فطرة الإنسان تهديه
سأبذل في هذا الحديث جهدًا فوق الجهد المألوف؛ لأجعل الموضوع صالحًا للعرض على جماعة المثقفين، لعله يصلح بعد ذلك أساسًا من الأسس الأولية أو مبدأ من المبادئ الأساسية، في مناقشاتنا حول الموضوعات التي يُثار عليها الخلاف فالجدل فالخصومة، فالتطرف، فالتعصب، والذي يجعل موضوع هذا الحديث في حاجة إلى جهد فوق الجهد المألوف، هو أنه — كما أراه — يتطلب منا دقةً في تحليل الأفكار التي سوف نتناولها في مراحل سَيْرنا، تحليلًا قد يبلغ بنا حدًّا تضيق له الصدور، اللهمَّ إلا تلك الفئة القليلة، التي يأخذها القلق إذا هي استراحت إلى الأفكار مأخوذة في إجمالها، دون العناء في تحليلها وتأصيلها، ولكن لماذا عناء التحليل والتأصيل؟ الجواب هو أن معظم ما يعترك حوله الناس حتى لتنشب بينهم الحروب، إنما ينشأ عن غموض في فكرة ما، أساسية في حياتهم، فتفهم هنا على نحو، وهناك على نحوٍ آخر، إن شيطانًا، أو ربما هو جيش من الشياطين يوهم الناس عن الأفكار الأساسية في حياتهم بأنها واضحة أمام العقل وضوح الشمس، يستطيع كلُّ فرد من غمار الناس أن يتصورها، وأن يفهمها، ويسلك على أساس ذلك الفهم سلوكًا صحيحًا، حتى إذا ما اعترضه سالك آخر بسلوكٍ مخالف، بناه على فهمٍ آخر، اشتعل صاحبنا غضبًا دفاعًا عن فكرته، وحمايةً لسلوكه، وتسألني بعد ذلك: فيمَ عناء التحليل والتأصيل؟ فأقول: إنه إذا كانت صنوف الدواء التي نُعالج بها مرضانا بحاجةٍ إلى معرفة دقيقة بالعناصر التي رُكِّبت منها، حتى نكون على بينة كاملة بمحتواها، وأن نكون — بالتالي — على بينة من صلاحيتها بشفاء ما يراد منها شفاؤه، أقول إنه إذا كان هذا هو موقفنا من مركبات الدواء، فيجب أن نكون أشد حرصًا في حالة «الأفكار» التي تلعب برءوس الناس، حتى ليطير صوابها بسبب تلك الأفكار، مع أنها صيغت أول الأمر، لتكون للناس سبيلًا إلى هدًى.
على أن متابعة الفكرة المعينة إلى أصولها وعناصرها، ليست بالأمر المستطاع بغير مرانٍ وتدريبٍ. وأضرب لك مثلًا: صديقًا عرفته حق المعرفة، وعرفت فيه قدرًا عظيمًا من التعليم ومن الثقافة، لكن وجهته في كل ذلك، لم تتجه بصفة خاصة ومباشرة، نحو تحليل الأفكار لتوضيحها، فحدث في لقاءٍ لنا ذات يومٍ، أن دار حديثنا عن الإنسان وفطرته، فكان لا بد لنا في هذه الحالة أن نُبعد من حسابنا ما يتفق فيه الإنسان مع سائر الكائنات الحية، من نبات وحيوان، فنبعد الاغتذاء، والنمو، والتكاثر، والغرائز المشتركة إلخ؛ لأنها وإن تكن «فطرة» إلا أنها فطرة لا تقتصر على الإنسان، ثم حاولنا بعد ذلك أن نحدد ما نظنه علامةً مميزة للإنسان من ناحية الفطرة، وليس الرأي في هذا المميز الفطري للإنسان، على إجماع المفكرين في هذا المجال، فمنهم — أو قُل أكثرهم — مَن يجعله «العقل» ومنهم مَن يجعله «الإرادة»، ومنهم مَن يجعله «الوجدان» الذي هو وسيلته إلى الإيمان، وهكذا، لكننا — صديقي وأنا — في تلك الجلسة الهادئة المتأملة اتفقنا على «العقل» محددًا لفطرة الإنسان.
