو في ارتباكه لم يُلمَّ بالمعلومات الأساسية المتعلقة بموضوع الخطبة. ويجلس إلى جواره إل، أثناء إلقاء الخطبة، ويهمس إليه مرارًا وتكرارًا مصححًا:
العمدة : «والدتكِ العظيمة القوية الصحة (إل يهمس إليه بشيء) التي اختطفتها يد المنون في شبابها المبكر ضحية السُّل، ووالدكِ الرجل الشعبي الذي أقام عند محطة السكك الحديدية بناءً يحظى بالكثير من الزائرين المختصين وغير المختصين (إل يهمس إليه بشيء) بناء يَلقى الكثير من الاهتمام؛ يعيشان في فِكْرنا دائمًا بيننا كأحسننا وأشجعنا.»
أمَّا هذا المبنى، فقد علم المُشاهد أمره من أول القطعة، عندما نزلت كلير تساخاناسيان البلدة ووقفت تتأمله (خلال نظَّارتها المُرصَّعة بالجواهر الكريمة) لتقول:
كلير تساخاناسيان : «هذه المراحيض العمومية أقامها أبي يا موبي. بناء متين، دقيق. وكنت وأنا طفلة أجلس ساعات طوالًا على السطح وأبصق موجهة البصاق إلى تحت، لكن إلى الرجال فقط.»

وما إن ينتهي العمدة من خطبته المرقعة حتى تنهض كلير تساخاناسيان وتُكمل كوميديا مهارتها في المدرسة، وكوميديا البطاطس التي سرقتها.

وهناك الشخصان القصيران السمينان اللذان يسيران، ويتكلَّمان، ويتحركان كالعرائس أو كالآلات. وأهم ما يُميزهما هو تكرار الجمل مرتين، تكرارًا أوتوماتيكيًّا، والتكرار الأوتوماتيكي وسيلة من وسائل الكوميديا. كما يتميَّزان بالبله؛ فهما إذا سِيقَا مثلًا ضحِكَا وتماسكَا فرحين. وعلى النقيض منهما العملاقان حاملا الهودج، فإذا وقفا جميعًا برزت نواحي التناقض المضحك، وبرزت المميزات المضحكة للخصيَّين بروزًا.

أمَّا كلير تساخاناسيان فهي قلب الكوميديا بلا شك. أنشأ دورينمات شخصيتها في مسرحيته على نموذج واقعي حي، هو نموذج الممثلة العبقرية تيريزه جيزه Therese Giehse (وتأثره بشخصية تيريزه جيزه لا يقتصر على دور كلير تساخاناسيان، وإنَّما يتجاوزه إلى أدوار عديدة أهمها دور «الآنسة الدكتورة ماتيلده فون إتساند» في مسرحية «علماء الطبيعة» التي أهداها النسخة المطبوعة منها). وإنَّ المرء ليتملَّكه العجب عندما يُشاهد تيريزه جيزة تُجسِّم دور المليونيرة العجوز تجسيمًا تامًّا، وتلوح له كشبح اكتسى بعض اللحم والدم وكثيرًا من العصبية التي تُقارب الهوس، وتتحرَّك في عالم يبحث له عن وزن ومكان. تتكلم بجمل قصيرة متفرقة لا تربطها إلا نادرًا. استمع إليها وهي ترد على مداهنة إل لها بقوله: «أما أنتِ فقد بقيتِ كما كنتِ، ساحرتي الصغيرة.»

«آه، قل غير ذلك./لقد هرمتُ وسمنتُ أنا أيضًا./بل وفقدت ساقي اليسرى./حادثة سيارة./من يومها لا أُسافر إلا بالقطارات السريعة./لكن الساق التعويضية ممتازة، ألا ترى ذلك أيضًا؟/تتحرَّك بسهولة.»

