جريمة الجمود
المشهور عن المسنين أنهم جامدون يكرهون التغير والتطور، وأنهم لهذا السبب ينفرون حتى من الأزياء الجديدة في الشبان والفتيات مهما ضؤلت قيمتها. كما ينفرون من أي ابتداع في الأخلاق أو الممارسات الاجتماعية العامة. وهذا الجمود يفقدهم الاتصال بالجيل الجديد ويجعل الشبان يتجنبونهم، فيحس المسن بهذا التجنب عزلة مؤلمة.
وهذا الجمود يرجع في التحليل السيكلوجي إلى القلق والخوف. فإن المسن الذي عاش ستين أو سبعين سنة سار فيها على القواعد التي تكاد تكون ثابتة، والتي قد اطمأن وارتاح إليها، يكره تركها إلى قواعد جديدة لا يدري عواقبها. فهو هنا كالطفل الذي يتجنب الغرباء أو الخروج وحده إلى الشارع. وهذا الخوف نستطيع أن نتبينه عندما نجد أحد المسنين في مجتمع خاص لا يزيد على سبعة أو ثمانية أشخاص. فإنه هنا يلتزم الصمت خوفًا من أن تتضح مفارقته العظيمة للتيارات العصرية وجزعًا من مواجهته بها.
وكلنا عرضه لهذا الجمود إذا أهملنا تطور شخصيتنا وتعهدنا بالرقي والنمو. وألوان الرقي والنمو كثيرة ومختلفة. فإن السبعيني الذي ينضوي إلى حزب سياسي ويعمل في الدعاية والترويج لمبادئه، يجد في هذا النشاط تجديدًا يقيه من الجمود. وهو إذا تعلق بقراءة الجرائد ودرس السياسة العالمية أحس كل صباح أنه يضع أنملته على نبض العالم ويعرف حركته. وقد ينضوي إلى جمعية خيرية تنبه قلبه وعقله وتكسبه الكرامة التي يحتاج إليها. وهذا الانضواء نافع حتى ولو كلفه بعض المال. وإذا كان قد ثقف نفسه مدة الشباب أو حتى بعد الخمسين فإنه يجد آفاقًا جديدة تتفتح كل يوم أمامه. فقد يجد نفسه بسبب هذه الثقافة شابًّا ثائرًا وهو في سن الثمانين، يكافح في الدفاع عن حق أمته في التطور، وعندئذ يهنأ بالتوسع والتعمق في الحياة. ويوم في حياة هذا الثائر في الثمانين خير من عام في حياة الشباب الذي يقتل وقته بألعاب الحظ الصبيانية على المقهى أو بالمسرات التافهة الأخرى.
وعلي كل من تجاوز الخمسين أن يتعهد عاداته الذهنية والنفسية حتى إذا رأي فيها مفارقة عمد إليها بالتنقيح أو التغيير، حتى ينبض قلبه مع نغمات عصره، يلتذ بلذاته ويشترك في نشاطه. وهناك بالطبع من يرتفعون فوق عصرهم، لأنهم يرون رؤيا أخرى، ويحسون أنهم مكلفون تأدية رسالة يحتاج إليها عصرهم. ولكن ليس هؤلاء موضوع بحثنا؛ لأننا نكتب إلى الرجل العادي. وأولئك الأفذاذ يحملهم جهادهم إلى المئة دون أن يحسوا الشيخوخة.
إننا نكتب هذا الكتاب لأولئك الذين يخشى عليهم من أن يفقدوا إيقاع الحياة في الشيخوخة، أولئك الذين ينامون بعد الظهر ويستيقظون في الساعة الثالثة من الصباح. وقد ينعسون قبل الغداء ويتجنبون المجتمعات، وينسون الأسماء، ويصخبون في البيت لما يزعمون من مخالفات الصغار أو الكبار. وهذه حال الكثيرين الذين بلغوا السبعين أو تجاوزوها، وسئموا تعطلهم وعقمهم، وكانوا قد أهملوا أنفسهم قبل ذلك فلم يعنوا بالثقافة ولم يؤدوا عملا ينتظم حياتهم وأوقاتهم، ولم يأخذوا بهواية تشاكلهم في الكتابة أو المقام، ووصلوا إلى هذه السن وليس لهم أي اهتمام.
ليكن لنا هواية نتعلق بها تشغل فراغنا وتمرن ذكاءنا.
ليكن لنا هم واهتمام بشئوننا الخاصة وبشئون هذا الكوكب.
لتكن لنا رغبة في التطور والتغير.
لتكن لنا دراسة واتصال لا ينقطع بالكتاب والمجلة والجريدة.
ليكن لنا دين إنساني في القلب، ورب حكيم في العمل، لكي ندرك منهما مغزى وجودنا.
ليكن لنا نشاط يجنبنا تلك البطالة التي تعطل الجسم والذهن.