لكن قولنا: «عقل»، هو أبعد ما يكون عن الكفاية والوضوح؛ لأن هذا «العقل» المزعوم، هو بدوره فكرة مركبةٌ تحتاج إلى تحليل لكي تُفهم فهمًا واضحًا، فماذا عسى أن تكون تلك العناصر البسيطة المتعاونة والمتفاعلة، التي من مجموع أوجه نشاطها يتكون ما نسميه في الإنسان «عقلًا»؟ «فالعقل» — بداهةً — ليس عضوًا من أعضاء الجسد كاليدين، والقدمين، والقلب، والمعدة، بل إنه ليس هو «المخ» الذي هو كتلة من مادة تملأ تجويف الجمجمة، بل العقل «وظيفة» يؤديها من أجهزة البدن ما يؤديها، وأرجوك أن تفرِّق بين العضو ووظيفته، فليست اليد هي عملية القبض على الأشياء، وليست الرِّجلان هما عملية المشي، وهكذا، وعلى هذا الغرار يكون «العقل» وظيفةً تؤديها أجزاءٌ معينة من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من الأداء، هو الذي نسمِّيه عقلًا؛ وذلك لأن مصادر السلوك البشري متعددةٌ، فمن السلوك ما تتجسد فيه عاطفة، أو انفعال، ومنها ما يتجسد فيه «تفكير». وإذا شئت فقارن بين رَجلين، رأيت أحدهما يُحطم أثاث بيته من شدة الغضب، والآخر يجلس إلى مكتبه محاولًا إقامة البرهان على نظرية هندسية، فكلتا الحالتين سلوك، لكنهما سلوك من نمطين مختلفين، وثانيهما دون أولهما هو «عقل».
إلا أننا — صديقي وأنا — بعد إذ بلغنا هذا الحد من التحليل، بدأ اختلافنا في طريقة التفكير، فلقد رأى هو أننا قد بلغنا نهاية الطريق، بينما رأيت أنا أننا عند نقطة البداية؛ لأن الغاية المنشودة لا يوصل إليها، إلا إذا مضينا في التحليل حتى نبلغ به الوحدة البسيطة، التي لا يكون وراءها ما هو أبسط منها، فما هي تلك الوحدة التي تبلغ من بساطة التكوين حدَّها الأقصى؟ وكان الرأي الذي عرضتُه على صديقي نقلًا عن بعض مَن قرأت لهم على امتداد السنين، أن البذرة الأولية الأولى، لما سوف ينمو فيصبح «عقلًا»، هي القدرة على إدراك الشبه بين شبيهَين؛ لأنه بغير تلك القدرة الأولية، يستحيل على إنسانٍ أن يتكوَّن له تصورٌ لأي شيءٍ، وبالطبع إذا استحال علينا تصور الأشياء فقد استحال — بالتالي — «التفكير»؛ لأن ما نسمِّيه تفكيرًا ليس إلا إيجاد الروابط بين تصورَين أو أكثر، فإذا قلت — مثلًا — «إن من الطيور ما يبني أعشاشه على فروع الشجر» كان لا بد لي أن أكون قد كوَّنت لنفسي — من تجاربي الماضية — تصورًا عمَّا أسمِّيه «طير» وما أسميه «عُش»، وما أسميه «شجرة» و«فرع»، فضلًا عن تصوري للعملية التي أسميتها «بناء»، وإذا دققت النظر في أي تصورٍ من تلك التصورات، وليكن تصورنا «للطير»، كيف نشأ لدينا بادئ ذي بدء، وجدت أن الرائي قد رأى طائرًا مرة، ثم رأى طائرًا مرةً ثانية، فأدرك «الشبه» بين الحالتين (وما هو أكده) فجمع المتشابهات في صنفٍ واحد أطلق عليه اسمًا واحدًا، فإذا نحن افترضنا عجز الإنسان عن إدراك الشبه على هذا النحو، يظل كل طائر يراه حقيقةً مفردة قائمة بذاتها، مقطوعة الصلة بغيرها، ومن ثَم تمتنع عنده عملية الربط، فتمتنع معها عملية التفكير.