ومن أبرز صفات شخصية المليونيرة كلير تساخاناسيان أنَّها — على حد وصف دورينمات نفسه لها — «مستحيلة». تتصرَّف كما يحلو لها، إذا أرادت أن تنزل في بلدة صغيرة خربة، لم تكلِّف مشقة ركوب قطار الرُّكاب، بل ركبت القطار السريع الذي يعجبها، ثم شدَّت فرملة الطوارئ ونزلت، فإذا تبرَّم محصل القطار أو الريس أسكتته بمالها. تشتري ما تريد بكلمة، وتقيم ما تريد بكلمة. والناس يضعون أيديهم على قلوبهم خوفًا من «المصادفة» التي تنساب مع كل كلمة تقولها. ولا تنطق كلماتها بالمصادفة من النوع المألوف، وإنَّما هي مصادفة أقرب إلى الحقيقة العلمية التي يُمكن التنبؤ بها قبل حدوثها؛ فهي في حديثها مع القس، ومع الطبيب؛ تعرف مقدمًا أنَّ إل سيموت، وسيموت بسكتة قلبية:

كلير تساخاناسيان : «آه، كاهن. هل أنت معتاد على مواساة المحتضرين؟
القس (مندهشًا) : أجتهد في ذلك.
كلير تساخاناسيان : ومواساة أولئك الذين حُكِم عليهم بالإعدام أيضًا؟
القس (مضطربًا) : عقوبة الإعدام ملغاة في بلدنا، يا سيدتي الجليلة.
كلير تساخاناسيان : ربما تُعاد ثانية.
وتكتمل النبوءة عندما تتحدَّث إلى الطبيب.
كلير تساخاناسيان : طريف. هل تُصدر شهادات الوفاة؟
الطبيب (يَتلَجْلَج) : شهادات وفاة؟
كلير تساخاناسيان : هل يموت بعض الناس؟
الطبيب : طبعًا، يا سيدتي الكريمة. واجبي. بأمر من السلطات.
كلير تساخاناسيان : توقَّع حدوث سكتة قلبية في المستقبل.»

السيدة العجوز كما يعرفها «دورينمات» لا تُمثِّل العدل، ولا تُمثِّل إعانة المحتاجين (مثل مشروع مارشال) ولا تُمثِّل غموضًا لاهوتيًّا (كغموض الرؤيا اليوحنية). إنَّها صاحبة ملايين عديدة، ملايين عديدة تمنحها قوة تصرُّف مُطلَق كبطلات التراجيديا الإغريقية. وهي بعيدة عن الناس وبعيدة عن نفسها أيضًا، تتحرَّك خارج النظام الإنساني فيجعلها ذلك جامدة لا تتبدَّل، إلا بقدر ما يتحوَّل الحجر إلى صنم.

ومشكلتها مع إل هي مشكلة حبها له حبًّا لم يستطعِ الموتَ، وحبُّه لها الذي مات، لم يستطع حبها الموتَ ولم يستطع الحياة أيضًا. «تحوَّل إلى شيء شرير مثلي تمامًا، مثل الفُطر الباهتة والجذور العمياء في هذه الغابة تحت أكداس ملياراتي الذهبية، ملياراتي الذهبية هاجمتك، مَدَّت إليك (كالأخطبوط) ملامسها تطلب حياتك؛ لأنَّ حياتك ملكي إلى الأبد، والآن تضمك ملامسها، والآن تنتهي. بعد قليل لن يبقَى شيء سوى حبيب ميت في ذاكرتي، شبح رقيق في غلاله مهدمة.» وهي بدافع من هذا الحب المتحوِّل إلى شر قد تنقَّلت من زوج إلى زوج، من عالِم إلى وزير، إلى ممثل، إلى رجل اقتصاد، إلى غير هذا وذاك، وعبثت بكل ما شاء لها العبث، ولكن نفسها الملتهبة لن تهدأ حتى ترى إل جثة هامدة، فتنظر إليه جامدة لتقول:

«لقد عاد إلى ما كان عليه قبل وقت طويل، النمر الأسود. غطِّه. احملوه إلى النعش.»

هنا ارتاحت؛ فقد رأت الحب الميت في جسد ميت.

