هواية جديدة كل عام
أعظم ما نؤمن به حياتنا ضد الشيخوخة الراكدة العقيمة هو هواية نتخذها ونتعلق بها، وننشط إليها لا طمعًا في الربح منها، بل رغبة فيها وحبًّا وتعلقًا بها. وكلنا يعرف كيف يتعلق الناس بالهوايات وينفقون فيها وقتهم ومالهم وهم راضون. بل أحيانًا نتهم الهاوي بالهوس. لأنه ينكب على هوايته لا يبالي أي خسار مالي في سبيلها.
وبعض هذه الهوايات مضر، كالقمار الذي يحمل صاحبة على السهر طوال الليل وكأنه لا يحس تعبًا. ولكن أحيانًا نجد الصبي الذي يتعلق بالميكانيكات أو الكهرباء أو الرديوفون فيبرع فيها وهو دون العشرين، كأنه أستاذ في كلية للهندسة قد مضت عليه السنون في الخبرة والدربة. وذلك لأنه منح هذه الهواية كل قلبه وكل عقله. وقد كانت هواية الحمام وتربيته وتدريبه — ولعلها لا تزال — إحدى الهوايات التي يتعلق بها الشبان والشيوخ في مدننا.
وقيمة الهواية هي شدة التعلق والكلف بها. ومن هنا ميزتها للمسنين الذين يحتاجون إلى ما يبعث فيهم النشاط وينبه الحيوية. ويجب أن نعرف أنه من الشاق أن نبتدئ هواية جديدة بعد الخمسين أو الستين.
ولكن هذه الصعوبة تبدو في الأول فقط، إذ ما هو أن نقطع الخطوة الأولى حتى يتمهد الطريق للمراحل فضلًا عن الخطوات. والهوايات تأتي في العادة عفوًا، ولكن هذا لا يمنع من أن نختارها عمدًا. وواضح أن المسن الذي بلغ الستين أو السبعين، إذا كان تاجرًا أو ماليًّا أو مديرًا أو موظفًا في أحد الأعمال الحرة، لا يحتاج إلى الهواية. لأن فراغه ليس ثقيلًا عليه، ولأن ذهنه ونفسه يشتغلان بعمله. ولكن حتى هذا قد ينتفع أيضًا بالهواية لكي يسد بها حاجة نفسية قد لا يسدها العمل.
ولكن المسن الذي كان موظفًا بالحكومة مثلًا يحتاج إلى هواية يملأ بها فراغه بلذة وإقبال ونشاط. وعليه أن يجرب في اختيار الهوايات ولتكن غايته في كل وقت ترقيه ذهنه ونفسه وجسمه. أي يجب ألا يقصد إلى التسلية فقط. فإن القمار يسلي ولكنه لا يرقي، ومن هنا ضرره.
وعندنا أن الثقافة هي خير الهوايات للشيخوخة، لأن آفاقها كثيرة، وهي تبعث الاهتمامات المختلفة. فقد شرع «جوتيه» يتعلم العربية والفارسية في الستين من عمره. كما شرع سعد زغلول في هذه السن أيضًا يتعلم الألمانية. ولو لم يكن كلاهما مثقفًا لما فكر في هذه الهواية الجديدة التي تجددت بها حياته. وأعتبر الهواية الجديدة التي نشط إليها عبد العزيز فهمي (باشا) بعد السبعين من عمره، هي كتابة اللغة العربية بالخط اللاتيني. وتأمل أيها القارئ ألوان التفتيق الذهني الذي تحدثه كل من هذه الهوايات، ومقدار الاهتمام النفسي الذي ينشط الجسم والذهن معًا.
ولذلك يجب أن يتعود كل منا الثقافة، وأن يعطي الكتب في بيته «المجال الحيوي» حتى يبقي، مهما تجاوز السبعين أو الثمانين، متصلًا نفسًا وذهنًا. بأنحاء هذا الكوكب. كأنه المركز التليفوني الذي يتيح له التحدث إلى أي عنوان في أي وقت. وإنفاق ثلاثين أو أربعين جنيهًا على الكتب ليس شيئًا كبيرًا، وهو أقل من بعض الأقساط التي تطلبها شركات التأمين، ولكن فائدته أكبر.
ولذلك تعد الثقافة أولى الهوايات التي تؤمننا من الشيخوخة الآسنة التعسة. وليكن للمثقف المسن ثقافة جديدة كل عام. تجدد حياته، بل تجدد ميلاده، أي يجب أن نختار شيئًا لم يكن لنا به عهد من قبل.
ففي الظروف الحاضرة مثلًا (ظروف الانتقال من الحرب إلى السلم) يكون من النافع لنا، الذي ينعش النفس والذهن، أن يشترك أحدنا عامًا كاملًا في جريدة تصدر عن باريس وتنقل إلينا التطورات السياسية في أوربا كما يراها مجتمع غير مجتمعنا.
ويكون من النافع أيضًا أن يشرع أحدنا في دراسة جيولوجية مصر أو تاريخ السياسة البريطانية بعد ستين عامًا من احتلالها لوطننا أو بدلًا من أن يكون قارئًا، قد يكون كاتبًا مؤلفًا عن هذه الفترة من تاريخنا، يدون فيها اختباراته بشأن هذا الاحتلال.
وإذا تركنا الثقافة وجدنا كثيرًا من الهوايات التي يستطيع المسن أن يأخذ بها. وعليه — كما قلنا — أن يجرب هواية جديدة كل عام حتى يهتدي ويستقر على إحدى الهوايات التي تملك قلبه وعقله. فتشغل فراغه وتنبه ذهنه. فقد يعمد إلى جمع السجاجيد كما يفعل علي إبراهيم (باشا) أو إلى جمع الرسوم كما يفعل محمد محمود خليل (بك). ولكن هذه الهواية تحتاج إلى وفرة من المال قل من يملكها. وجمع المحار والأصداف والنباتات المتحجرة من جبل المقطم لا يقل قيمة، وإن كان يحتاج إلى وفرة من الثقافة قل أيضًا من يملكها.
ولكن المسن الذي يهوي تربية الأرانب أو الدجاج أو الزهور أو أشجار الفواكه يستطيع الاتصال بوزارة الزراعة فيجد من السلالات العجيبة الفريدة ما يثير استطلاعه ويحثه على التعلق بهذه الهواية إذا كان يجد في نفسه هذا الإيحاء.
ولكل إنسان ظروفه بالطبع. فإن تربية الحمام قد تجد الرغبة في المجال عند أحد المسنين، حين يجد غيره أن زراعة فدان من أشجار الفواكه خير له من الحمام. وهناك من المسنين من يستطيع اتخاذ تجارة صغيرة تدر عليه ربحًا كما تنشط ذهنه. وهناك من يجد أن فراغه الجديد يسمح له بزراعة أرضه بنفسه بعد أن كان يؤجرها. أو هو قد يؤسس ورشة صغيرة لترميم السيارات أو نحو ذلك.
وخلاصة القول إنه يجب على كل مسن أن يتعلق بهواية، ولا ييأس من التزام واحدة يجد فيها استقراره. بل عليه أن يختار هواية جديدة كل عام حتى يستقر. وفي هذه الدنيا الواسعة مجال لألوف الاهتمامات الحيوية.