مطبخنا يعجل الشيخوخة المتهدمة
من العجب أن مائدتنا قد أصبحت مائدة متمدنة، كل منا يأكل من طبقه الخاص وحوله عدته من سكين وشوكه وملعقة. ولكن مطبخنا لا يزال كما كان قبل مائة، بل خمسمائة، سنة. فإننا ما زلنا نختزن السمن في بيوتنا كأننا نخشى قحطًا، مع أن حوانيتنا في أصغر شوارعنا تبيع الزبدة. وفرق عظيم بين الزبدة والسمن، لأن الأولى تحتوي على الفيتامينات والثاني يخلو منها. ثم إن اختزان السمن يجرئ الطباخ على الإسراف في استعماله، وهو يخفي به عيوب فنه. ولذلك نجد أن جميع أطعمتنا دسمة تؤدي إلى تضخمنا واستكراشنا، بل هي ترهقنا عقب الغداء حتى إن كثيرًا من الشبان ينامون كأنهم شيوخ متهدمون يقيلون. بل الواقع أن وجبة الغداء الثقيلة الدسمة تحدث دوارًا لكل منا، ومن هنا هذا الخمول الذي نحسه بعدها، ونحن نقاوم هذا الخمول في كسل وتثاؤب، أو نستسلم له وننام، وفي كلتا الحالين نفقد النشاط والحيوية.
وأول إصلاح يحتاج إليه مطبخنا هو منع اختزان السمن في البيوت. وليس هذا تكليفًا باهظًا لربات البيوت المصريات، فإن لهن أسوة في ذلك بالأجنبيات المقيمات في مصر. ويجب أن يتعلمن كيف يطبخن بالقليل من الزبدة الصابحة دون الكثير من السمن المخزون.
ومن العيوب المألوفة في طعامنا أن أكثره خبز ورز ومواد نشوية أخرى، وأقله خضروات. وهذا يؤدي إلى تخضمنا وترهلنا، وانتقاص نشاطنا، وتعريضنا لأمراض مختلفة. إذ لا تكاد تخلو عائلة من الطبقة المتوسطة في مصر من البول السكري يصيب أحد أفرادها المتضخمين لوفرة الدسم في الطعام أو لكثرة الخبز والرز. وهذا المرض يختصر الحياة أو يؤرقها ويشقيها بألوان من العجز.
ومما يضاف إلى هذا أن استهلاكنا للبن ومشتقاته قليل بالمقارنة إلى استهلاك الأوربيين له. وهذا على الرغم مما قالوه وأعادوه بأننا أمة زراعية. وصحيح أننا أمة زراعية، ولكن للتخصص في زراعة القطن فقط، أما فيما عدا ذلك فلا نكاد ندري شيئا. وأولئك الذين زاروا فرنسا أو هولندا يعرفون أن هناك أكثر من خمسين نوعًا من الجبن كلها تستمرأ وتؤكل، ولكن الإنجليز المتسلطين علينا في مصر لم يبالوا في كلية الزراعة إلا تعليم الطلبة زراعة القطن، لكي يتوافر ويرخص للمصانع الأجنبية.
واللبن ومشتقاته هما خير الأطعمة لأي إنسان في أي سن، وقد اقترحت لهذا السبب قبل سنوات أن يكون أساس الاشتراك في جمعيات التعاون في الريف تأمين الجاموسة أو البقرة. حتى إذا ماتت دفع ثمنها فورًا لصاحبها لكي يسارع إلى شراء غيرها. ثم تكون من هذا التأمين بذرة للإكثار من اللبن وإيجاد المصانع للجبن.
ومما يتفق وهذا البحث أن نقول إن وجبة الغداء عندنا وهي الوجبة الأصلية، مع أن النهار للنشاط ويحتاج إلى طعام خفيف لا يرهق. ولذلك يحسن بنا جميعًا أن نجعل الغداء خفيفًا قليل الخبز أو بلا خبز. أما الوجبة الأصلية فتوزع بين الفطور والعشاء.
وهذا الذي قلنا بشأن الطعام لا يتعين على الصبي أو الشاب دون الشيخ أو الكهل؛ لأن الجميع سواء فيه. وإذا نحن اتبعنا في بيوتنا الإقلال من السمن والمواد النشوية، وأكثرنا من الخضراوات واللبن ومشتقاته، فإن الصحة العامة ترتقي ويكون لهذا أثره بعد الخمسين التي نبلغها في وفرة من الصحة والنشاط.
ويحتاج المسنون عامة إلى وجبات خفيفة قد تكون أربعًا بدلًا من ثلاث، بعيدة عن الدسم، مع الإقلال من الخبز والرز ونحوهما من المواد النشوية، والإكثار من الخضراوات المطبوخة، وهذا إلى اللبن ومشتقاته. وهناك من الأطباء من يصر على إغلاء اللبن. وكل ما أستطيع أن أقوله هنا أنه قد مضي علينا، في بيتنا، نحو ثلاثين سنة ونحن جميعًا نتناول اللبن نيئًا كما هو من البائع، ولم يحدث ما يدعو إلى تغيير هذا النظام، وللقارئ أن يحكم.
ويميل كثيرون عقب الأربعين والخمسين إلى زيادة الضغط للشرايين، ولذلك يحسن بالمسنين في الطعام تجنب الأعضاء الداخلية مثل القلب والكبد والكليتين، وإيثار لحوم السمك والدجاج والطيور على لحوم الماشية. ولكن إذا كان المسن لا يجد أنه ضائق بالحرمان من اللحم، فإنه يحسن إذا تجنبه كله بجميع أنواع واعتاض عنه بمشتقات اللبن وبالقطاني كالفول واللوبيا والفاصوليا والعدس، وذلك لكي لا يزيد ضغط الدم للشرايين.
وليس الطعام حاجة جسمية مادية فقط، ولذلك يجب أن نتأنق في اختياره، وأن نزين المائدة بالزهور والأشربة الجميلة والآنية الفاخرة حتى يستحيل الغداء أو العشاء متعة فنية كما هو غذاء مادي. والتأنق يكف عن الالتهام الحيواني الذي يجعلنا نشمئز من كثير من الآكلين. وإذا أحلنا المائدة من مجموعة من اللحم والخبز والخضراوات إلى نظام جميل أنيق من الشراب والطعام، فإننا نأكل في مهل واستمراء وتمزز، ويقوم التأنق عندئذ مقام الالتهام.
ولهذه الأسباب جميعها يجب أن يلح كل مسن على إصلاح مطبخه وتزيين مائدته. والفائدة هنا ليست له وحدة بل لكل أعضاء البيت في أية سن كانوا.
بقيت كلمة هنا أقوالها عن الخمور، وهي أنها ضرورية لكل من جاوز سن الستين؛ لأنها توسع الشرايين في الشيخوخة، وجميع الأوربيين يشربونها، وهم أطول أعمارًا وأحسن صحة منا.
ثم هي تفكك العقد التي تحدثها مشكلات الحياة لنا، كما أنها تجعلنا نستغرق في نوم عميق طول الليل نستيقظ في صباحه ونحن منتعشون بعد الراحة.
ومن الميزات الكبرى للخمور أنها تحمينا من شرور المخدرات المظلمة، مثل الحشيش والأفيون والمورفين والكوكئين والهيروئين، هذه المخدرات التي لا تعرفها أوربا لأن أبناءها يشربون الخمور.
ويكفي أن نقول في مدح الخمور إن باستير العظيم، الذي كان أول من عرف أن الميكروبات تحدث الأمراض، هذا العظيم قد قال عن الخمور إنها أعظم المشروبات الإنسانية.