•••

في «الملاحظة» التي ختم بها المسرحية يتحدَّث دورينمات عن الأبطال حديثًا عابرًا، يصح أن نتناوله في ختام هذه الدراسة بشيء من التوضيح. يقول عن كلير تساخاناسيان: «كلير تساخاناسيان لا تُمثل العدل ولا تُمثل مشروع مارشال ولا تُمثل الرؤية اليوحنية، لتكن ما هي، أغنى امرأة في العالم؛ تُمكِّنها ثروتها من التصرف كبطلة من بطلات التراجيديا الإغريقية تصرفًا مطلقًا؛ فظيعًا، كميديا مثلًا.» ثمَّ يتحدَّث عن أهل جوللين: «أهالي جوللين يَدخلون في زمرة الأبطال، وهم بشر مثلنا جميعًا.»

والحقيقة أنَّ أعمال دورينمات مثلها مثل الأعمال التي أنتجها أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتميَّز «بعدم وجود أبطال»، «بإنكار الأبطال» إنكارًا، ونقصد هنا الأبطال على مفهوم شيللر. دورينمات نفسه يقول في «مشاكل المسرح»: العالم (وبالتالي المسرح الذي يُمثِّل العالم) أمامي شيء هائل فظيع، لغز في المصائب، وينبغي أن يُقبَل وألَّا يحدث أمامه تراجُع. العالم أضخم من الإنسان، وهو يتخذ بالضرورة سمات مخيفة، سمات ما كانت لتُصبح مخيفة لو أتت من نقطة خارجة عنه، ولكني لا أمتلك لا حق ولا قدرة الوقوف خارجه. والتعزي عن ذلك في الأدب أمر — غالبًا — بالغ الرخص، والأقرب إلى الصدق أن تحتفظ بزاوية النظر الإنسانية: «هنا ابتعاد عن الأبطال بالمعنى الشيللري، وابتكار لمن يأخذون محلهم». وبديل البطل عند دورينمات وكثيرين غيره هو «الرجل الشجاع» Der tapfere Mensch. ويرى دورينمات أنَّ التطور من البطل إلى الرجل أو الإنسان الشجاع قد مرَّ بمراحل. لغاية هيبل Hebbel كان مركز الدراما معقودًا لشخصية في حيرة ميتافيزيقية، لشخصية البطل. فلمَّا جاء لويجي بيراندللو جعل البطل شفافًا transparent. وجاءت الحرب وانتهت الحرب، وانتهى معها من الثقافة الألمانية «بطل الحرب» وجرَّ في أذياله البطل عامة. في رومولوس الأكبر بطل من مستوى الأبطال الذين تتطلبهم أصول المسرح في عصر الباروك، ولكنَّه لا يستطيع أن يموت موت الأبطال، ولا يستطيع كذلك أن يُنظِّم مقاومة الدولة المتداعية، فينتهي أمره إلى «الإحالة إلى المعاش». في «مكتوب» بطل آخر مُحال إلى المعاش، هو كنيبردوللينك بطل «سلبي»، وإن شئت فاعتبر المسرحية دراما لا أبطال؛ إذ إنَّ شخصيات بوكلسون، وأسقف منستر المطرود وغيرهم، شخصيات أقوى من الناحية المسرحية وألمع من كنيبردوللينك ذاته.

هناك إذن محاولة لإقامة بطل تدور حوله الدراما، ولكنَّها محاولة تنتهي بإحالته إلى «المعاش»، بتَبَيُّن أنَّه ليس «من هذا العالم». ويرتبط بتحوُّر شخصية البطل على هذا النحو، تحوُّر شكل «الدراما» إلى الكوميديا. هو تحوُّر سبق أن تنبأ بوقوعه الحتمي هجل والرومانتيكيون المبكرون. والجديد أنَّ الكوميديا الجديدة لها «كرامة» تسمح بمعالجة المواد الجادة دون إساءة إلى جديتها. بل إنَّ هذه الجدية تتأكَّد تأكدًا وسط الجو المتناقض، وأقوى تناقض في أعمال دورينمات تناقض هذا العالم و«الأشياء التي ليست من هذا العالم».

