طريق القدماء طريقنا … ولكن
كنت ذات يومٍ من شهر ديسمبر سنة ١٩٥٣م، أسير في شوارع نيويورك، ومررت في طريقي بمكتبة فدخلتها، وإذا أول ما يواجهني عند دخولها، قائمةٌ خشبية صغيرة، ذات طوابق أربعة، وكان الرف في كل طابق فيها مربعًا، رُصَّت على كل جانب من جوانبه الأربعة مجلة أو مجلتان، وقد وضعت تلك القائمة الخشبية مستقلةً بذاتها عند المدخل، وكأنها عالمٌ متوحدٌ بذاته، لا شأن له بما احتوت عليه المكتبة من كتبٍ وغير كتبٍ مما تعرضه المكتبات، فأخذتُ أدورُ ببصري حول المجلات، واحدة واحدة، في الرفوف الأربعة جميعًا، ومن تلك اللمحة السريعة عرفت لماذا استقلت تلك المجموعة بمكان خاص يعزلها عن المعروضات الأخرى، ويُبرز وجودها في الوقت نفسه أمام الزائرين؛ وذلك أنها كانت كلها مجلات أوغلت في تخصصاتٍ بعيدة بُعدًا شديدًا عن التيار العام، وكان بينها مجلة جعلت عنوانها: «من أدب الثقافات الأخرى»، فالتقطتُها لأرى محتواها، وإذا بعيني تقع أول ما تقع في فهرس الموضوعات على اسم طه حسين، واسم توفيق الحكيم، وأمام كل اسم منهما عنوان الموضوع الذي تُرجم عنه من أصله العربي إلى الإنجليزية، فاشتريت المجلة ومضيت في سبيلي، مكتفيًا من تلك المكتبة بهذا الغنم الكبير.
وما كدت أستقر في مكمني مع قدوم الليل، حتى جعلت المجلة سميري، وبدأت، طبعًا، بقراءة الترجمة الإنجليزية للنصَّين المنقولين عن طه حسين وتوفيق الحكيم، ولا بد لي هنا أن أُشيرَ إلى الفرحة الهادئة التي سرَتْ في كياني وأنا أقرأ، وهي فرحة المزهو بنفسه إذا ما وجد بضاعته تغزو أسواق الآخرين، وكأنما أنا الكاتب الذي تُرجم عنه النصَّان معًا، قل إنها فرحةٌ صبيانيةٌ إذا شئت، لكنني أقصُّ عليك واقعًا بحذافيره، إلا أن الذي استوقف نظري فيما بعد، عندما فرغت من القراءة وأخذت أسترجع انطباعها في نفسي، هو أنني أحسست فيما قرأته مترجمًا عنا، وكأنه في إنجليزيته كالغريب في غير وطنه، نعم أحسست وكأنما المعاني في المقطوعتين، لم تُخلق إلَّا لتكون في ثوبٍ عربيٍّ، وهو شعور يُشبه ما كنت أشعر به أحيانًا في أوروبا إذا صادفت عربيًّا يلبس قبعة، فلأمرٍ ما لم أحدِّده لنفسي حتى الآن، كنت أرى القبعة غريبة على الرأس العربي، وقلما وجدت انسجامًا بين الرأس العربي والقبعة، وهكذا أحسست بشيءٍ من الغرابة أو قُل من الغرابة أو الإغراب، بين المضمون العربي والثوب الإنجليزي الذي وضعوه فيه، ولم تكن الغرابة من جنسٍ واحد تمامًا، في طه حسين والحكيم؛ فأما طه حسين فقد رأيت في جلاءٍ كيف أن الإنجليزية قد ناءت بفيض القول على معناه، فكلمات كثيرة كانت لها طلاوتها في العبارة العربية، بدَتْ وكأنها زوائد قليلة المعنى في الترجمة الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فقد كانت القطعة المترجمة، فيما أذكر عن بيعة الخليفة أبي بكر الصديق تحت السقيفة؛ فالنص العربي الذي يقرؤه أيُّ قارئ عربي مهما خفَّت موازينه في عالم الثقافة، دون أن يشعر بحاجةٍ إلى شرحٍ وتوضيح، قد تطلب من المترجم الذي نقل النص إلى الإنجليزية، أن يقف عدة مرات في الجملة الواحدة ليشرح في الهامش ماذا يقصد بهذا وبهذا وبذاك، مما ورد في كل جملة على طول النص من أوله إلى آخره؛ ففي حالة طه حسين، لم يكن المضمون، بل ثوبه العربي هو موضع الغرابة على قارئه في سياق الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فلم تكن الغرابة في نقل النص العربي إلى ما يقابله في اللغة الإنجليزية، بل كانت الحقائق المروية هي التي بعدت عن الطريق العام بالنسبة إلى القارئ الإنجليزي؛ ولذلك احتاجت من المترجم إلى تعليقات شارحة كثيرة، لماذا؟ لأننا ونحن نقرأ عن موقفٍ هامٍّ من تاريخنا الإسلامي، نقرأ عن أشياء ألفناها وتعودنا سماعها، حتى ولو لم نكن على علمٍ بتفصيلاتها، ولكن الأجنبي عن تاريخنا يحسُّ غربةً شديدة.