وتعالوا لنحصر انتباهنا معًا في عملية إدراكنا للتشابه بين شبيهين، وما تنطوي عليه، فافرض أنك قد رأيت صورةً فوتوغرافية لأخيك، فقلت: هذه صورة أخي، فما الذي مكَّنك من رؤية العلاقة بين الطرفين؟ لاحظ جيدًا أنك قد رأيت كلًّا من الطرفين على حدة، فهذه هي صورة أمامك، وذلك هو أخوك، فكيف جاءت النقلة من طرفٍ إلى طرف؟ إن بصرك قد التقط لك شيئين، كلٌّ منهما مستقلٌّ عن الآخر، فأين، وكيف انبثق الإدراك الثالث، الذي لا هو إدراكٌ لأخيك، ولا هو إدراكٌ للصورة، وإنما هو إدراكٌ ثالث أدركت به «علاقة» بين الطرفين، مرة أخرى أقول: إن هذه «العلاقة» — علاقة التشابه — لا هي الإدراك الأول، ولا هي الإدراك الثاني، إنما هي شيءٌ آخر مضاف، وإذا كان البصر هو الذي قام بالإدراكَين الأوَّلَين «فالعقل» هو الذي قام بالإدراك الثالث، ومن هذه البداية البسيطة، حين تتسع وتنمو وتتركب، تنشأ للإنسان حياته العقلية، تلك الحياة التي لا هي استغنت عن مدركات الحواس، ولا هي اقتصرت عليها، وإذا تفاوت الناس في قدراتهم العقلية بعد ذلك، فإنما هم يتفاوتون في قدرتهم على إدراك «الشبه» بين ما هو متشابه، ومن هنا نفهم قول أفلاطون: «دُلَّني على مَن يُدرك الشبه بين الأشياء، وأنا أتبعه كما أتبع الإله.» وإنك لتزداد فهمًا بمعنى هذا القول، إذا علمت أن أوجه الشبه قد لا تكون ظاهرة للعين، وإلَّا فأين الشبه الظاهر بين «٤ + ٢» و«٦»؟ أو بين دوران الأرض حول الشمس، وسقوط الحجر إذا ألقيتَ به من الهواء، فيسقط على الأرض بعد حين، إن الشبه بينهما هو «الجاذبية» وفعلها.
وأترك الآن صديقي وما دار بيننا من حديث، انتهى بنا إلى تحديدٍ لفطرة الإنسان بأنها «العقل» ثم إلى تحديد «العقل» ذاته بأنه أساسًا قدرة على إدراك الشبه بين المتشابهات، وما يمكن أن يُبنى عليه، لأستطرد في حديثي إلى القارئ، موضحًا وشارحًا، لأنتهيَ به إلى النتيجة التي أردتها له، على أن الأمانة تقتضي أن أقرر عن صديقي ذاك، قبل أن أنتقل بالحديث إلى خطوته التالية، بأنه وإن يكن قد تركني لأحدد فطرة الإنسان بأنها «العقل»، وبأن أحدد «العقل» بأنه في أساسه إدراك الإنسان لوجه الشبه بين الشبيهَين، إلا أنه — وأعني صديقي عليه رحمة الله — قد تركني لأسترسل في تحديداتي تلك وهو على مضض؛ لأنه برغم علمه وسعة مطالعاته وحدَّة ذكائه، لم يستطع أن يرى ما أراه في العملية الإدراكية التي ندرك بها «التشابه» من أنها عنصرٌ «ثالث»، يجيء فوق إدراكنا لأحد الطرفين المتشابهين من جهة، وللطرف الثاني من جهةٍ ثانية؛ إذ الرأي عنده، هو أنها لمحةٌ إدراكية واحدة، ولا حاجة بنا إلى تحليلها، وقد يكون الفرق بين ما أراه وبين ما ليس يراه، أن خطَّه الدراسي مختلف أشد اختلاف عن خط دراستي.
