الصداقة في الشيخوخة
ليس هناك من ينتقص قيمة الصداقة، فإنها متعة للصبيان والشبان والشيوخ، كما هي وسيلة إلى النمو الذهني والارتقاء الاجتماعي. وعندما نعرض حياتنا الماضية نجد أن أحسن ذكرياتنا تعود إلى صديق أنار فترة من حياتنا بصداقته حتى إننا لنعزو غير قليل من تربيتنا إلى أننا صادفناه وصادقناه. والصداقة تستنبط منا أسخي خصالنا، كالوفاء والخدمة والولاء. ونحن فقراء بغير الصداقة، نعيش فيما يشبه الكزازة النفسية، كأن حياتنا تمتد على بعد واحد، تطول بلا عرض. إما الحياة العريضة فتحتاج قبل كل شيء إلى الصديق الوفي الذي نشتاق إلى حديثه ونألفه حتى نكاد نتفاهم معه وهو صامت، نعرف مشكلاته كما يعرف مشكلاتنا، وتعود هموم أحدنا هموم الآخر، ولا يكاد يسير أحدنا بغير رفقه الآخر، كأننا يدان في قفاز.
وفي الشيخوخة تكبر قيمة الصداقة، لأن الفراغ يكثر. وهو يثقل علينا في الوحدة، ويخف بالرفقة. وأحيانًا نجد المسنين يواظبون على لقاء بعضهم بعضًا في مواعيد لا تتغير، كأنهم يحرصون على أصدقائهم كما لو كانوا يحرصون على مواعيد العمل. وهذا يدل على أنهم يجدون في هذه الصداقة الأنسة والحب والمسرة. وعندما نتأمل حديثهم عن ذكرياتهم واختباراتهم نجد اهتمامًا واشتغالًا نعرف منها أنهم يستمتعون بصداقتهم ويجدون فيها السلوى واللذة. وواضح أن هذه الصداقة تكون أنجع وأمتع إذا كان الأصدقاء والمسنون على تكافؤ في المستويين الاجتماعي والثقافي حتى يشتركون في الاهتمامات ولا يختلفوا كثيرًا في الوجهات والاعتبارات. وكثيرًا ما نجد أن الرغبة في هذا التكافؤ تحملنا على إيثار الغريب على القريب في الصداقة، لأننا نشارك هذا الغريب في اهتماماته ووجهاته ونأتنس به ونجد أن له عادات تشبه عاداتنا، في حين أن القريب لا نجد فيه أحيانًا مثل هذه الميزات التي تحملنا على صداقته.
والمقارنة بين العجوز المنفردة التي تحبس نفسها طوال النهار بمنزلها مع قطتها أو كلبها، والشيخوخة تتأكلها، وبين أخرى قد عرفت الصديقات اللاتي لا ينقطعن عن زيارتها أو استزارتها، هي في الواقع مقارنة بين البؤس والسعادة. فالأولى تحتبس في مسكنها وكأنها تنتظر الموت. أما الثانية فتعيش مع صديقاتها في اهتمامات واشتغالات كأنها لن تموت. ومثل هذا يقال أيضًا عن الرجال المسنين. فإن كثيرًا من سعادة الشيخوخة يعود إلى وفرة الأصدقاء الأوفياء الذين يكسبون الحياة معنى، أكبر ومغزى أوفر.
وقد عرفنا كثيرين من الشيوخ المسنين استطاعوا أن يجدوا، بخصال من النشاط والمرح استبقوها إلى شيخوختهم، أن يصادقوا حتى أبناءهم الذين يصغرونهم بثلاثين أو أربعين سنة. ولكن هذا نادر والعادة أن يجد كل منا صديقه بين أنداده الذين يضارعونه في السن.
مكان في إقليم سري، في بقعة هادئة، ناد للعبة الجولف، كان يقصد إليه منذ عشرين سنة ثلاثة من المسنين كلهم يزيد على السبعين. وكانوا يواظبون، مواظبة الساعة، على أن يجروا حول ميدان اللعب مرتين كل أسبوع. وكانوا يلعبون في عناية والتفات. وكل منهم يعامل الآخرين بكل كياسة، بل بكياسة تزيد على ما يطلب في السلوك العام. وكانوا يقلون من الحديث. وكان أحدهم أصم، والآخر يكاد يكون كذلك. ولذلك كانوا إذا تحدثوا سمعت حديثهم على مسافة بعيدة، يتنادرون بتلك النكات العتيقة بما يتفق وتقلبات المباراة في الجولف بينهم. وكانت هذه النكات تبعثهم على الضحك المشترك، فإذا لم يستجب أحدهم إلى النكتة نظر إليه الآخران في اهتمام وقلق لأنهما كانا يفسران عندئذ جموده بأن عرق النسا قد آلمه في الصباح، أو أن كأس الخمر التي تناولها في المساء السابق قد هيجت عليه النقرس. وكان إذا اضطرب أحدهم وهو يقعد، أو إذا أساء في اللعب، بانت على وجهي الآخرين أمارات العطف. وقد قضي هؤلاء الثلاثة عشرين سنة من الصداقة التي تكونت من هذه الرياضة المشتركة …
وجدير بمثل هذه الرياضة أن تربي هذه الصداقة، وأجدر منها تلك الاهتمامات الأخرى الثقافية والاجتماعية.