يجب ألا نستقيل من الحياة
مما يلاحظ في بلادنا أن كثيرًا من الموظفين عندما يبلغون الستين ويقالون من وظائفهم، يحسون كأنهم أقيلوا من الحياة، ففي الوقت الذي بلغوا فيه من العمر أينعه، يعمدون إلى البطالة القاتلة. وبدهي أن هذه البطالة بما تغرسه في أذهانهم من العقائد الخاطئة، من حيث عقم حياتهم الباقية، وأنهم زائدون على المجتمع؛ تحملهم على الركود والاغتمام وصرف الوقت فيما يزجيه أو يقتله كأنه عدو.
ونحن نعرف أن البطالة تضر حتى بالأشياء، فضلًا عن الأحياء. فإن الكوتشوك الجديد إذا ترك مدة طويلة في مكانه يجمد ويفقد مقدارًا كبيرًا من مرونته. والآلات التي لا تعمل تصدأ. فكيف بالحي الذي تعد الحركة من خصائص حياته؟ وكل منا قد رأى بالاختبار في نفسه أو في غيره، أن العضو الذي نربطه ونمنع حركته لأي سبب يفقد مرونتهم ويتجمد ويضعف.
والموظف الذي يغادر وظيفته في الحكومة وهو على أتم الصحة يجد بعد سنوات من الركود أنه قد بطؤ في حركته، وتثاقل في مشيته، وانحنى، وفقد خصائصه السابقة في هندام زيه ودقة لغته. وليس لكل هذا أصل في بناء جسمه، وإنما ترجع هذه الحال إلى اتجاه نفسي جديد هو إحساس باطن، قد لا يدري به، يوهمه أن إقالته من منصبه قد انطوت بالفعل على إقالته من الحياة. وأنه قد أصبح رجلًا غير نافع وأن المجتمع يطلب وفاته.
وهنا تتضح لنا الميزة العظمي للعمل الحر على الوظيفة الحكومية، فإن التاجر والزارع والصانع عندما يبلغ أحدهم الستين لا يجد هذا القرار الرسمي الذي يجده موظف الحكومة بأنه قد بلغ نهاية المنفعة من العمر. ولذلك يجد هذا الأثر السيكلوجي في نفسه، أو هذا النداء بأن يتقاعد ويتماوت، ولهذا السبب نرى كثيرًا من التجار في السبعين أو الثمانين يعملون في متاجرهم نشطين، على وجوههم أمارات اليقظة والتنبه، وفي أجسامهم تلك المرونة التي ترى في الشباب. ذلك أن نفوسهم يقظة باهتمامات الكسب، أو حتى بقوة الاندفاع السابق الذي لم يجد ما يعطله بقرار رسمي كهذا الذي تسلمه موظف الحكومة بأنه قد أحيل على المعاش أي على الشيخوخة.
وليس من حقنا أن نطالب الحكومة بإبقاء الموظفين بعد الستين كي تستبقي شبابهم ونشاطهم، ولكن يجب على كل موظف أن يعد نفسه منذ الخمسين أو الأربعين لهذا اليوم الذي يترك فيه الوظيفة ويعود عاطلًا كأي عامل، وعليه أن يخيل نفسه لنفسه: هل هو في ذلك اليوم الذي سيحال فيه على المعاش سيكون عاطلًا لا يحسن أي عمل على هذا الكوكب لخدمة أكثر من ألفي مليون نفس، وسيجد نفسه سمينًا مستكرشًا بطيء الحركة، قليل العناية بهندامه وزيه، حتى ليهمل حلق لحيته أو استحمامه؟ وسيجد نفسه بلا وعود أو مواعيد، يتعفن على كراسي القهوة ويقرأ الجريدة في غير إنعام أو لا يقرؤها؟ وسيجد نفسه بلا أصدقاء وبلا هدف وبلا هواية؟
حقًّا إن مثل هذا الخيال جدير بأن يحمله منذ الخمسين أو الأربعين على أن يتهيأ لهذه السن القادمة. وهذا التهيؤ جسمي ونفسي وذهني.
فأما التهيؤ الجسمي فهو بالعناية بالجسم حتى لا يسمن ويستكرش. فإن الاستكراش يعد من أسوأ عيوب الشيخوخة، وهو يؤدي إلى كسل الجسم الذي قد ينتهي بكسل النفس والذهن. وهذا زيادة على الأمراض التي يحدثها السمن، تبدأ تافهة ثم تتفاقم حتى تصير عبئًا في الستين والسبعين. فليشرع كل موظف منذ الأربعين في توقي السمن والمحافظة على النحافة، وذلك بتجنب النهم والأطعمة الدسمة مع ممارسة القليل من الرياضة. وكذلك يجب أن نزور الطبيب ونحن في الصحة، أي يجب ألا ننتظر المرض: لأن الأمراض نذرًا لا يحسها الجسم، ولكن المخبار أو المسبار يكشفها. وعندما نعرف هذه النذر نستطيع أن نكيف معيشتنا وسلوكنا في الطعام واللباس والحركة بما يقضي عليها قبل أن تتفاقم. أي يجب أن نعالج أجسامنا من وقت لآخر بالترميمات الخفيفة قل أن يضطرنا الإهمال إلى المعالجة بالهدم والجراحة.
