شبان في السبعين
أعرف حلاقًا مصريًّا في السادسة والسبعين يمارس حرفته بنشاط. وهذه الحرفة تحتم عليه بالطبع الوقوف طوال النهار وبعض الليل. وهو أحيانًا يخرج من باب الحديد ساعيًا على قدميه إلى السيدة زينب لكي يخدم زبائنه. وهو متنبه الذهن سليم الجسم، يأكل باشتهاء، ويسلك السلوك الجنسي لرجل في الخمسين. وكل ما وجدت فيه مما يخالف سائر الناس أنه لا يتغذى، فهو يفطر ويتعشى فقط. أما في وسط النهار فيقنع بكوب من النبيذ لا يتناول معه لقمة. وهو يميل إلى الشراب، لا يفلت فرصة تعرض له في أي وقت. ولكن ممارسته لحرفته تضطره إلى الاعتدال. أما من حيث الجسم فهو نحيف ضامر عضلي. وهو يؤثر السعي على قدميه في نشاط وخفة على ركوب الترام.
وقبل سنوات دعاني رجل إنجليزي إلى زيارته في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكنا في وغرة الصيف، والحر يرهق بل يزهق، وكان في الخامسة والسبعين. فلما زرته سألته إذا كان لا ينام بعد الظهر، أو على الأقل يخلع ملابسه ويستريح. فأجابني بأنه لم يفعل ذلك قط، وأنه يحيى ويصحو من الصباح إلى المساء. وكان هو أيضًا نحيفًا بل في غاية الضمور. ولكن لم يكن هذا الضمور كل السبب لهذه الحيوية وهو في الحلقة الثامنة من العمر. فقد كان هناك سبب آخر أكاد أصفه بأنه روحي، ذلك أنه كان يدعو إلى نظام عالمي تنتفي به الخلافات والحروب بتوزيع المواد الخام سواء بين الأمم كل وفق حاجته. وكان هذا الموضوع يشغل ذهنه وعواطفه ويملأ كل وقته كأنه هوس. ودعاني لكي يشرح لي هذا الموضوع حتى أكتب عنه. وقد اهتممت بمعيشته أكثرًا مما اهتممت ببرنامجه لتوزيع المواد الخام، فوجدت أنه هو أيضًا لا يتغذى. بل يقتصر على ثلاثة أو أربعة فناجين من الشاي في الساعة الثالثة أو الرابعة، ولكنه يفطر ويتعشى.
وعندما أتخيل هذين الرجلين، وهما في منتصف الحلقة الثامنة، أحس أن وصفهما بالشيخوخة بعيد كل البعد عن الحقيقة. فهما كلاهما في صحوة الذهن وصحة الجسم. وكلاهما شاب مرح يضحك ويفاكه ويناقش. أحدهما اضطره مراس الحرفة إلى النشاط، والآخر حملته حماسة الفكرة إلى الدراسة والدعاية، فاحتفظ كلاهما بحيوية الشباب حتى ليصح أن نقول إن كلًّا منها شاب في الخامسة أو السادسة والسبعين.
وهؤلاء الشبان في السبعين والثمانين ليسوا شواذ إلا من حيث قلتهم في العدد. وكل ما أستطيع أن أجده فيهم من الشذوذ إنما هو التزام خطة غذائية تحول دون السمن، وأيضا برنامج ذهني يشغل الوقت ويجعل للمستقبل قيمة كأنه هذا المستقبل في حيز الانتظار لإتمام هذا البرنامج. وأنا أذكر ثلاثة يعرفهم كل قارئ لهذا الكتاب، وجميعهم قد بلغوا أو كادوا يبلغون السابعة والسبعين.
فهذا مثلًا الشاعر خليل مطران، فإنه نحيف، بل ضامر، يتأنق كل التأنق في طعامه ولكنه يأكل كأنه عصفور. وقد باح لي ذات مرة بأن جملة ما يأكله من الخبز في العام كله (ونعني العام لا الشهر ولا اليوم) لا يزيد على رغيفين. وهو أقل من رأيت من الناس طعامًا. وعشاؤه كأس من الخمر مع ما يتنقل به معها من لقيمات لذيذة مزيزة وحياته الفكرية هي الأساس لنظامه الجسمي كما سنرى بعد.
