الإيحاء الذاتي والاجتماعي
عند التأمل العميق نجد أن كل إيحاء ذاتي إنما هو إيحاء اجتماعي. ذلك لأننا نكسب لغتنا وعاداتنا وأخلاقنا ومثلياتنا وثقافتنا من المجتمع فلا نفكر إلا وفق الأساليب التي رسمها لنا. بل إننا حين نكافح لهذا المجتمع فإنما نكافحه بمثليات قد رسمتها لنا طبقة من هذا المجتمع، أو هيأت لنا خيالنا لكي نرسمها. فالمجتمع يحوطنا ويكيف لنا عواطفنا ويعين لنا الرذائل والفضائل. ولكننا أحيانًا نرتفع عليه، ونرفض النزول على ما رسمه لنا. ومع ذلك نحن في هذا الارتفاع نفسه لا نتجاوز مثلياته المضمرة في بعض طبقاته الراقية.
فإذا كان المجتمع يعتقد أننا يجب أن نتقاعد ونتماوت في سن الستين وأن نستقيل من الحياة مع الاستقالة من الوظيفة، فإن هذا الإيحاء يقع في نفوسنا ونحس بالفعل عاطفة الانكسار والانزواء، فنخلع المسئولية ونرتضي حياة التثاؤب والتمطي إلى أن نموت. ومجتمعنا من أسوأ المجتمعات من هذه الناحية لسبب واحد هو أنه إلى حد عظيم مجتمع جامد، بل أحيانًا موات. وليس مثل المجتمعات الأوربية المتحركة المرتقية. فنحن في مصر ننظر إلى الستيني أو السبعيني من الرجال كما ننظر إلى المرأة نولي كلا منهما الاحترام والوقار. ولكن لقاء هذا نطالب كلًّا منهما أيضًا بالانزواء عن الدنيا، فلا يصح لأحدهما أن يلعب أو يمرح، فلا يجوز للستيني من الرجال أن يلبس بنطلونًا قصيرًا أو يسير بلا جاكتة أو طربوش، كما لا يجوز للمرأة أن تنتفع بفيتامين د على الشواطئ وتستمتع بالأنسة والاختلاط بالجنس الآخر.
وحين نقعد إلى أحد المسنين نخاطبه بكلمات وإيحاءات العطف فنوهمه بالعجز، ونشعره كأنه قد انتهى من تمثيل دوره وعليه أن يقنع بالماضي ولا يتطلع إلى المستقبل، فلا يفكر في مشروعات جديدة. بل إننا لنستهجن منه الجري أو الوثب لأنهما يخالفان وقار الشيخوخة.
وهذا الإيحاء يؤثر في نفس المسن، فتتكون له عادات وتتربى له عواطف تؤدي إلى الفتور والكسل والانزواء، بل تقوي عنده الرغبة في الموت. فإذا سار في الطريق سلحف في مشيته، ليس عن ضعف بل عن إيحاء. وإذا استراح بعد العصر تكاسل، ووصل نهاره في السرير بصباح غده. وإذا أكل لم يبال الأطعمة من حيث موافقتها أو مخالفتها لصحته. لأن تكرار هذا الإيحاء قد طبع في قلبه أنه شيخ هرم قد بلغ مغرب الحياة وأن عليه أن يتودع من الدنيا. ولن يمضى عليه قليل وهو في هذه الحال حتى يجد أن جسمه قد ترهل وقلبه قد ضعف وشرايينه قد جمدت.
ولقاء هذه الإيحاءات الضارة من مجتمع جامد وقاري، يجب على كل مسن أن يمارس إيحاء ذاتيًّا لكي يستبقى شبابه ويستمتع بالدنيا ويخدمها بنشاطه وقوته. وهذا الإيحاء إنما نسميه «ذاتيًّا» من حيث إننا نحس أننا نكافح به إيحاءات اجتماعية عامة. ولكنه هو أيضًا اجتماعي تقول به الأقلية المستنيرة.
فعلي كل مسن أن يوحي إلى نفسه أن شبابه لا يزال باقيًا، وأن يسلك سلوكًا حيويًّا في النشاط والرياضة والزي، حتى يجد من هذه الممارسات العمل الذي يؤدي إلى الإيحاء، ثم الإيحاء الذي يؤدي إلى العمل.
فعلى الستيني أو السبعيني ألا يهمل زيه من حيث إتقان الهندام، وأن يحتلق كل صباح بعناية، ولا يبالي السير بلا طربوش، كما لا يبالي البنطلون القصير في الاصطياف. وعليه أن يشتري أفخر الملابس التي تكسبه شجاعة وثقه وأناقة وتحمله على العناية بنفسه.
وكذلك عليه أن يتخذ المشية السريعة التي توحي النشاط، ويتجنب جميع الحركات التي توحي التعب والعناء، كالارتماء في الكراسي أو السير البطيء أو القعدة المنحنية أو النهوض المتثاقل.
وليس شك أن الاعتدال كبير القيمة بعد الستين أو السبعين، ولكن يجب ألا نصل به إلى حد الانكفاف والانقطاع. فإن المسن الذي تعود الخمر أو الممارسات الجنسية أو التدخين يجب عليه ألا يقطعها بل يمارسها جميعًا في اعتدال. لأن الكف عنها يوحي الشيخوخة المميتة أو يهيئ لها، والإقبال عليها يجدد الشباب إيحاء ومرانة.
وللرياضة التي تثقف عضلات الجسم، كما للثقافة التي تدرب الذهن، أثر إيحائي كبير في النفس. كما أن اتخاذ هواية جدية تشغل الفراغ، أو ممارسة عمل كاسب يشغل بعض اليوم ويحمل المسن مسئوليات ويبعث فيه اهتمامات؛ لكل هذا أثره الإيحائي العظيم، فضلًا عن أثره المباشر في التنظيم الفسيولوجي للجسم. ويجب أن نؤكد هذه القيمة الإيحائية للرياضة، لأن ميعادها في الصباح يفتتح اليوم بنشاط وبروح يبعثان عواطف حسنة طوال اليوم، زيادة على تربية العضلات التي يخشى أن تترهل بقلة الحركة.