والآن فلننتقل إلى الخطوة التالية في حديثنا، راجيًا من القارئ الكريم جمالَ الصبر وتركيز الانتباه، وسيجد جزاء ذلك في أهمية النتيجة التي ستتولد لنا من هذه الخطوة، ولنَعُد معًا إلى موقف التشابه بين شيئين، كأن يكون موقفًا طرفاه هما فردٌ معين من الناس نعرفه، وصورته الفوتوغرافية، فنرى الصورة وحدها لنقول من فورنا إنها صورة فلان، وهنا لا بد لي من لفت نظرك إلى حقيقة رياضية، وهي أن علماء الرياضة يحددون معنى «التشابه» بأنه «علاقة واحد بواحد» — كما يقولون — بمعنى أن كل نقطة في أحد الشبيهين تقابلها نقطة في الشبيه الآخر، فإذا تحقق ذلك، لا يهمُّنا أيُّ اختلافٍ يكون بين الطرفين؛ فالفرد المعين وصورته مختلفان في كل شيء، إلَّا في ذلك التقابل بينهما نقطة لنقطة، فالرجل من لحمٍ وعظم ودم، والصورة من ورق، والرجل يمشي ويأكل ويفكر، وليس في الصورة شيء من ذلك، ومع هذا كله فهما شبيهان؛ لما بينهما من «علاقة واحد بواحد» بالمعنى الرياضي الذي أسلفت لك ذكره.
وبعد هذا التنبيه، نعود إلى الرجل وصورته، فمهما يكن من أمر السرعة الخاطفة التي ننتقل بها من طرفٍ إلى طرف، فواقع الأمر هو كما أنبأتك، من أنك قد لمحت بين الطرفين ذلك التقابل الذي ذكرناه، ولكن السؤال الذي لا بد من مواجهته بكل الجدية التي في مستطاعنا، هو هذا: إذا كان محالًا علينا أن نُجريَ تلك المقابلة بين الشبيهَين، إلا إذا انتقلنا بانتباهنا من الطرف الأول إلى الطرف الثاني، وهو انتقالٌ يتطلب فترة من الزمن، ولا يغير من هذه الحقيقة شيئًا أن تكون تلك الفترة بالغة من الصغر، حتى يصعب قياسه بكل أجهزة قياس الزمن، أقول: إذا كان الأمر كذلك، فنحن عند انتقالنا من الطرف الأول إلى الطرف الثاني، نكون قد عهدنا إلى «الذاكرة» أن تحتفظ بصورة الطرف الأول، لتكون معنا ونحن ننظر إلى الطرف الثاني، فالسؤال هو: ماذا يضمن لك صدق الذاكرة فيما تقدمه إليك؟ هذه واحدةٍ، والأخرى هي: ماذا يضمن أن تكون قد تقصيت بلمحتك السريعة، نقاط الطرفين، ليجوز لك بعد ذلك أن تزعم لهما تشابهًا قائمًا على قيام علاقة التقابل نقطة لنقطةٍ، إنه لا ضمان، ومع ذلك يجد كلٌّ منَّا نفسه، وهو في موقفٍ كهذا، مدفوعًا بفطرته إلى أن يمتلئ بروح الثقة واليقين، بأنه قد وجد تشابهًا بين الطرفين، فإذا حاولنا نحن تحليل مثل هذه الثقة الواثقة باليقين، ما مصدرها؟ لم نجد إلا شيئًا نابعًا من فطرة الإنسان أيضًا، يُطمئنه بأن ما قد رآه هو صحيحٌ، وأنه إذا لم يكن في مستطاعه إقامة البرهان على صحته، فذلك لا يغير شيئًا من الثقة في صحة ذاك الإدراك، فعلى أي أساسٍ تشعر النفس بمثل هذه الطمأنينة؟ الجواب هو نفسه الجواب الذي أجاب عليه الإمام الغزالي عن سؤالٍ كهذا، حين تساءل عن السند الذي يستند إليه في وثوقه بأحكام العقل، هو أنه «نورٌ يقذفه الله في الصدور»، ومعنى ذلك هو أن كل عملية إدراكية في حياة الإنسان، إذا ما حللناها إلى أصغر وحداتها، وجدنا دائمًا فجوةً تحتاج إلى تعليل، ولا تعليل بين أيدينا، سوى أنها هداية من الله سبحانه، فقد جعل للإنسان فطرة تملأ الفجوة في طمأنينة الواثق باليقين.