وهذا لطفي السيد (باشا) يمتاز بشيئين: النحافة البالغة ودراسة الفلسفة. وهذا إلى اشتغاله بالسياسة المصرية والعالمية. وهو مثل صديقه العزيز فهمي (باشا) لا يعرف كلاهما الجمود أو الترهل الذهني. فالفكرة الجديدة لا تكره عندهما لأنها جديدة. بل هما من هذه الناحية يبديان من الشباب ما لا نجده في الشبان أنفسهم. كما نرى مثلًا في عبد العزيز فهمي (باشا) حين خرج على الجمهور بالدعوة إلى الخط اللاتيني. فإن المألوف في الشيوخ أن تجعلهم الشيخوخة محافظين أو جامدين، ولكن أين هذا الجمود من مثل هذين الشابين العظيمين؟
والآن نحتاج هنا إلى نميز بين السبب والنتيجة. فإن نحافة الجسم ليست سببًا ليقظة الذهن، بل العكس هو الصحيح. وعلينا أن نذكر أن الجسم السليم هو نتيجة العقل السليم. ذلك أن نشاط الذهن ينشط الجسم ويكسبه نظامًا ويجعل الحياة لذيذة ويبعد السأم. وثلاثة أرباع السمن والترهل والتضخم هي نتيجة السأم. حين يقبل أحدنا على الطعام ويأكل في نهم، ويعاود الأكل في وجبات متعددة، أو يتسلى باللب والفول السوداني ونحوهما لأنه يحس — ذهنينًا وعاطفيًّا — أنه يعيش في خواء، وأن اللذة الباقية له هي مضغ الطعام. والسمن الفاشي بين نسائنا يعود إلى هذا السبب أيضًا، أي خواء النفس لقلة ما يشغلهن في البيت فيلجأن إلى لذة الطعام.
وعلى ذلك يجب أن نذكر أن الحياة الذهنية النشيطة في هؤلاء الثلاثة هي التي جعلتهم يحتفظون بشبابهم بعد السبعين، وهي التي ملأت سنيهم بهموم واهتمامات عالية تشعرهم بلذة الحياة ومجدها. وهم بهذه اللذة يستغنون عن لذات الطعام التي يقع فيها كثيرون ممن يعيشون في خواء النفس والذهن، فيحفرون قبورهم بأسنانهم ويموتون بأمراض السمن المتعددة حتى قبل السبعين.
أجل، إن هؤلاء الثلاثة يعيشون ويعمرون بالقوة الروحية، قوة المثليات التي جعلوها أهدافهم وجعلوا الوسائل إليها دراسة متصلة واستطلاعًا لا ينقطع في عالم الثقافة، وكأنهم ينطقون بلسان القاضي هولمز حين سأله الرئيس روزفلت: لماذا يقرأ أفلاطون وهو في الثانية والتسعين فأجاب: «لكي أرقي ذهني». وشبابهم الذي يتمتعون به الآن هو ثمرة هذا المزاج. وما أجدرنا جميعًا بأن نقتدى بهم. فإن الجمهور قد انتفع بنتاجهم الفكري، ولكنه يستطيع أن ينتفع أيضًا بالأسلوب الذي اتخذوه في الحياة. وليذكر المسنون أن ميخائيل أنجلو المثال الإيطالي شرع ينظم القصائد الغرامية وهو في التاسعة والسبعين، وأن جاليليو في الثالثة والسبعين نشر كتابه عن دوران القمر، وأن جوتيه أتم قصته فاوست وهو في الثانية والثمانين، وأن جون ويزلي كان يلقي موعظة دينية كل يوم وهو في الثامنة والثمانين. وأن بنيامين فرانكلين عين سفيرًا للولايات المتحدة في فرنسا وهو في الثامنة والسبعين.
والعقيدة الفاشية بين الجمهور هي أن الشيخوخة مرض أو انحطاط في الجسم، ولذلك يتجه العلاج بين المسنين نحو الجسم فقط، ولكن الواقع أن الشيخوخة في أكثرها ثمرة الخواء النفسي والذهني، وإذا ملئ هذا الخواء بالاهتمامات السياسية والاجتماعية والثقافية، بل والحرفية، فإن الجسم يستجيب بالنشاط ولا يبلى إلا بعد المئة.