سواء أكان موضع الغرابة في ثوبٍ إنجليزيٍّ يرتديه أدبٌ أو فكرٌ عربي، من الصنف الذي شعرت به في القطعة المترجمة عن طه حسين، أم كان من الصنف الثاني الذي وجدته في القطعة المنقولة عن الحكيم؛ فقد كان الدرس الذي خرجتُ به من الحالتين واحدًا، وهو أن للعربي مناخَه الثقافي المتميز الفريد، لفظًا ومضمونًا، ولست أقول هذا لأدهش منه أو لأزعم أنه هو الدرس الجديد الذي تعلمتُه يومئذ، فلكل ثقافةٍ في الدنيا شيء من هذه الخصوصية، التي يألفها أصحابها ولا يألفها الغرباء، وإنما أقول هذا لأشتقَّ منه نتيجة أراها حجةً قوية تُبين صلتنا بأسلافنا، ألا وهي التشابه الذوقي بين الأحفاد والأجداد، ولعل ذلك التشابه في الذوق الفني والذوق الأدبي أقوى ما يعمل على ربط الثقافة الواحدة عبر عصورها، في تيارٍ واحد، حتى وإن اختلفت مراحله اللاحقة منها عن السابقة، بل لا بد لها أن تختلف، فهناك الذوق المشترك من حيث الأساس، يربط ولدًا بوالد. وأسوق لك مثلًا بسيطًا، غاية في البساطة، هو «المفعول المطلق» في اللغة العربية، كم هو يُشبع مسامع العربي، في حين أن اللغات الأخرى لا تعرفه، ومن هنا كانت ترجمته إلى تلك اللغات مستحيلة، واستمع إلى قول القرآن الكريم: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، إن الأذن العربية إذا ما سمعت رنين المفعول المطلق أينما ورد لا تحمل صاحبها على أن يسأل ما معناه؟ إذ يكفيها أنها قد طربت للنغم، برغم أن للنغم معناه أين هو العربي الواحد، الذي ظفر ولو بقدرٍ متواضعٍ من العلم والمعرفة والتذوق، ثم يقرأ ما طاب له أن يقرأه مما أنتجه الأقدمون وأبدعوه، دون أن يحسَّ من أعماق نفسه أنه يعلو مع المادة المقروءة عقلًا وروحًا؟ ولستُ أُرغم أحدًا على قراءة ما لا يستطيب قراءته؛ لأنني أعلم أن للأفراد اتجاهات مختلفة: فواحدٌ له استعدادٌ لقراءة الشعر، وآخر يقرأ التاريخ والرحلات، وثالثٌ يفضِّل أن يقرأ عن هذا العلم أو ذاك عند العلماء في مختلف علومهم: الفلك، والرياضة، وعلم الضوء، والكيمياء، وغيرها، فأيًّا ما كان مزاجك، وقرأت شيئًا مما خلفه الأقدمون مما يتفق مع ذلك المزاج، وجدت ما قد ذكرته لك وهو الشعور من داخلك بأنك تعلو مع صاحب النص المقروء، وأرجوك أن تلحظ المعنى الذي أقصد إليه حين أقول إنك تشعر بالتسامي والارتفاع؛ لأن ذلك شيءٌ يختلف عن موقف التفرقة بين الصواب