سعد زغلول
في مصر كثيرون من رجالنا المتوفين والأحياء الذي نستطيع أن نقتدي بهم، ونجد العبرة في حياة الشباب التي عاشوها بعد الخمسين والستين ونحن نعتبر هنا بحياة سعد الذي كان نقطة الانضواء في الجهاد الوطني، والذي استطاع أن يجمع أماني الشعب وآماله المشتتة في بؤرة رأى العالم اشتعالها مع الإعجاب سنة ١٩١٩.
وقد مات سعد بعد السبعين وهو شاب لم يعرف شيخوخة الذهن أو النفس. وأذكر أني زرته قبيل وفاته، قبل سنة ١٩٢٧، فرأيت جسمًا شامخًا ونفسًا شابة وذهنًا يقظًا. كانت ساقه ترتعش، وكان ينصب ظهره بجهد وهو قاعد على كرسيه، ولكنه كان يتحدث في نشاط ومنطق وحماسة جعلت كل عضلات وجهة تتحرك. وأذكر أني ذهلت لهذه الحيوية. فالتفت إليها، ولم ألتفت إلى موضوع الحديث، حتى احتاج هو إلى أن ينبهني بعنف.
وقد رأي سعد محنًا كثيرة في حياته، ولكنه أحالها إلى اختبارات مفيدة جنى منها الحكمة، واستخلص منها فلسفة هي الجهاد من أجل وطنه. فقد نشأ أزهريًّا، ولكنه لم يرتض لنفسه القناعة بالثقافة الأزهرية. ولذلك ثراه حوالي سنة ١٨٨٠ قد انضم إلى الشيخ محمد عبده يكتب في الوقائع المصرية. فلما انتهت الثورة العرابية كان هو من أبطالها، وقد حبس لهذا السبب عقب الاحتلال البريطاني.
وكان يختار أصدقاءه كما يختار أحدنا كتابًا مفيدًا يرجو أن ينتفع مما فيه من نور ومعرفة. وقد اكتسب النور والمعرفة من صداقته لمحمد عبده والأفغاني وقاسم أمين والأميرة نازلي. فانتقل ذهنه من الشرق إلى الغرب.
واحترف المحاماة بعد أن تجاوز الثلاثين. ولكنه وجد ثقافته ناقصة، فعاد تلميذًا، ودرس اللغة الفرنسية ودرس القوانين الفرنسية والمصرية وتقدم لامتحان الدبلوم وهو في الأربعين. ونجح هذا التلميذ الأربعيني، وعاد إلى المحاكم المصرية يستشهد في مرافعاته بفقهاء الأوربيين كما يستشهد بفقهاء العرب.
ثم عين قاضيًا، فاستقل في قضائه، واستنبط الأحكام في ذكاء وحكمه، حتى لنعد الفترة التي أمضاها من حياته في القضاء المصري تقليدًا ساميًا لكل قاض بعده.
ثم ترك القضاء واشتغل بالسياسة، فكان يكتب المقالات التي تنبه الأمة، باسمه أحيانًا وبغير اسمه أحيانًا أخرى، في المؤيد. ثم صار بعد ذلك رئيسًا للجمعية التشريعية، وكانت حقوقها قليلة في سن القوانين، كما كان نظامها غير ديمقراطي. ولكنها استحالت عندما صار هو رئيسًا لها، إلى هيئة كبيرة الخطورة يحسب لها القيصريون من الأجانب والمستبدون من الوطنيين حسابًا.
فلما كانت الحرب الكبرى الأولى، وعطلت الجمعية التشريعية، أبي أن يتقاعد ويتثاءب. وكان قد بلغ الستين أو تجاوزها، فعمد إلى اللغة الألمانية يدرسها، وعاد تلميذا للمرة الثانية. أي أنه في السن التي يحال فيها موظفونا على المعاش، ويقال لهم إنهم قد أصبحوا سقطًا لا قيمة له، عاد هو شابًّا يذاكر دروسه ويحفظ قواعد النحو الألماني الشاق. وقد علل اللورد لويد هذا النشاط بأن سعد رأى نجمًا يأفل ونجمًا يبزغ في تلك الحرب، وأن المستقبل ينبئ بسيادة ألمانيا، فاستعد له بتعلم الألمانية. ولكن اللورد لويد لم يرتفع في أخلاقه ومثلياته إلى أن يفهم سعد. لأن الحقيقة أن سعد، عقب انتصارات ألمانيا في الحرب الماضية، رأي حتمًا عليه أن يعرف هذه الحضارة الألمانية التي تسود وسط أوربا كله. ولذلك أقبل على اللغة الألمانية للشهوة الثقافية لا أكثر، تلك الشهوة السامية التي يتسم بها الشباب اليقظ.
وكان سعد عصري الذهن، وهذه العصرية كانت تجدد شبابه وتنبه فيه عواطف مختلفة. ففي إحدى الخطب التي ألقاها، أبدى أسفه لأن الحضور كانوا من الرجال فقط دون النساء. وحرية المرأة المصرية، التي هي فخرنا الآن، هي ثمرة النهضة الوطنية التي أثارها سعد ووجها سنة ١٩١٩. ومعه أنه كان خطيبًا، يقدر للكلمة رنينها ودويها وإيحاءها، فإنه كان يكره الثرثرة السخيفة، حتى إن الأستاذ نجيب شاهين ذكر عنه أنه عندما شاعت بين كتابنا كلمة «فحسب» بدلًا من «فقط» تحدث في لهجة الاحتقار عن هذه الثرثرة اللغوية، وقال: ومالها «فقط» نستعمل «فحسب» بدلًا منها ليه؟
وقد عاش طيلة عمره وهو نحيف لم يسمن قط. وقد رأيته ذات مرة حوالي سنة ١٩١١ وقد وصل إلى الضفة الغربية للنيل فنزل من عربته التي وقفت إلى رصيف الشارع وسار هو في نشاط. وكان يحرص على اعتدال قامته وكبرياء سحنته كأنه كان يستوحي من هذه المظاهر نشاطًا نفسيًّا.
ومن سنة ١٩١٩ إلى سنة ١٩٢٧ كان يجاهد جبالًا من المصاعب، وقد تحملها جميعًا في حيوية وحكمة وعالجها بالصبر الحكيم أحيانًا وأحيانًا بالانفجار المخيف. وقام بهذا الكفاح وهو في سن تترجح بين ٦٥ و٧٣.
ونحن نجني الآن ثمرات جهاده في رقينا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن على كل مسن أن يتأمل هذه الحياة المثمرة، وأن يعرف أن سعد عاش بعد الستين ١٣ سنة كان فيها تلميذًا يدرس اللغات ومجاهدًا يكافح القيصرية والاستبداد. وعليه أن يذكر أن فضل سعد في هذا الجهاد كبير، ولكن لهذا الجهاد نفسه فضلًا أيضًا على سعد لأنه استأنف له شبابه ثماني سنوات حفلت بالمجد والحكمة.