الجريدة والمجلة والكتاب
أسوأ ما يكرهه المسنون بعد السبعين والثمانين هو النسيان. ويعد بعض النسيان فسيولوجيًّا إلى حد ما في مثل هذه السن. ولكن النسيان الفسيولوجي لا يكاد يأبه به المسن، لأنه قليل الحدوث ضعيف الأثر في حياته. وربما كان هذا النسيان يتصل بتصلب الشرايين في الدماغ، والضغط لبعض المراكز العصبية، وبطء الحركة الدموية بسبب هذا التصلب أو عرقلتها في بعض الأمكنة بالدماغ. فإذا كان المسن قد أعتاد الرياضة والحركة حتى لا يتفاقم هذا التصلب فإن النسيان عندئذ لا يكاد يحس.
والعادة أن المسن عقب الستين يشعر أنه ينسي بعض الأسماء ولكنه بمجهود صغير يستذكرها، ولذلك لا يتلفت إلى هذا الطارئ. على أنه بعد خمس عشرة أو عشرين سنة يجد أنه لا ينسي الأسماء فقط بل ينسي أشياء كثيرة، كهذا المنديل الذي يتفقده في جيبه فلا يجده وينسي أين وضعه. أو كهذا المبلغ من النقود الذي لا يعرف أين أنفقه. والمسن يتألم كثيرًا من هذه الحال التي تشعره بهرمه وتهدمه، وأيضًا بحقارته وهوانه أمام الذين يختلطون به. وحاله هذه توحي إليه الشيخوخة الهرمة فتزيده سوءًا وغمًّا.
والناس يتفاوتون في النسيان، فقد نجد رجلًا في السبعين يؤكد بحق أنه لا ينسي، ونجد آخر في مثل هذه السن كثير النسيان. وربما كان السبب الأصلي لهذا الفرق أن الأول كان يعيش في نشاط الحركة فبقيت شرايينه طرية لم تتصلب. وأن الثاني قد اعتاد الركود مدة طويلة، فتراكمت فيه الأحماض وآذت شرايينه التي عاقت الدورة الدموية وأثرت في الدماغ. وسنبحث هذا الموضوع في فصل آخر.
أما هنا فنحتاج إلى أن نثبت قيمة القراءة في النسيان والتذكر. فإن المعاني ليست في الواقع أكثر من الكلمات، فإذا ذكرنا الكلمات ذكرنا المعاني. فإذا اعتدنا قراءة الجريدة اليومية والمجلة والكتاب، وصارت القراءة عندنا عادة يومية، فإن الكلمات تبقي ماثلة في أذهاننا أو قريبة الاستذكار لأننا نألفها بالتكرار. وعندئذ نستطيع التحدث في الشئون العامة السياسية والاجتماعية في سهولة ويسر. بل إننا أيضًا نستطيع التفكير الحسن، لأن معظم التفكير يجري بالكلمات. وعلي ذلك نستطيع أن نقول إن أعظم ما يصون ذاكرتنا ويبقيها سليمة في الشيخوخة هو القراءة، بل قراءة الجريدة اليومية التي تحدثنا عن حوادث اليوم الداخلية والخارجية، المألوفة والشاذة.
والمسن الذي دأب في القراءة والدرس تبقي ذاكرته حتى مع ضعف الجسم الذي أدي إليه إهمال الرياضة ولو بلغ التسعين أو المئة. وصحيح أنه قد ينسي أين وضع المنديل أو الفرشاة، أوقد يجد صعوبة في استذكار الاسم لأحد المعارف، ولكنه إذا تحدث انثالت المعاني إلى ذهنه لأن عدته من الكلمات وفيرة مهيأة. ونحن — كما قلنا — نفكر بالكلمات كما نتحدث بها.
وعلي هذا يجب أن نتهيأ جميعًا للشيخوخة بتعود القراءة للجريدة اليومية التي تقينا في مستقبل الأعوام من النسيان، فتصون بذلك ذكاءنا ونشاطنا الذهني. ولهذا النشاط قيمة أخرى هي شعورنا بالكرامة، وبأننا لم نتهدم، وأن شخصيتنا لا تزال على استوائها بعيدة عن الانهيار.
ولكن منفعة القراءة بالطبع أكبر مما ذكرنا. فإن المثقف الذي دأب في القراءة، وجعل اقتناء الكتب وبحثها هوايته، يحتفظ بشباب الذهن ولو تجاوز المئة، وهو يجد اهتمامات مختلفة متجددة كل يوم تقريبًا، وهو يلتذ الحياة بمقدار سعة الآفاق التي يصل إليها ذهنه. وقد سبق أن قلنا إن الثقافة هي خير هواية في الشيخوخة. وكلنا يعرف ذلك المسن المتهدم الذي لزم بينته ولم يتعود القراءة. فهو يحس أنه ليس له حاضر أو مستقبل، ويعود إلى ذكريات الماضي البعيدة فيكبر من شأنها ويتحدث عنها، ولو كان قد تعود القراءة لما فعل هذا.
- (١)
منع النسيان باستبقاء الذاكرة حية بالكلمات.
- (٢)
صونه الكرامة بالشعور الدائم بسلامة الذهن وأثر ذلك في صحة النفس.
- (٣)
التوسع في الاهتمامات التي تشغل الفراغ وتجعلنا نستمتع بالحياة بدلًا من أن نتألم منها ونحس أن لنا حاضرًا مهمًّا ومستقبلًا أهم فلا ننكفئ إلى الماضي نعيش فيه ونجتره.