أرأيت إلى عظمة هذه النتيجة التي انتهينا إليها؟ لكنك قد تسألني: ألم تكن يا أخي مسرفًا حين قلت إن تلك الفجوة قائمة في كل عمليةٍ إدراكية؟ لقد كنت تُحدثني عن رؤية التشابه بين الأشياء، فما الذي جعلك تقفز من موضوع التشابه إلى تعميم الحكم على كل عملية إدراكية في حياة الإنسان؟ فهل ترى أن كل عملية إدراكية بالحواس، أو بالعقل، أو بالوجدان المباشر، تتضمن موقعًا فيه «تشابه» بين طرفين أو عدة أطراف؟ وعن مثل هذا التساؤل المفترض، أقول: نعم، فإذا رأيت بعينك شجرة أمام دارك، موقنًا بصدق ما قد نقلتْه إليك عينُك، فكأنك قد أقمت طرفين: المعطى البصري من ناحية، والوجود الواقعي من ناحية أخرى، فبين الصورة البصرية والواقعة الحادثة بالفعل أمام دارك، مقابلة الواحد بالواحد، التي هي تعريف «التشابه» عند علماء الرياضة، وإذا أنت رسمت صورتك البصرية تلك، في جملة تكتبها هكذا: «أمام داري شجرة»، كان صدْقُ هذه الجملة مستندًا إلى تشابهٍ في التكوين بينها وبين الواقعة القائمة في عالم الأشياء، فلو أردنا مراجعة الصورة المكتوبة على الأصل الموجود في دنيا الواقع، اضطررنا إلى الانتقال من طرفٍ إلى طرف لنُجريَ عملية المقارنة، وذلك معناه أن نركبه إلى الذاكرة في الاحتفاظ بأحد الطرفين حتى نهيِّئَ فرصة الانتقال، وهنا يجيء السؤال الذي أسلفناه: وهو: كيف تأمن للذاكرة في وصولك إلى يقين؟ فلا يكون الجواب إلا بشعورٍ فطريٍّ يحمل معه الطمأنينة بغير برهان، وذلك هو — ونقولها مرةً أخرى — ما قد أشار إليه الغزالي بأنه «نورٌ يقذفه الله في الصدر.»
بهذا تكون «كل» عملية إدراكية، نعم «كل» بلا استثناء، منطوية على قيام أطراف تشابهت، وفي الوصول إلى المعرفة عن طريق التشابه بين الأطراف، تقع لنا فجوة كان حقها أن تُثير فينا القلق على صدْق تلك المعرفة، لكننا على العكس نشعر بالطمأنينة برغم الفجوة، وهي طمأنينة تُمليها فطرة الإنسان عليه إملاء، وكأنما هو وحي داخلي في طبيعة الإنسان، بأن الله سبحانه قد أراد لنا الهداية بما يُشبه النور الذي تراه القلوب ولا تراه الأبصار.