أما التهيؤ النفسي فيجب أيضًا أن نبدأه منذ الأربعين أو الخمسين إذا لم نكن قد بدأناه قبل ذلك بعشرين سنة. وذلك باهتمامات مختلفة اجتماعية وفنية وذهنية واقتصادية. فعلى الموظف أن يشترك في الأندية والجمعيات وأن يعنى باختيار الأصدقاء، وأن يرتاد المسارح والملاهي، وأن تكون له مشاركة — مهما تكن صغيرة — في النشاط الاجتماعي أو الفني الذي يحوطه. وذلك كي تبقى نفسه حية بيقظة عواطفه. وحتى لا يحمله خواء النفس على الوقوع فيما يضر من عادات الإدمان في التدخين أو الشراب أو الأكل. وهذا النشاط الاجتماعي جدير بأن يبقى إلى ما بعد الستين والسبعين ويحول دون الركود.
وأما التهيؤ الذهني فيحتاج إلى المشاركة في الحركة الذهنية، فيجب أن نقرأ الجريدة بعناية كل يوم حتى يعود الاهتمام بالسياسة — القطرية والعالمية — جزءًا من نشاطنا لا نستطيع تركه بعد الستين والسبعين ومحال أن نغرس هذا الاهتمام إذا لم تكن بذوره قد زرعت قبل الخمسين. والاهتمام بالجريدة والمجلة يجب أن يحملنا على الاهتمام بقراءة الكتب والعناية بالحركة الفكرية العالمية. ومن أعظم الميزات للقراءة، ونعني هنا جعل القراءة هواية نتعلق بها، أنها تحول دون ذلك النسيان الذي كثيرًا ما يعرقل التفكير المثمر، ويجلب الاستهزاء بالمسن، ويوحى إليه الضعف والهزيمة، فيزداد سوءًا وانحطاطًا، فإننا ما دمنا نقرأ كل يوم تبقى المعاني ماثلة في أذهاننا بشبكة من الكلمات، فتبقى الذاكرة حية والتفكير مثمرًا حتى ولو بلغنا المئة من العمر. أما الذين لا يقرءون أو لا يجعلون القراءة هواية، فإن التصلب الشرياني يؤدي عندهم إلى النسيان. ولما كان ما عرفوه من الكلمات قليلًا فإن هذه القلة يظهر أثرها في تفكيرهم، إذ إننا نفكر بالكلمات.
وإن كان الموظف قد أعد جسمه بالنحافة والصحة ونفسه بالاهتمامات العاطفية، وذهنه بالثقافة، فإنه يستطيع أن يستبقي حيويته بعد الستين عشرات من السنين. ولكن مع ذلك يجب أن نعرف قيمة النظام الذي يبين لنا مقدار العمل والمواعيد. ولذلك يحسن بكل موظف أقيل من عمله عند الستين أن يعمد فورًا إلى هذه الدنيا ويبحث عن عمل مفيد لذيذ حتى يحس أنه عضو نافع في المجتمع فيزداد سرورًا وتفاؤلًا وحتى يحمله نظام العمل على اليقظة الدائمة، يقظة النفس والذهن التي تستبقي يقظة الجسم. وذلك أن في أغلب الأحيان يكون ترهل الجسم نتيجة لركود النفس والذهن.
وهناك من الموظفين أولئك المحظوظين الذين تعلقوا بهواية جدية وهم في وظائفهم، فأولوها عنايتهم وتعهدوها بالوقت والمال حتى برزوا فيها. فهؤلاء لا يحتاجون لقراءة هذا الكتاب لأن الهواية التي ستشغل فراغهم بعد الستين ستجعلهم يعيشون في الشباب الدائم ولو تجاوزا المئة. وقد تكون هذه الهواية دراسة خاصة تجعلهم ولو تجاوزا المئة. وقد تكون هذه الهواية دراسة خاصة تحملهم على التأليف، أو عناية بالزراعة، أو هوسًا في شراء التحف، أو برًا يحمل طابع الغيرة والحماسة في إصلاح معين.
وأولى من الهواية كفاح إنساني كبير الشأن لخدمة البشر. يحمل على الدراسة الدائمة، ومتابعة الأحداث ومحاولة التأثير فيه لخير الإنسانية، وما دمنا مكافحين فنحن شباب.
ويرى القارئ أننا قد خصصنا هذا الفصل لموظف الحكومة الذي يمتاز عليه العاملون في العمل الحر، لأن أعمالهم لا تنقطع عند الستين فهم يمارسونها إلى يوم وفاتهم تقريبًا. والوفاة لهذا السبب تتأخر إلى ما بعد السبعين والثمانين. وهم في العادة قد اختاروا عملهم، فهو عندهم مرتزق وهواية. ولذلك لا يسأمون حياتهم، ولا يحسون ذلك الخواء الذي يحسه الموظف بعد الستين.
ولم نمس موضوع المرأة المسنة في هذا الفصل، ذلك لأن ظروف المرأة المصرية خاصة، وهي تحتاج إلى فصل مفرد.