المرأة المصرية بعد الخمسين
أعظم ما بعث المؤلف على وضع هذا الكتاب هو الأثر المحزن الذي عاينه في كثير من موظفي الحكومة عند إحالتهم إلى المعاش في سن الستين. فإن الصدمة تبدو عنيفة في كثير منهم، مع أنهم كانوا ينتظرونها. ولكن الانتظار كان ذهنيًّا، وممارسة الوظيفة كانت حسية. ولذلك كان الحس يتغلب على الذهن. فالموظف يحس عقب الإحالة أنه عقيم بشهادة الحكومة. ثم هو يجد البرهان على عقمه، وهو أنه لا يحسن عملًا آخر. لأن الوظيفة كانت تستوعب كل اهتمامه النفسي، أو بالأحرى كانت تمنعه من اهتمامات نفسية أخرى. لأنها كانت تزوده بالكفاية الاقتصادية والاحترام الاجتماعي، وكان هو قانعًا بكل ذلك، فما هو أن تذهب عنه الوظيفة حتى يحس أن الاحترام الاجتماعي الذي كان يستمتع به قد زال. ولذلك يذبل، ويتعفن، لتعطله، بل أحيانًا يشغب كالأطفال لهذا التعطل نفسه ويشقى بنفسه كما يشقي به المحيطون به. وقد رسمنا في هذا الكتاب خططًا ومناهج لكي يتوقى بها المسن هذه الحال، ولكي يستقبل هذه الدنيا بعد الستين والسبعين وهو حي يقظ مشغول النفس والذهن.
ولذلك فإن هذا الكتاب للرجال قبل أن يكون للنساء. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نخص فصلًا موجزًا للمرأة بعد الخمسين. وواضح لكل رجل متمدن في مصر أن مجتمعنا أسوأ مجتمع على هذا الكوكب للمرأة. ولكن قبل أن نبحث الناحية الاجتماعية التي تؤثر في المرأة المصرية يجب أن نلتفت قليلًا إلى الناحية البيولوجية.
فإن الانتقال الطوري — أي الانتقال من طور الشباب إلى طور الشيخوخة — يسير في الرجال بطيئًا حوالي الستين أو قبل ذلك بسنوات قليلة. وكثير من الرجال لا يحس هذا الانتقال لتدرجه البطيء، وأعراضه تتضح في البعض ولا يكاد يحسها الآخرون، مثل عجز بعض الأعضاء الجنسية وألمها، ومثل ضعف النظر، والضعف الجنسي، والقليل من النسيان، والرغبة في الاستراحة بالقيلولة، والعجز عن تحمل الإسراف في الطعام أو الشراب، أو القيام بمجهود جسمي عنيف.
ولكن هذا الانتقال يحدث في تدرج وتفاوت، فما يحسه الواحد قد لا يحسه الآخر. أما في المرأة فإن الانتقال الطوري يحدث في الخمسين أو قبيلها، وهو على وجه عام يطرأ في عنف، وعلامته الواضحة انقطاع الحيض. وكثير من النساء يتحملن هذا الانتقال بلا ألم أو اهتمام. ولكن كثيرًا أيضًا ما يتألمن منه جسمًا وذهنًا ونفسًا. وقد يحدث في حالات قليلة خبال ذهني خفيف، كما تحدث اتجاهات عاطفية تعد إلى حد ما شاذة. أما في الجسم فقد يؤدي نزف الدم إلى اضطرابات تحتاج إلى علاج.
والمرأة تحتاج في هذه السن إلى أن تعنى بنفسها، وأن تعرف هذه الأحوال وتستعد لها. كما يجب على المحيطين بها في هذه الظروف أن يكونوا أقرب الناس وأحبهم إليها، حتى ينظروا إليها بعطف وتبصر. ومتى مرت هذه الأزمة في سلام، فإن المرأة تسير إلى الستين والسبعين كالرجال، وينطبق عليها كل ما ينطبق عليهم مما ذكرنا في هذا الكتاب.
