أحمد لطفي السيد
هو الآن في الثامنة والثمانين، وهو مثل عبد العزيز فهمي (باشا) من حيث ضمور الجسم والتعلق بالثقافة والكفاح في إحدى القضايا الوطنية أو اللغوية أو الأوربية. وقد عاش بيننا لطفي السيد (باشا) نحو خمسين سنة أو أكثر، وهو بمثابة المؤسسة الوطنية التي يعرفها كل قارئ للصحف فضلًا عن المثقفين الذين يدرون بتطورنا الاجتماعي والسياسي في القرن العشرين. وهو يمثل لنا فكرة معينة في الوطنية والثقافة وفي الآراء الاجتماعية.
وقد اشترك في تأسيس الحزب الوطني، ثم تركه وألف حزب الأمة، وأصدر الجريدة التي عاشت فيما بين سنة ١٩٠٧، ١٩١٥ وأحدثت في الأمة تغييرات تقارب التطورات. فإنه استحدث أسلوبًا جديدًا في الكتابة، ودعا إلى وطنية مصرية خالصة. وقد يدهش القارئ في ١٩٥٧ لهذه الكلمات. ولكنه يجب أن يعرف أن الوطنية قبل ١٩٠٧ لم تكن خالصة، إذ كان الحزب الوطني يدعو إلى أن مصر إنما هي جزء من الدولة العثمانية. فجاء لطفي السيد وعارض هذه الدعوى وأصر على أن مصر يحب أن تكون للمصريين لا للإنجليز ولا للأتراك.
ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، وقاسم أمين، ومحمد عبده، ينتمون إلى قبيل واحد، وقد فشا هذا القبيل في أواخر القرن الماضي وبعث يقظة جديدة في الأزهر بحمله على اتخاذ الثقافة العصرية، وفي المجتمع المصري بالدعوة إلى سفور المرأة، وفي السياسة بالدعوة إلى سياسة مصرية بعيدة عن معاني وآمال الجامعة الإسلامية. بل حتى في الأدب، بالدعوة إلى اتخاذ أسلوب عصري ينأى عن التزاويق التقليدية. وكانت «الجريدة» التي كان لطفي السيد يرأس تحريرها أول جريدة مصرية في مصر ينظر محرروها إلى الآفاق ويحاولون أن يفسروا السياسة الإمبراطورية في ضوء التطورات العالمية. واحتضنت كاتبين هما طه حسين والمنفلوطي. وبسطت صفحاتها لأول كاتبة مصرية، هي باحثة البادية. وأحدثت الوجدان الوطني بين الأقباط، الذين كانوا يجدون الشبهات والشكوك في وطنية الحزب الوطني لأنه كان يصر على أن مصر جزء من الدولة العثمانية.
وعبرتنا في حياة لطفي السيد أنه، وهو في الثامنة والثمانين، لا تزال نفسه شابة. وقد تولي الوزارة في ١٩٤٦، ولم تحل سنه المتقدمة دون القيام بهذه العبء. وقد ساعده على بلوغ هذه السن مع الصحة العالية أنه يلتزم الاعتدال. وهو ليس ناسكًا، إذ هو يتطعم الترف، ويلتذ المعيشة العالية، ولكن في غير إسراف.
وهوايته هي الثقافة، وخاصة الثقافة الإغريقية. وقد ترجم مؤلفات لأرسطاطوليس. وتحمل من متاعب هذه الترجمة ما يكفي لأن يحدث صداعًا للشاب فضلًا عن الشيخ. والعادة أن المكتبة الخاصة تكون جزءًا من البيت، ولكن بيت لطفي السيد(باشا) هو جزء من مكتبته. وهو يرصد كل وقته تقريبًا للقراءة والدراسة، ولا ألاقيه مرة إلا وأجد له اهتمامًا بموضوع ثقافي أو لغوي يثير المنافسة بيننا. وهذه الاهتمامات هي التي تحفظ له شباب الشيخوخة.
وعلي كل مسن أن يعتبر بحياة هذين الصديقين: عبد العزيز فهمي (باشا) ولطفي السيد (باشا). فإن الشهوة الغالبة عليهما هي الثقافة، وهي تنبه ذكاءهما وتفتق لهما ألوان الفهم وتحركهما بالمعارف الجديدة.
وفي كل منهما أيضًا روح الكفاح، أما أسلوب المعيشة بعد ذلك فهو الاعتدال وكراهة الإسراف.
وأولئك الذين يركدون ويأسنون، وهم لا يزالون في الستين أو السبعين، يجب أن يتعظوا بلطفي السيد وعبد العزيز فهمي وهما يجاوران الآن (في ١٩٤٧) الثمانين في يقظة الشباب. كلاهما يهتم بالجريدة والمجلة، ويقرأ الصحافة الأوربية والعربية، ويؤلف ويترجم وينضوي إلى الأحزاب ويعمل في السياسة ويناقش المذاهب الجديدة والقديمة. ومحال أن يشيخ إنسان وهو مشتبك في هذه الهموم والاهتمامات.