في كل مسرحيات دورينمات توتُّر بين العالم التقليدي وبين قُوًى خارجية تندفع فيه. عالم التقاليد يُمثِّله في مسرحية «مكتوب» أسقف منستر وحقه القديم في المدينة، ويُمثله في مسرحية «رومولوس الأكبر» رغبة البلاط القيصري في المقاومة، وفي «زيارة السيدة العجوز» الأخلاق البورجوازية المطَّاطة لأهل جوللين، وفي مسرحية «جاء الملاك إلى بابل» يُمثله حب المال والسلطان. أمَّا القوة التي تندفع في عالم التقاليد فيُمثِّلها في «رومولوس الأكبر» القيصر نفسه ونسيانه واجبه، وفي «زيارة السيدة العجوز» كلير تساخاناسيان في رحلة الانتقام، وفي «جاء الملاك إلى بابل» يُمثِّلها الملاك والحسناء كوروبي، التي يحملها بعد خروجها من يد الخالق مباشرة إلى دنيا البشر الفاسدة.

هذه الشخصيات الممثِّلة للقوة المندفعة إلى قلب عالم التقاليد، شخصيات متناقضة، لا تُمثِّل البطولة، بل تُمثِّل عدم المسئولية. كلير تساخاناسيان تضرب بالمعايير الإنسانية عرض الحائط، وتُنفِّذ خطة الانتقام غير عابئة، لا توقفها رحمة، ولا تهزها توسُّلات. كذلك الملاك في «جاء الملاك إلى بابل»، وبوكيلسون في «مكتوب» … والتوتر الحادث بين اللامسئولية من ناحية وبين عالم التقاليد من ناحية أخرى هو أساس الكوميديا التراجية عند دورينمات. والناحية التراجية محصورة في الجدية. أمَّا الموت فلم يعد ذلك الموت المعروف في التراجيديات البحتة، بل تحوَّل إلى «قتل»، أو إن شئت فقل «موت على يد الجلاد»، واللابطولية في ذلك الموت واضحة. ونتج عن ذلك أن ظهرت شخصية «الجلاد» في أعمال دورينمات، واحتلَّت مكان المركز فيها جميعًا. والجلَّاد أو من يمثله أو يمثلونه يقومون بعملهم أو يؤدون مهمتهم في جو احتفالي يعوِّض عظمة الموت التراجي المعروف. الجلاد في «رومولوس الأكبر» يُمثِّله رومولوس ذاته، وفي «جاء الملاك إلى بابل» السائل أكي الذي يؤدي بحسناء السماء، وفي «زيارة السيدة العجوز» كلير تساخاناسيان التي أتت إلى جوللين خصوصًا «لتعدم» إل، وحوَّلت أهل جوللين جميعًا إلى «جلادين».

وتتضح هذه البدعة المميزة لأعمال دورينمات أعمق التمييز في «حوار ليلي». هذا الحوار يدور بين «الرجل»، وهو هنا «المفكر» و«الأديب»، وبين آخر كان موجودًا في غير جسد، ثم دخل بجسده حين جنَّ الليل على الأديب. وليس هذا الآخر إلا «الجلاد»، جلاد «الأديب». أمَّا الجلاد فيحكي للأديب عن حالات الموت التاجي العظيم التي شهدها، فيقول الأديب: «ماتوا ميتة الشجعان! ليت الكثيرين يموتون تلك الميتة في هذه الأيام!» لكنَّ الجلاد يُجيب عليه: «إنَّ العجيب في الأمر يا سيدي، هو أنَّ الناس في هذه الأيام لم يعودوا يموتون تلك الميتة.» ثم يسأل الأديب: «أنا مندهش، ماذا طرأ على العالم في هذه الأيام؟» فيُجيب الجلَّاد: «طرأ عليه الجلَّاد يا صديقي! أنا نفسي كنت أريد أن أموت بطلًا، وها أنا ذا وحدي معك.»

دكتور مصطفى ماهر
دكتوراه في الآداب الألمانية بدرجة الشرف الأولى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