الاعتدال لا الزهد
يعد الاعتدال من الأخلاق «الطبيعية» أو المألوفة بين المثقفين الذين يشق عليهم التعصب أو التحزب. ذلك لأنهم يعرفون أكثر من المعارف التي تحمل على الانضواء إلى راية واحدة، ويعترضون بما للخصم من آراء قد ينكر قيمتها من هم أقل ثقافة منهم.
ولكن إذا كان الاعتدال في الرأي هو الصفة العامة في المثقفين، فإن الاعتدال في المعيشة يجب أيضًا أن يكون الصفة العامة لكل إنسان، وهذا الاعتدال أوجب للشيوخ مما هو للشبان؛ لأن الشاب يستطيع في أحيان كثيرة تحمل الإفراط والإسراف، أما المسنون فيتعرضون بهما للخطر.
وكثيرًا ما نجد رجلًا في الخمسين أو الستين قد وقع ميتًا بالسكتة (وقوف القلب) أو النقطة (انفجار الشريان) لأنه أجهد نفسه فوق طاقته وعدا وراء الترام. أو أنه سهر وأفرط في القصف فمات في الصباح. أو أنه حزن واستسلم للجزع فمات عقب ذلك. أو أنه أكل حتى أتخم، أو شرب من الخمر وأمعن، حتى مات. وكل هذا يستطيع الشاب أن يتحمله مع قليل أو كثير من الضرر. ولكن يصعب على المسنين أن يتحملوه، وهم يتعرضون به للموت.
ولهذا يجب أن يكون الاعتدال شعار المسنين: اعتدال في الشراب والطعام والسهر والجهد والحزن والغضب والرياضة. أي يجب أن يتجنبوا الإفراط والإسراف في الجد واللهو والحركة والعاطفة.
ولكن هناك فرقًا عظيمًا بين الاعتدال والزهد. فإننا بالأول نمارس عاداتنا التي ألفناها مدة الشباب ولكن في اعتدال، أي أن إيقاع الحياة لا يزال مطردًا ولكن في بطء لم يبطل. أما الزهد فمعناه الكف عن عاداتنا التي أحييناها ووجدنا فيها أيام الشباب ترفيهًا وترويجًا. وقد قلنا في الفصل السابق إنه حتى مع الاعتراف بضرر التدخين يجب على المدخن ألا يكف عنه إذا وجد في ذلك قهرًا واغتمامًا ثقيلين.
ونحن ننصح هنا بالاعتدال دون الزهد لشيئين: الأول فسيولوجي أو بالأحرى جسمي. والثاني نفسي.
فأعضاء الجسم التي تعودت النشاط والحركة تذوي وتترهل وتموت، أو تقارب الموت، إذا عمدنا إلى منعها من هذا النشاط. كعضلات الذراع التي نراها مترهلة في المسنين الذين استكانوا إلى الدعة بعد الحركة. أو كعضلات الشاب الذي اضطر — لحادث ما — إلى ربط ذراعه ومنعه من الحركة. فالكف التام يميت العضو أو يجعله كالميت. فإذا زهد المسن وكف عن عادات النشاط الفسيولوجي السابقة كفًّا تامًّا فإنه يستعجل لنفسه بهذا السلوك شيخوخة هرمة محطمة ثم موتًا آزفًا.
ثم هناك العامل النفسي، وهو أن شعور المسن بأنه مضطر إلى الكف التام، وأنه يجب أن يزهد فيما كان يحب، هذا الشعور يحدث له قهرًا واغتمامًا عظيمين. وهو يحس أنه يعيش بشروط، وأن الحياة ليست عضوية طبيعية، وأن زهده إنما هو إيماءة الموت له.
فمن الناحيتين الجسمية والنفسية يجب على المسن ألا يزهد، بل عليه أن يمارس جميع ألوان نشاطه أيام شبابه ولكن في اعتدال، أي مع البطء وتجنب الإسراف. ومع القناعة وتجنب الإفراط. فإذا كان قد تعود الخمر والتدخين فيجب ألا يتركهما إلا إذا أحس عاملًا داخليًا لهذا الترك. بل كذلك يجب ألا يترك أعماله اليومية أو رياضته، ويجب أن يستمتع بالشاي أو القهوة كما كان مألوف عاداته السابقة. بل يجب ألا يمنع نفسه حتى من الممارسة الجنسية توهما بأن قوته تتوافر وتدخر بهذا المنع، لأن نشاط الغريزة الجنسية ينبه أنحاء مختلفة من الجسم والذهن فيزيد الحيوية ويرقي الصحة العامة.
والزهد في صميمه معناه موت على مستوى غير كامل. ولكن الاعتدال حياة، بل حياة فضلي.