برنارد شو
برنارد شو أديب إنجليزي، أو بالأحرى إرلندي الأصل، ولكنه عالمي الثقافة والشهرة والوطن. وقد بلغ هذا العام (١٩٤٦) التسعين. ومع ذلك أخرج قبل أشهر كتابًا في السياسة والاجتماع يجد فيه المتوقرون الذين بلغوا شيخوخة الذهن في مصر قبل الستين أشياء كثيرة مما يعد في بلادنا ثورة ومبالغة.
فليتأمل قارئ هذا الكتاب، الذي أعتاد أن يقرن خرف الشيخوخة إلى سن التسعين، كيف أن برنارد شو يؤلف في هذه السن. وكيف أنه يفكر تفكير الشباب، فيطلب التغير والتطور. ولماذا تعد شيخوخته إيناعًا ونضجًا، في حين تعد في كثير من شيوخنا تعفنًا وأسنًا؟ لقد انقطع برنارد شو عن طعام اللحم منذ بلغ الثلاثين، واقتصر على طعام النبات (مع اللبن ومشتقاته) منذ ستين سنة. كما أنه لم يعرف قط الخمر أو التدخين. ولذلك قد يميل بعض القراء إلى الاعتقاد بأن هذا النظام الغذائي الذي اتبعه قد ساعده على هذه الشيخوخة المثمرة الشابة. وقد يكون لهذا القول بعض القيمة، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن حياة الكفاح التي عاشها برنارد شو، والتي لا يزال في معمعتها، هي السبب الأكبر لهذه الحيوية العجيبة. فقد احترف الأدب منذ العشرين تقريبًا، ولكنه لم يأو قط إلى البرج العاجي، لأن أدبه هو أدب الكفاح لتغيير المجتمع، وليس أدب التبرج الذهني والثرثرة اللغوية. فهو يؤلف دراماته، وسائر مؤلفاته، في لغة تكاد تحسب أن مؤلفها كيميائي أو فلكي أو زراعي أو صناعي، أي لغة اقتصادية العبارة تلغرافية الأسلوب. وهو يعمد إلى الفكاهة، تلك الفكاهة التي تضحكنا لكي لا نبكي، والتي يصح أن توصف بأنها تشنجات الحكمة.
ولكن ليس موضوعنا عرض الأدب أو الفلسفة اللذين قضي برنارد شو حياته الطويلة في شرحهما. لأننا إنما نبغي استخلاص العبرة للمسنين من هذه الحياة، كي يجدوا فيها القدوة أو على الأقل الإيماء والإيحاء. وكما قلنا، نحن نرى أن حياة الكفاح التي عاشها برنارد شو هي التي تجدد شبابه الآن في التسعين، ولكنا نحب، قبل أن نبحث هذه المسألة، أن نؤكد بأن غذاءه النباتي لم يكن نباتيًّا إلا بالاسم. لأنه يضيف اللبن ومشتقاته إلى الخضراوات والبقول، إذ لا يستطيع إنسان أن يعيش على النبات فقط، حتى ولا غاندي استطاع هذا. واللبن ومشتقاته تقوم مقام اللحم، وبروتين الجبن لا يقل غذاؤه عن بروتين اللحم. وقد يقال هنا إن المعري قد بلغ السبعين وهو مقتصر على العدس. وليس شك في أن العدس من القطاني التي تحتوي مقدارًا كبيرًا من البروتين النباتي. ولكن لنا أن نشك في قصة المعري هذه. وإن يكن البروتين النباتي ليس أقل قيمة في الغذاء من البروتين الحيواني الذي يستخلص من البيض والجبن واللحم. والأغلب أن المعري كان يستعين على العدس بالقليل من اللبن والجبن، أو أن اعتكافه وسكونه في غرفته قد نقصا مجهوده الجسمي حتى صار جسمه يشبع ويقنع من العدس وحده. أي أنه لو كان يتحرك ويروح ويغدو كالمبصرين، لأدي هذا المجهود إلى وضوح النقص الغذائي فيه وإلى تعجيل الشيخوخة الهرمة.
وعندنا أن حياة الكفاح التي عاشها برنارد شو هي المسئولة عن هذه الصحة العجيبة التي يستمتع بها في التسعين. فإنه كافح طيلة عمره من أجل تحقيق الاشتراكية، حتى نستطيع أن نقول إن جميع مؤلفاته تنطوي على الشرح والتبسيط لهذه النظرية. ومزاجه كفاحي هجومي. وهو كثير الاهتمامات، يبحث مشكلات هذا الكوكب ويهتم بها كما لو كانت مشكلات القرية التي يعيش فيها. اهتماماته الثقافية كثيرة متعددة ولذلك لا يعرف ذهنه الركود، فبينا نجده يؤلف عن شكسبير، ويناقش آراء تولستوي عنه، إذا به يؤلف عن المجلس البلدي في لندن. وبينا هو يؤلف كتابًا أو درامة عن نشأة المسيحية، إذا به يناقش مذهب داروين. وهو كثير الدعابات، أو الخصومات الاجتماعية والأدبية، التي تحرك قبله وذهنه وتحملها همومًا واهتمامات لا تتركه يركد.
ولكنه إلى هذا كبير التدين. وهو أقرب الأدباء إلى فولتير الذي وصف بأنه «الملحد المسيحي». لأنه — مثل فولتير — ينفق ماله وجهده بل حياته كلها، في حملات إنسانية سامية يقصد منها إلى الخير والبر. ولكن غيبياته تخالف مألوف المتدينين في عقائدهم العامة، ولذلك كثيرًا ما يرجمه المتدينون التقليديون كما يرجم هو الماديين غير المؤمنين. ولعل أقرب المفكرين إلى إيمانه هو ألبرت شفيتزر القسيس الطبيب الموسيقي الذي يضحي بحياته في عصرنا لخدمة الزنوج في أفريقيا. وإيمان شفيتزر هو احترام الحياة مهما تكن صورها وأشكالها.
فهذا التدين العميق، إلى جنب الجهاد المتواصل في البر، هما أعظم الأسباب ليقظة برنارد شو في سن التسعين. فإنه يكتسب منها تفاؤلًا ونشاطًا ورغبة في التجديد، تنأى به عن الركود الآسن الذي ينتهي إليه شيوخنا المتشائمون عقب الستين.