والخطأ، أو التفرقة بين مزاجٍ ومزاج في عالم الفن والأدب، فقد تقرأ لعالم الفلك أو الطب أو الكيمياء من علمائنا الأقدمين، فتقع على خطأ صححه العلم الأحدث بعد ذلك، وقد تقرأ لشاعرٍ من شعراء الجاهلية مثلًا، أو حتى لمن جاءوا في العصور التالية، فترى روحًا تختلف عن روح الحياة الحاضرة التي نحياها اليوم، لكن ذلك كله لا يُغيِّر من شعورك بأنك أمام وأمام قدرة قادرة، وجادة، وأمام ضمير علمي أو أدبي، يتحكم في صاحبه فلا يأذن له بأن يتهاون أو يستهتر، نعم إنك تشعر شعورًا قويًّا إذا ما أخذت في مطالعة ما كتبه أولئك العلماء في مختلف ميادينهم، والشعراء الكبار في مختلف عصورهم، بأنك أمام رجل أحسَّ بالتبعة فيما يكتبه أو يُبدعه، فهو لم يصنع ما صنعه ليلهو، أو ليُهيئ وسيلة للهو لمن يتلقَّى ثمرة عمله من معاصريه أو ممن ستأتي بهم العصور التالية، أما أن يكون العلم قد جاء بعد ذلك بنتائج جديدة تُصحح أخطاء السابقين، وتُضيف إلى صوابهم صوابًا جديدًا، وأما أن يجيء الشعر بعد ذلك أو غير الشعر من صور الأدب، مبدعات تسري في أوصالها روحٌ جديدة، فذلك أمرٌ لا بد منه بحكم الزمن، لكنه لا ينفي ذلك الشعور بالهيبة والتوقير الذي يحسُّ به العربي المعاصر، إذا ما جلس ساعةً بين يدَي سلفٍ من أسلافه في الميدان الذي يهمُّه من ميادين العلم والفكر والأدب.
لقد وردت على خاطري الآن قصة «ﻫ. ج. ولز» «آلة الزمن» وهي نوعٌ من الخيال العلمي، بمعنى أن يتصور الروائي أجهزة العلم لكنه بقوة خياله يُتقن الصورة التي يصورها لنفسه، إتقانًا يُتيح للقارئ أن يعيش في دنيا روايته دون أن يشعر، وهو في تلك الدنيا التي تسيرها قوانينها، أن ثمة خللًا في التفكير، أو أن هناك استحالة يرفضها العقل، ورواية «آلة الزمن» قائمة على أن تصور الروائي جهازًا آليًّا، لا يسير في المكان كالسيارة والطائرة والقطار والسفينة، بل يسير عبر «الزمن» فيستطيع راكبه أن يضغط على أزرارٍ معينة فيه، فتنطلق به الآلة إلى أي زمنٍ يُحدده لها من الماضي، أو يضغط على مجموعةٍ أخرى من الأزرار، فتنطلق به نحو أيِّ زمنٍ يُحدده لها من المستقبل، أي أن الآلة لها قدرة السير في أيٍّ من الاتجاهين، الماضي والمستقبل، وفق اختيار الراكب، ثم لها فوق ذلك قدرة على تحديد اللحظة المعينة المطلوبة، سواء أكانت لحظة مضَى بها الزمان أم كانت لحظة سيأتي بها من المجهول.