وإذا وجدت نفسك — أيها القارئ — على قلقٍ من أن يكون للتشابه كل هذا الثقل في عمليات المعرفة، فهات أي مثل تريد، لموقف فيه معرفة أدركتها، وانظر، فمثلًا: قد ترى صديقًا لك في الطريق، فتعرف أنه هو فلان، فكيف عرفت ذلك؟ إنك عرفتَه من مقارنة سريعة أجريتَها بين صورة ذلك الصديق كما هي مختزنةٌ في ذاكرتك، وبين صورة الرجل الذي رأيته في الطريق، فوجدت تطابقًا، أي أنك وجدتَ تشابهًا بين الصورتين، ومن هذا المثل البسيط، تستطيع أن تتصور كيف أنك في كل موقف تتعرف فيه على شيءٍ أو تُدرك فيه حقيقة شيء، تلجأ إلى مقارنة تُجريها بين قديمٍ عرفته وجديد طرأ عليك وتريد أن تعرفه، وفي مثل هذه المقارنة تكمن علاقة الشبه التي هي محور الإدراك.
ومضت بعد الإمام الغزالي سبعة قرون أو نحوها، وظهر ديكارت ليتناول ما يعرفه بالمراجعة ابتغاء اليقين، وارتكز في ذلك على الركيزة التي استند إليها الغزالي، وهي أن نبدأ من صورٍ أولية في فطرة الإنسان، لنخرج منها نتائجها، وبينما هو سائرٌ على هذا الطريق في خطواته الأولى، وجد أنه إذ هو يستدل يقينًا من يقين، تنشأ له تلك الفجوة التي أشرنا إليها، فمثلًا إذا قال: إن الخط «أ ب» يساوي الخط «ج د»، لكن هذا الخط يساوي خطًّا ثالثًا هو «ﻫ و»، إذن يكون الخط الأول «أ ب» مساويًا للخط الثالث «ﻫ و»، فنشأ له السؤال: كيف تركبه إلى هذا اليقين الرياضي، مع أنك تنتقل من خطٍّ إلى خط، وتستغرق عملية الانتقال فترةً من الزمن، لا حيلة لك فيها إلا أن تركن إلى ذاكرتك، لتحفظ لك حقيقة الخط الأول ومساواته للخط الثاني، وتحتفظ بها ريثما ينظر في مساواة أخرى بين الخطَّين الثاني والثالث، ألا يجوز على الذاكرة أن تسهوَ فتدسَّ شيئًا من الخطأ فيما كان قد وكل إليها حفظه، فلم يكن أمام سؤال كهذا من سبيل، سوى التسليم بأن ذلك ممكن من الناحية النظرية، لكن شعورًا بالطمأنينة ينبثق من فطرة الإنسان، بأن مثل هذا التضليل من الذاكرة لا يحدث بالفعل، مما يجعلنا نظل على يقيننا بصحة الاستدلال الرياضي، ولماذا لا يحدث ذلك التضليل من الذاكرة؟ كانت الإجابة عند ديكارت هي: أنها رحمة الله بالإنسان، إن صُنعت له فطرةٌ تهديه إلى ما هو حق.
