النمو بعد الخمسين
نفهم عادة من كلمة النمو معني ارتقاء الطفل إلى الصبا فالشباب، أو نفهم في الأكثر نمو النبات، ولكن قل منا من يفكر في النمو باعتباره ضرورة لمن بلغوا الخمسين، لأن هذه السن توهم وقوف النمو وليس اطراده. على أننا نرى أنواعًا من النمو حتى بعد هذه السن. وهي أنواع مألوفة وخاصة في ذلك النمو المالي عند كثير من التجار. فإن أكثر نموهم يبدأ بعد هذه السن، وهم ينشطون إليه وكأنهم قد انتقلوا من الخمسين إلى العشرين في العمر. لأن الشعور بالقوة والاستبشار بالمستقبل يبعث فيهم الاستطلاع والبحث والتنبه. وكثير من التجار الموفقين يبلغون التسعين لهذا السبب، أي لأن النجاح المالي قد زودهم بقوة نفسية كبيرة بعثت فيهم نشاط الجسم وتفاؤل النفس.
ومع الاعتراف بقيمة النمو المالي في هذه الحياة الاقتصادية التناحرية يجب إلا يقتصر عليه أحد؛ لأن قليلًا من الذكاء يوضح لنا أنه ليس النمو الكافي. وأن كثيرًا من الماليين يسير نموهم المالي عفوًا دون أن يحتاج إلى أي مجهود منهم. وعندئذ يعودون عاطلين خائرين لا يطيقون خواء أنفسهم. أو هم يعمدون إلى ملئها بالملذات الوضيعة التي تبعث فيهم حماسة وقتية لا يطيقون خواء أنفسهم، أو هم يعمدون إلى ملئها بالملذات الوضيعة التي تبعث فيهم حماسة وقتية.
ولهذا السبب يجب أن يكون نمونا في جبهات متعددة على المستويات الثلاثة، أي نمو الجسم والذهن والنفس حتى لا نسأم الحياة ونخثر. بل نبقي نشيطين إذا أجمنا لذة وجدنا غيرها مما يشغلنا. وعندئذ يستحيل النمو إلى نضج وإيناع.
ونمو الجسم بعد الخمسين من الحاجات التي كثيرًا ما ننساها، لأننا نستكين إلى الراحة، ولأن المجتمع يطالبنا بوقار سخيف يبدأ وينتهي بالدعوة إلى الركود. فنحن ننام بعد الظهر، ونتجنب اللعب والجري، فلا تمضي سنوات حتى نترهل ونسير إلى خسار الجسم ودماره بنوع من الربا المركب الذي يزداد بأكثر من الضعف سنة بعد أخرى. ولذلك يجب أن نستقر على اليقين بأنه إذا كانت الرياضة ضرورية للشبان فهي، بأسلوب مخفف، أكثر ضرورة للمسنين.
إما النمو الذهني فيحتاج إلى دراسة الكتاب والمجلة والجريدة والرجل الذي بلغ الستين والسبعين في حاجة عظيمة إلى مداومة القراءة، لأن أعظم ما يحزنه أن يجد نفسه عرضه للنسيان. ولكن مداومة القراءة تجعل الكلمات ماثلة في ذهنه فلا ينسي. ثم هو بالتوسع الذهني في الآفاق الرحبة للثقافة يجد اهتمامات سامية تشغله وتنشط جميع كفاياته.
ثم هناك النمو النفسي، فإن لكل منا خريطة نفسية يرسمها للعالم، هذه الخريطة قد تضيق حتى لا تتجاوز اهتمامات الطعام والكسب والعائلة. أو قد تتسع حتى تشمل مشكلات هذا الكوكب. فالرجل الذي يتهم بالتطور الاقتصادي الحديث أو بالارتقاء الاجتماعي في إنجلترا، أو بمشكلة مصر والهند، يحيى على درجة أوسع وأعمق من ذلك الذي لا يتهم إلا بطعامه وكسبه. فهو في حيوية يقظة كثيرة الاهتمامات متعدد الغايات. أضف إلى هذا النشاط الاجتماعي الذي يعود إلى يقظة النفس.
هذه هي المستويات الثلاثة التي يجب أن يتجه إليها نشاطنا بعد الخمسين. وأكثرنا، بل كلنا تقريبًا، لا يعنى بالمستوى الرياضي، أي بنشاط الجسم. لأن الرأي العام شرقي متراخ يضع الوقار الزائف فوق الصحة الدينامية. أما النمو الذهني فلا يكاد يتجاوز قراءة الجريدة إلا عند الذين حصلوا على ثقافة أوروبية ووجدوا الإغراء كبيرًا لا تستطاع مقاومته. والاهتمام النفسي يتبع في أغلب الحالات الاهتمام الثقافي.
ونستطيع أن نتعظ هنا بالشخصيات الكبيرة، فقد عاش مثلًا كل من سعد زغلول ومحمد عبده ملء حياته، كما نعرف مثلًا من حياة سعد وكيف أنه حصل على دبلوم الحقوق وهو حوالي الأربعين، وشرع يدرس اللغة الألمانية وهو حوالي الستين. ونعرف عن حياة محمد عبده أنه شرع يدرس اللغة الفرنسية وهو حوالي الخمسين. ونستطيع أن نضرب عشرات الأمثال من المسنين الأوربيين الذين احتفظوا بشبابهم والذين يدل سلوكهم على قوة هذا الشباب. فإن برنارد شو وهو في التسعين يمرح مرح الشباب في طرب الجسم والذهن والنفس.
وقد جعل الحياة فنًّا، وأحال خطواتها من المشي إلى الرقص. ونحن نبخسه حين نقول إنه احتفظ بشبابه فقط، لأن الواقع أنه أحتفظ بطفولته من نواح كثيرة. إذ هو دائب الاستطلاع، كثير اللعب، تتفقأ النكات في حديثه، ينظر إلى الدنيا على الدوام في ابتسامة حلوة أو مرة. وهو يعالج الفلسفة كما يعالج غيره القصة الغرامية، وقد انقطع عن طعام اللحم منذ ستين سنة فتوقى بذلك الشهوات الدنيا كي ينصرف إلى الشهوات العليا. ومع أنه ألف كثيرًا من الكتب التي تستحق الدراسة فإن أعظم مؤلفاته هو شخصيته التي بناها، بل شيدها، كما لو كانت تحفه فنية.