عبد العزيز فهمي
انتهيت من قراءة «مدونة يوستنيان في الفقه الروماني»، التي قام بترجمتها إلى اللغة العربية الأستاذ عبد العزيز فهمي (باشا). والقارئ لهذه المدونة تصدمه من صفحة إلى أخرى تلك الأفكار والآراء العتيقة الجديدة، التي كانت حية في القرن السادس للميلاد، ولا تزال حية في أيامنا، وخاصة في هذا الشرق العربي الذي عاش على كثير من مبادئها في القرون الثلاثة عشر الأخيرة.
وقد زرت عبد العزيز (باشا) قبل أشهر، حين كان لا يزال يترجم وينقح في هذه المدونة. فرأيت شابًّا في السابعة والسبعين من عمره، شابًّا قد تغلبت صحة نفسه على ضعف جسمه، وهو ضامر البنية، يكاد الجلد يلصق بالعظم، ولكنه يقظ الذهن ملتمع العينين يتحدث في انتباه وذكاء، وهذا إلى ثقافة واسعة تتناول التاريخ والقانون واللغة والأدب.
وأنا أحد الذين تابعوا حياة عبد العزيز فهمي (باشا) بعد أن كان محاميًا إلى أن اشتغل بالسياسة ثم بالقضاء. وهناك كثيرون ممن يكرهون رموزه السياسية، وقد أكون أنا أحدهم، ولكن إعجابي بنشاطه وبأسلوب الحياة الذي اتخذه، هذا الأسلوب الذي يحمله الآن إلى سن الثمانين القريبة دون أن يحس عبء السنين، بل دون أن يركد أو يتأس في شيخوخة هامدة — هذا الأسلوب هو الذي يبعث إعجابي.
ويذكر القراء أنه ألقى بيننا قنبلة منذ سنتين، حين دعانا إلى اتخاذ الخط اللاتيني. فإن بصيرته للمستقبل، وحبه لوطنه، وذكاءه في التمييز بين الثقافات، ونظرته العالمية الواسعة، كل هذا قد جعله يدرس لغتنا عامة والخط العربي خاصة. وينتهي إلى القرار الذي لا بد أن ننتهي إليه نحن جميعًا في يوم قريب، وهو اتخاذ الخط اللاتيني الذي يربطنا برباط ثقافي مع الأمم المتمدنة كما يجعل لغتنا أيسر تعلمًا وأكثر إيضاحًا.
وعلي جميع المسنين الشائخين، الذين يتقاعدون ويتثاءبون، أن يدرسوا حياة عبد العزيز فهمي (باشا)، فإنه لم يشرب الخمر قط، وهو في قريته قد أصلح وربي، وعاون الفقير والمحتاج. وأنهض القاعدين، حتى أصبح «كفر المصيلحي» من أعظم القرى ثقافة وتعليمًا، بل حتى صار أبناء هذا الكفر الذي لا يزال آباؤهم يعملون «مرابعين» في الحقول، أصبح هؤلاء الأبناء موظفين أو تجارًا أو معلمين أو صانعين.
وقد عاش طيلة حياته يعمل ويخدم ويتعب، ولا يريح نفسه، ولا يعرف البذخ، وهو مستقل إلى مدى بعيد. وقد جلب عليه هذا الاستقلال متاعب كبيرة في السياسة والقضاء معًا، وأخيرًا جلب عليه سخط المحافظين حين ناشد بلاده باتخاذ الخط اللاتيني.
وقد كان هناك باشوات همهم واهتمامهم ينحصران في اقتناء المال وشراء الأرض وهم يكدون في هذا الجمع كأنهم سيعيشون إلى مليون سنة. حتى لنحتاج إلى أن نسأل: هل هم يملكون الأرض أم أن الأرض هي التي تملكهم؟
ولكن عبد العزيز فهمي (باشا) لم يعن قط بهذه المطامع، ولذلك لا يملك أكثر من مئة فدان معظمها ميراث. وهو مع هذا «الفقر» قد حصل على أعظم مقدار من الاحترام بين المستنيرين المستقلين من المصريين، مما لا يحصل على شيء قريب منه معظم (الباشوات).
وأعظم ما يعينه على أن يستبقي الشباب في شيخوخته هو يقظته واهتماماته المتعددة. فهو يدرس قوانين يوستنيان كما لو كان تلميذًا. وهو يترجم في عناية وفحص ومراجعة. وهو يناقش في اللغة العربية، وينظر إليها بالعقل المستقبلي والعين التاريخية. وهذه الدراسات تفتق ذهنه بالذكاء، وتوقظ نفسه بالاهتمام. وهو بعيد كل البعد عن الملذات المألوفة. ولو نظرت إليه وهو يأكل، لحسبته عصفورًا ينقر، لقلة طعامه واكتفائه بلقيمات لا تكاد تكفي طفلًا.
وما أحرانا جميعنا، في شيخوختنا، أن نضع هذا المثال العظيم لشباب الشيخوخة في مصر أمام أعيننا حتى نقتدي به.
وعندما نتأمل حياة عبد العزيز فهمي (باشا) نجد هوايته الأولى الدرس والثقافة، وهما خير ما يعين على الشيخوخة ويحفظ شباب الذهن. ثم هو زيادة إلى هذا يمتاز بما سبق أن أسميناه «المزاج الهجومي» أي المزاج الذي لا يقنع بالدفاع ولم يرض بالموقف السلبي.
أيها الشاب العجوز … ألست تجد عبرة في هذه الشيخ الذي بلغ السابعة والسبعين ولا يزال يحتفظ بشباب ذهنه ونفسه، حتى يدعونا إلى أعظم ثورة فكرية باتخاذ الخط اللاتيني؟