إنك لا تجاوز الصواب، إذا قلت إن كثرة غالبة من عمليات الفكر، حتى في أدقِّ العلوم، ومنها العلوم الرياضية بأسرها، تعتمد على ما يسمونه بالعلاقة «المتعدية»، وأبسط مثلٍ نوضح به تلك العلاقة، هو أن نقول: إذا كانت «أ» تساوي «ب» وكانت «ب» تساوي «ﺟ»، إذن تكون «أ» مساوية ﻟ «ﺟ»، فها هنا قد ربطنا بين «أ» و«ﺟ» عن طريق «ب» التي تجعلها حلقة اتصالٍ بين الطرفين، ثم تتعداها، ولو دققت النظر في هذه العملية الاستدلالية، التي تمثل الطريقة التي يعمل بها العقل في معظم عملياته العملية، وجدتها تتضمن تلك الفجوة التي حدَّثتك عنها، أي أنه لا بد للعقل من قفزةٍ يقفز بها من موقفٍ إلى موقفٍ ثانٍ، لكي تتاح له أن يقفز قفزةً أخرى يربط بها الطرف الأول بالطرف الأخير، وهو في قفزاته تلك يكون في فراغ؛ لأنه يبعد مؤقتًا عن الموضوع المطروح للتفكير فيه، وكما ذكرنا من قبل، أن العقل خلال هذه الانتقالات، يعتمد في صحة سيره، على أمانة الذاكرة، حين تحفظ له الجزء الأول، ريثما ينتقل إلى الجزء الثاني، فإذا سألنا: كيف يمكن أن يقام بناء العلوم، وفي مقدمتها علوم الرياضة المعروفة بيقين صحتها، أقول: كيف يمكن أن يقام بناء العلم على أساس الثقة في صدق الذاكرة وأمانتها؟ فيكون جواب السؤال، الذي لا جواب سواه، هو أن فطرة الإنسان تدفعه دفعًا إلى الطمأنينة، فإذا لم يكن يدري لماذا تدفعه تلك الفطرة إلى الثقة فيما لا يستحق كل هذه الثقة — وأعني «الذاكرة» — أجابه مفكرٌ كالإمام الغزالي، أو فيلسوف مثل ديكارت، بأنه نورٌ يقذفه الله في صدورنا لنهتديَ به في تلك اللحظات الحرجة! إبَّان السير في عمليات التفكير العلمي؛ لأنه بغير تلك الهداية الإلهية، لم يكن لينشأ علمٌ وعلماء.
وإذا تركنا مجال التفكير العلمي، إلى ما سواه من سائر المجالات، التي هي كثيرةٌ ومتنوعة، ولا تكتمل للإنسان حياة بغيرها، مثل «الإرادة» التي بها يختار الإنسان أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، ومثل «الإيمان» بعقيدة دينية، أو «الاعتقاد» في فكرةٍ سياسية أو غير سياسية، وأمثلة أخرى من مجالات أخرى كالفن والأدب وغيرهما، أقول إننا إذا تركنا مجال «العلوم» إلى شتى المجالات الأخرى، التي هي ضرورة في حياة الإنسان، كضرورة العلوم، إن لم تكن أكثر لزومًا، وجدنا ما يُشبه الفجوات التي وجدناها في التفكير العلمي، والتي قلنا عنها إنها تظل بغير تعليلٍ، إذا لم نعللها بلطف الله بعباده على حدِّ ما قاله ديكارت في هذا الصدد؛ وذلك لأننا في أي مجالٍ من تلك المجالات الأخرى، واجدون حتمًا ما يدعونا إلى التساؤل قائلين، ما الذي يُبرر هذه الفكرة لصاحبها، ولماذا لم يقع على فكرةٍ أخرى؟ فمثلًا، خُذ مجال «الإرادة» حين نجد الكثرة الغالبة من البشر قد «أرادت» أن تكون «الحرية» هدفها الذي تسعى إليه، فنسأل: لماذا لم تقع إرادة الإنسان على «العبودية» مطلبًا؟ فلست أظن أنك واجدٌ لنفسك جوابًا مقنعًا، إلا أن تقول إنها فطرة فطر الخالق سبحانه وتعالى الإنسانَ عليها، تمامًا كما قلنا عن افتراض الأمانة في الذاكرة عند الانتقالات القصيرة، من المقدمات إلى نتائجها، في التفكير العلمي.
وهكذا يرى الإنسان، في كل خطوة يخطوها بعقله في العلم، أو بوجدانه في العقيدة، أو بإرادته في دنيا الغايات والوسائل، إشارة دالة على أن الله معه، يهديه بما ألهم فطرته، ذلك إذا أحسن الإنسان إصغاءَه إلى فطرته وهي في نقائها، لم يُفسدها التضليل وخبث النوايا.