الهموم والاهتمامات
نستطيع أن نتوسع في معاني الفصل السابق، وأن نضع النبرة على بعض حروفه، بأن نقول إننا حين نتأمل حياة الناس في مختلف ممارستهم وآمالهم نجد أن كثيرًا منهم يحيى حياة البقول: حسبه من الدنيا أن يأكل ويشرب وينمو ويسمن ويتناسل، ولكنه مع ذلك راكد كأنه فجل أو لفت. وفريق آخر يحيى حياة الحيوان: يحس نشاطًا ويجري وراء مطامع، ولكنها لا تعدو مستوى الشهوات. إذا حدثته عن السياسة أو الفلسفة والمثليات نفض يده منك ووصمك بأنك خيالي، وأنه ليس في هذه الدنيا غير الماديات، وأن قصارى ما يرجوه أن يكون ثريًّا مستمتعًا بثرائه. أما الفريق الثالث فيتألف من البشر الذين يحملون هموم واهتمامات الإنسان الراقي العصري.
وأولئك البقول البشرية تجدهم كثيرين على المقاهي، راكدين ناعسين يتثاءبون ويتمطون، قد سئموا الدنيا ولذلك يعللون وجودهم في أغلب الأحيان سواء في المقاهي أو البيت بأنه «قتل للوقت». وهذا الفريق هو الذي يحس عقب الستين والسبعين أن وجوده مشكلة وأن الدنيا تافهة ماسخة. وأفراد هذا الفريق يقضون السنوات الخمس أو الست قبل وفاتهم في إحدى حجر المنزل الذي لا يبرحونه إلا يوم الوفاة.
أما الفريق الثاني، الذي يحيي أفراده الحياة الحيوانية، فالأغلب أن شهواته الدنيا ستحمله مرحلة طويلة إلى السبعين أو الثمانين، وهذا الفريق يتألف في الأغلب من التجار والمقاولين والماليين، ويحمل أفراده همومًا واهتمامات قروية لا تتجاوز القرية أو الشارع الذي يعيشون فيه. وإكبابهم على الماديات قد حرمهم الاهتمامات العامة، بل لعله حرمهم القراءة. فإذا شرعت الشيخوخة تشيع في أعضائهم لم يجدوا ما يملأ خواء نفوسهم، وعندئذ يتصرفون في البيت كما لو كانوا وباء على كل من يسكنه. فإن نفوسهم تضيق لصوت الأطفال، أو لفكاهات البنات والأولاد، أو للحرية المزعومة في خروجهم وسهرهم. وسرعان ما ينقلبون إلى دعاة للأخلاق، مع أن الحقيقة أنهم قد فارقوا العصر الذي يعيشون فيه وجمدوا. وسرعان أيضًا ما يفقدون ذاكرتهم، لأنهم لم يتعودوا القراءة التي تربط كلماتها المعاني بتفاريعها المختلفة في أذهانهم.
ولكن هذا الفريق يمتاز عن الفريق الأول على كل حال كما يمتاز الحيوان على النبات.
أما الفريق الثالث الذي يحمل أفراده همومًا واهتمامات بشرية فهو الفريق الذي يسعد بشيخوخته، ويجد أفراده أنهم كل يوم في شأن، لا يسخطهم تغير الدنيا وتطورها، بل هم يهتمون بالحركات الارتقائية وربما يلتحقون ببعضها تحمسًا لها. فتجد أحدهم يدعو إلى خطة معينة في السياسة، أو هو يمتاز بمذهب اجتماعي. وهو يجاهد ويضحي ببعض وقته وماله لأجل هذه الخطة أو هذا المذهب. وهذا الجهاد يوقظ قلبه وذهنه، ويكسبه إحساسًا ساميًا بأنه يؤدي رسالة إصلاحية بارة. وهذا الإحساس هو موطن حيويته.
والفرق بين الهم والاهتمام أن الأول يقلق ويؤرق، وهو في الأغلب يتصل بمشكلة خاصة. وإذا أفرط الإنسان في تحمل الهموم ذوي وانهارت شخصيته وصحته. وكل منا لهذا السبب في حاجة إلى تدريب فلسفي، كي يربط مشكلاته الخاصة بنظام الكون، وكي يعيش المعيشة الفلسفية فتخف وطأة الهموم عليه.
هذا هو الهم. أما الاهتمام فأوسع وأعم، وهو لا يقلق ولا يؤرق. فإننا نستطيع أن نهتم بالسياسة التي تتبعها الولايات المتحدة مع اليابان، أو بالتأمين الاجتماعي في ألمانيا، أو بعلاج البنيسلين، أو بالسكنى الصحية، دون أن نقلق أو نأرق. وكذلك نهتم بصحتنا الجسمية أو النفسية، أو بمستقبل أولادنا دون أن يصل الاهتمام إلى حد الهم.
ولكن يجب ألا نخشى الهموم كل الخشية ونتوهم أنها القاضية علينا والتي تعجل وفاتنا. فإن الهموم مفيدة إذا كانت معتدلة، لأنها تحملنا على اتخاذ خطط هجومية في الحياة تبعث نشاطنا وتحول بيننا وبين الركود. ورجل بلا هموم هو رجل بلا مسئوليات. والهم الذي يشغلنا يحرك أذهاننا ونفوسنا وأجسامنا فيوقظ حيويتنا. والزوج يحمل هموم عائلته في حين أن الأعزب يعيش حرًّا خليًّا لا يحمل هم الكسب لأولاده ولا يفكر في نجاحهم. ولكن خلوه من هذه الهموم لا يزيده استمتاعًا بالحياة بل هو لا يطيل عمره، لأن جميع الإحصاءات تثبت أن المتزوجين يعمرون أكثر من العزب. وصحيح أن بعض هذا التعمير يعود إلى انتظام المعيشة الزوجية التي لا يجد مثلها الأعزب، ولكن بعضه أيضًا يعود بلا شك إلى أنه يحمل هموم العائلة التي ترهف ذهنه ونفسه.
وعبرتنا مما ذكرنا أن الهموم الخفيفة، والاهتمامات العامة، مفيدة تبعث الحيوية وتطيل بقاءها بعد الخمسين والستين. وهموم كل منا تتبع ظروفه الخاصة. ولكن الاهتمامات عامة. وعلي كل منا أن يرعاها وينميها، بل يزكيها. وأن يرتفع بها على مستوى النبات والحيوان إلى المستوى الإنساني. فيهتم بوطنه، وبالعالم، يدرس الثورات التي غيرت الدنيا وجددت المجتمع. ودراسة الثورات عند المسنين هي خير ما يبعد عنهم الجمود الذي يفصل بينهم وبين العصر الذي يعيشون فيه.