الروح العصري والمسنون
يكره الشبان مجالسة الشيوخ اعتقادًا بأن هؤلاء قدماء بعيدون عن الروح العصري. إذا قعدوا نعوا على الشبان والفتيات عصريتهم التي ينعتونها بأنها تبذل، أو حتى تهتك. والشيخ في نظر الشباب محافظ، يبالغ في محافظته إلى حد الرجعية. والشباب في نظر الشيخ حر إلى حد الانحلال. ومن هنا التصادم الذي تصادفنا كل عام، بل كل وقت، أمثلة منه، مما يبعث على التسلية في مقالات بعض المجلات الأسبوعية. فالشيخ يطلب الرزانة والوقار وتغطية الساقين على الشواطئ والفصل بين الجنسين. والشباب يرغب في الاختلاط والحرية والانطلاق.
ولسنا هنا بسبيل الدفاع عن إحدى الوجهتين، لكن مما لا شك فيه أن المسنين، إذا أهملوا أنفسهم، تخلفوا، ويبدو تخلفهم عندئذ في كل شيء تقريبًا، في عادات التأنق المادي والفكري، وفي إهمال الآراء العصرية السياسية والاجتماعية. بل لقد لاحظت بنفسي أن بعض الشيوخ يلتزمون اللغة التي كانت مألوفة قبل أربعين عامًا، ولا يعنون باتخاذ الكلمات الجديدة. وهذا واضح في الصحفيين القدامى.
ونحن نعزف في هذا الكتاب على نغمة التطور، أي التجدد الذي لا ينقطع، وهذا التجدد جدير بأن يجعلنا حين نناهز الستين والسبعين على دراية وألفة بالآراء العصرية، فنجاري الروح العصري ونفكر بالأساليب الجديدة التي اقتضتها الظروف الجديدة.
ولكل عصر رموزه اللغوية والتفكيرية والعقيدية في السياسة والأدب والاجتماع، فإذا تخلف المسن عن تفهم هذه الرموز، واصطناعها، فإنه يقطع الصلة بينه وبين الجيل الجديد. فيكره الشبان مجالسته ومحادثته ويقاطعونه، ويجد هو من هذه الحال ما يوهمه الاحتقار والنبذ والإطراح.
وأعظم ما يصل بيننا وبين الروح العصري هو الاتصال المستمر بالجريدة والمجلة والكتاب. فإن المسن في حاجة إلى الاطلاع والاختلاط حتى لا ينزوي راهبًا يجتر أيام الصبا والشباب اجترارًا عقيمًا. والمسنون عندما يجارون الروح العصري ينتفعون بما يكسبونه من شباب هذا الروح وجدته. ثم هم يزدادون منفعة للشباب، لأنهم يستطيعون المقارنة بين الجديد والقديم، فيلقون أضواء تنير وتفتح البصائر للمستقبل بين الشبان.
وكثيرًا ما تغرس العادات الاجتماعية في أنفسنا «غرائز» أو عواطف لها قوة الغريزة الطبيعية، حتى ليشق علينا مخالفتها. أذكر أني رأيت حوالي ١٩٠٧ شابًّا مصريًّا قد حلق شاربيه، ولم أكن قد رأيت مثل هذا المنظر قبل هذا التاريخ، إذ كنا في مصر نعد الشاربين المؤللين المذنبين عنوان الرجولة. فلما تأملت الرجل شملني غثيان. والآن لا نكاد نرى رجلًا لا يحلق شاربيه. وكذلك عندما شاعت عادة الاستغناء عن الجوارب بين الفتيات والسيدات هب كثيرون من المسنين في ذعر كأن الحياء قد انمحى من الدنيا. والآن نرى الأرجل العارية فلا ننظر إليها.
وما يحدث في الزي والملبس يحدث في الأفكار والآراء والعقائد. وعلي المسن أن يحتفظ بلدونته الذهنية ويقبل الآراء العصرية ولا يقف جامدًا ناعيًا ساخطًا، فإن فالدنيا لا تنهار لحلق الشاربين، أو ترك الجوارب، أو نزع الطربوش، أو اللعب في ملابس البحر على الشواطئ. وهو — أي الشيخ المسن — حين يصر على محافظته وجموده لا يجد من الشبان غير التجنب، مع أنه في حاجة إلى الاختلاط بهم كما أنهم هم في حاجة أيضًا إلى الاختلاط به.