غاندي
يمتاز غاندي في عصرنا بشهرة عالمية في القداسة والكفاح الوطني والتدين العميق. وقد اتخذ أسلوبًا في العيش يجذب إليه عيون الجماهير في أنحاء العالم. فإنه قانع بشملة تكسو بعض جسمه، بعد أن استغنى عن اللباس المألوف، كما هو قانع بلبن عنزته.
وهذا الأسلوب هو بؤرة الاهتمام عند كثير من الناس، ولذلك يجب أن نبحثه لنعرف أثره في حياة هذا الهندي الذي بلغ السابعة والسبعين، والذي لا يزال على الرغم من هذه السن يسير عشرة أميال في قوة ونشاط كأنه لا يزال في العشرين.
والمشهور أن غاندي نباتي. وهو كذلك، ولكن مع التحفظ الذي ذكرناه عن برنارد شو، أي أنه يضيف إلى الفواكه لبن عنزته. وقد ذكر غاندي أنه حاول أن يعيش مقتصرا على النباتات من فواكه وخضروات فلم يستطع، لأنه أحس إعياء عظيمًا حتى لم يقو على الجهد، ولذلك اضطر إلى أن يضيف اللبن إلى طعامه، ولكنه مع ذلك لا يتناول الخبز. وهو نحيف ضامر لا يزيد وزنه على أربعين كيلو جرامًا وقد جعل الصوم عن الطعام عشرين يومًا أو أكثر بدعة مألوفة. وهو لم يكن يلجأ إلى الصوم ابتغاء الصحة، لأنه إنما كان يقصد منه إلى تكبيت الهنود من هندوكيين ومسلمين حتى ينزلوا عن خلافاتهم ويتصافوا. وكثيرًا ما نجح باتخاذ هذا الأسلوب.
وهو يعيش — كما قلنا — بالفواكه واللبن، ولا يعرفون الخمر أو التدخين أو الخبز وقد عانى عللًا جسمية كثيرة قبل الثلاثين حين كان يأكل الأطعمة المألوفة عند الهندوكيين، حتى كان يحتاج إلى استعمال العقاقير الملينة كل يوم، ولكنه استغنى عن هذه العقاقير عندما استقر على اللبن والفواكه. وهو يعتمد على الصوم عند أقل توعك.
وليس شك أن لهذا النظام الغذائي قيمة في صحته وتعميره، ولكنه ليس كل شيء. لأن في غاندي صفات أخرى هي ميزات تعمل للصحة والنشاط والتعمير. والميزة الأولى هي التدين العميق. والميزة الثانية هي الكفاح.
فأما عن تدين غاندي فإننا نستطيع أن نقول إنه قديس قد احترف القداسة في أشرف وأجمل مظاهرها. فهو مسيحي مسلم بوذي هندوكي يهودي بشري. وهو — مثل شفيتزر — يحترم الحياة، فلا يقتل نملة ولا يؤذي ثعبانًا إلا إذا لم يجد مفرًّا وإيثارًا لحياة الإنسان على حياته مثلًا. وهو يذكر تولستوي الروسي، وثورو الأمريكي، باعتبارهما الموحيين لفلسفته وتدينه. وهو يكبر من حياة المسيح والخلفاء الراشدين، ويستمسك بكثير من العقائد الهندوكية، ويبكر في الصباح للصلاة. وقد جالس البغايا وحدثهن عن الحياة الطيبة، كما جالس الأمراء والساسة في آسيا وأوربا. وهو مثل كل إنسان راق، يضع القيم البشرية فوق القيم الاجتماعية. ويطلب السعادة بالاستغناء عما يظنه غيره من الحاجات الضرورية. فليست السعادة عنده اقتنائية وإنما هي استغنائية.
وديانة غاندي هي فلسفته، أو العكس. وما أحرانا جميعًا أن ننتفع بقداسته. فإن أسلوب عيشه جدير بأنه يصدم عقولنا، وأن يوضح لنا أخطاءنا عن الحضارة التي تزيد شقاءنا بتكديس الحاجات المزيفة فنقتنيها، ونتبارى في الاستكثار منها، حتى ينهكنا الحصول عليها. فها هنا إنسان قد احترف المجد والقداسة، وقد عاش إلى السابعة والسبعين وهو لا يكلف العالم أكثر من ثلاثين أو أربعين قرشًا في الشهر تكفي طعامه وكساءه!
ولكننا نعود إلى موضوع هذا الكتاب، وهو بحث العوامل والأسباب التي تؤدي إلى الصحة والنشاط بعد الخمسين. وقد سلمنا بأن للنظام الغذائي الذي اتبعه غاندي قيمة في صحته ونشاطه. ويجب أن نسلم أيضًا بأن لتدينه مثل هذه القيمة. لأن الإنسان متي تدين، واستقر الإيمان في أعماق نفسه، وصار منه بمثابة الغريزة، فإنه يتفاءل بكل شيء تقريبًا. ونعود فنقول إنه لا عبرة بماهية هذا التدين، هل هو الإيمان بالمسيحية أو الإسلام أو الهندوكية أو البشرية. ولكن العبرة لنا هنا بما يبعثه الإيمان من التفاؤل بمستقبل البشر، والاقتناع بأن الدنيا في تطور وارتقاء، وأننا أنفسنا معدودون من العوامل التي تعمل لهذا التطور والارتقاء. فهذا الإيمان يجعل الابتهاج والسرور مزاجنا الذي لا يتغير، كما يجعل الثقة بالنصر في المشكلات التي تعترضنا قريبة. بل إن هذا الإيمان يغير مشكلاتنا ويرفعها إلى مستوى آخر يعلو على الاهتمامات بالصغائر والدنايا.
وميزة غاندي الثانية، التي تعمل للصحة والنشاط في سنه المتقدمة، هي كفاحه. فإنه يكافح جبالًا من المصاعب تشغل نفسه وذهنه ولا تترك فيهما فراغًا. وهو منذ أن يستيقظ في الساعة الرابعة من الصباح، إلى أن ينام بعد العاشرة من المساء، يجاهد في جبهات متعددة. فهو ينسج القطن على نوله لكي يعطي للهنود درسًا في العمل المثمر. وقد صار النول بعض الأدوات المنزلية عند جميع الهنود المتنبهين لهذا السبب. فالمرأة الهندية تنسج القطن وتلبسه، وتؤثره على منتجات برلين ولندن وباريس. وثم جبهة ثانية يكافح فيها غاندي هي توحيد القومية الهندية التي مزقتها الخلافات الدينية. ثم جبهة ثالثة هي الجهاد من أجل استقلال الهند وحريتها، بالكتابة في الجرائد والمجلات ومقابلة الزعماء والساسة من الهنود والإنجليز. وجبهة رابعة هي الجهاد من أجل البر والشرف، بالدعوة إلى الحياة الساذجة التي ننشد فيها السعادة بالاستغناء دون الاقتناء كما كان شأن ثورو الأمريكي.
وعبرتنا من هذه الحياة الجليلة الجميلة، أن نجاهد من أجل الخير العام، وأن نجعل من هذا الجهاد أيضًا وسيلة إلى زيادة الاختبارات وتحمل الهموم والاهتمامات التي تزيد عمرنا خصوبة وتجعلنا نصل إلى الشيخوخة اليانعة.