ولكن مجتمعنا يعامل المرأة معاملة خاصة تختلف عن معاملته للرجل، ولذلك فإن مصاعبها في الشيخوخة أكبر من مصاعبه. ومن الملاحظات المألوفة أن الانهيار العقلي عند المرأة يسرع إليها في الشيخوخة، بينما هو يبطئ في الرجل. ولا نكاد نعرف سببًا لهذا إلا حبسة البيت وضيق الآفاق التي تهتم بها المرأة. وإلى ضيق هذه الآفاق الذهنية والعاطفية، ينضاف ضيق المجال لحركة المرأة. ولذلك لا تكاد تصل إلى الستين حتى يركد جسمها وذهنها وتبدو في شيخوخة آمنة. في حين يكون زميلها الرجل في نشاط، يجوب شوارع المدنية في انطلاق وحرية، ويقرأ الصحف، وينضوي إلى الأحزاب، ويكافح في كسب العيش أو في الحركات السياسية أو الاجتماعية. وقد أوصلناها نحن إلى هذه الحال، لأننا نعكس الوضع الاجتماعي إذ نقول إن المرأة خلقت للبيت بدلًا من أن نقول إن البيت خلق للمرأة. وأحيانًا نقول إن المرأة خلقت لأن تكون زوجة وأمًّا، وننسى أنها قبل كل هذا يجب أن تكون إنسانًا غايته أن يستمتع بهذه الدنيا، وأن يرقي شخصيته بالطريقة السوية التي يراها هو دون إملاء من آخر.
وكثير من نسائنا يعشن في خواء النفس والذهن … ومن هنا هذا السمن الذي يقعن فيه. لأن سأم الحياة في حبسة البيت، وضيق المجال الاجتماعي، يحملان المرأة في بيوتنا على الترفيه عن نفسها بالزيادة في تناول الطعام، والتسلي بأكل اللب طوال النهار. فهي تزجي السأم بهذه الملذات الصغيرة، وهي تتضخم بسببها. ثم يدخل في الشيخوخة وهي مرهقة بعبء من الشحم هو أسوأ الأعباء للشيخوخة.
ثم هي في كثير من الأحيان لا تتعلم، أو يقصر تعليمها على التافه من المعارف التي لا تبسط لها الدنيا وتبعث فيها الاهتمامات الحية طيلة عمرها. ولذلك تضعف ذاكرتها في سن مبكرة قبل الرجال، لأن مدخرها من الكلمات ليس كبيرًا، والكلمات — كلما قلنا — هي المعاني، وهي وسيلة التفكير.
وكل ما نستطيع أن نقول هنا إنه يجب أن يتغير المجتمع عندنا في نظرته للمرأة المصرية. وأن فتياتنا يجب أن يعاملن كمعاملة الرجل سواء في طفولة البيت والمدرسة والشباب والشيوخة. وأنه يجب أن نفهم من الجمال أنه الشخصية الناضجة في المرأة، تلك الشخصية اليانعة التي تهيأت ونمت وارتقت في الحرية وكسب المعارف والاختبارات والعمل المنتج ومناقشة الآراء والعقائد.
وإذا عاشت المرأة هذه المعيشة، فإنها جديرة بأن تصل إلى الثمانين والتسعين، بل المئة، وهي مستمتعة بكرامتها وقواها الذهنية والجسمية التي يستمتع بها المسنون من الرجال.
ولكن مع كل هذا الذي قلنا يجب ألا يفوتنا أن نذكر أن صدمة الإحالة إلى المعاش، التي يعانيها موظفو الحكومة، لا تعانيها المرأة. فهي بعد الستين تجد أنها لا تزال في البيت تمارس الأعمال والواجبات التي كانت تمارسها قبل ذلك. فهي في شيخوختها تبقى في مكانها الذي كانت فيه وهي شابة. وقد تعودت أن تجد لذة داخل البيت قبل الستين والخمسين، فبقاؤها بالبيت في السبعين والثمانين لا يثقل عليها ولا يطالبها بتغيير نفسي. أما الرجل الذي اعتاد العمل خارج البيت، والتذ المتع الاجتماعية في الوظيفة والنادي والقهوة والتنقل وكسب العيش، فإنه يجد أن الخلوة القهرية في البيت مدة الشيخوخة ثقيلة. وهذا هو ما نلاحظه في المسنين الذين تقدمت بهم السن واضطرهم مرض أو ضعف إلى ملازمة البيت. أما المسن الذي صان صحته وعني بهواية ما تشغل ذهنه ونفسه، فإنه يعمل وينشط خارج البيت مهما تقدمت به السن. ولا يحتاج إلى خلوة البيت إلا أيامًا أو أسابيع وقت التوعك أو المرض.