أقول إنه قد وردت إلى ذاكرتي رواية «آلة الزمن» فقلت لنفسي: إنها والله فرصة جاءت في وقتها، فلماذا لا أركب هذه الآلة الآن، وأنا بصدد الحديث عن أسلافنا، لأطير بها قافلًا إلى لحظةٍ اختارها من تاريخنا الثقافي، لأجلس مع رجال الفكر ساعةً أو يومًا قد يمتد إلى أيام لو طاب لي المقام، لأستمع إلى ما يقولونه ومتى وكيف يقولون، ولأسهم معهم في الحديث إذا وجدت عندهم قبولًا، وإذا رأيت في نفسي قدرةً، وعندئذٍ أعلم بحقٍّ إلى أي حدٍّ نتقارب أو نتباعد، فإذا كانت بيني وبينهم في دنيا الفكر والثقافة صلة كصلة الرحم، عرفت أننا أسرةٌ واحدة حقًّا، عاش بعضها يومًا، وبعضها الآخر يومًا آخر، وهكذا إلى أول الزمان فيما مضى، وإلى آخر الزمان فيما هو آتٍ، وكأبناء الأسرة الواحدة أو العشيرة الواحدة، قد يبلغ الاختلاف بين أفرادها آمادًا بعيدة، ومع ذلك يظل بينهم الرابط العجيب، الذي يظل يربطهم في أسرةٍ أو عشيرةٍ واحدة.
وهممت بالتنفيذ، واخترت أن أضبط أزرار «آلة الزمن» على تلك الأيام التي عاشها أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ولماذا أبو حيان التوحيدي؟ إنه اختيارٌ له أسبابه الفكرية والعاطفية عندي، فأما الأسباب العاطفية فمنها أن المرحوم عباس محمود العقاد قال عنِّي ذات يوم إنني «فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة»، أي أنني كنت في رأيه بين جماعة الأدباء أقربهم إلى التفكير الفلسفي، وبين جماعة المشتغلين بالفلسفة أقربهم إلى الأدب، وكنت إذ قال هذا الذي قاله العقاد على علمٍ بأن تلك العبارة نفسها، قيلت عن أبي حيان التوحيدي بالنسبة إلى أهل زمانه، ومن هنا اشتدت الرابطة في نفسي بين التوحيدي وبيني، ومن الأسباب العاطفية أيضًا، أن أبا حيان التوحيدي قد لقيَ الإهمال من معاصريه، برغم أنه ربما كان في الثقافة أوسعهم أفقًا، وأغزرهم مادة وأبعدهم عمقًا، وأقربهم إلى أن يكون نموذجًا حيًّا لما وصلت إليه الثقافة العربية عندئذٍ، بعد أن تشرَّبت أصولها بفروعٍ نقلت إليها من الثقافات الأخرى واليونانية منها بوجهٍ خاص، ولقد بلغ إهمال معاصريه له أن بلغ من العوز أدناه، حتى لقد كتب ما ينفث به الحسرة على أن يرى نفسه في مثل ما كان فيه من فقر، بينما غيره من شعراء وغير شعراء يتقلبون في نعيم بما خلعه عليهم الأمراء والوزراء، وأحسب أنِّي لبثت أعوامًا تُعدُّ بالعشرات دون أن أجد من الصدَى إلا رجعًا خافتًا، تكاد لا تسمعه الآذان ولطالما أخذتني الدهشة، ولا أقول الحسرة ولا ما يقرب منها لأنني والحمد لله أعمل ما يُريحني، بغضِّ النظر عن الآخرين تجاهي إهمالًا أو اهتمامًا، أقول: لطالما أخذتْني الدهشة أن أرى هذا أو ذاك من كبار المثقفين، يقع له كتابٌ من كتبي لم يكن قد سمع عنه ظانًّا أنه قد نشره لتوِّه، مع أن الكتاب قد صدر منذ أربعين عامًا أو ما يدور حولها، فمن حقائق حياتنا الثقافية التي تدعو إلى الأسف، أن القدرة على الدعاية عند مَن ينتسبون إلى عالم الثقافة إنتاجًا لها، أهم بكثيرٍ جدًّا من القدرة على ذلك الإنتاج الثقافي نفسه، حتى لقد نجح عدد ليس بالقليل، في أن يصعدوا على درجات الهرم الثقافي إلى قمته، ثم أمسكوا هناك بزمام الرأي والتوجيه، دون أن يكتبوا في حياتهم كتابًا واحدًا يشهد لهم أمام الله يوم الحساب، وعلى الجادين في البذل والعطاء، أن ينتظروا رحمة الله.
وشيءٌ يقرب من هذا المصير اليائس، كان مصير أبي حيان التوحيدي، لولا رحمة الله الذي قيض له مَن عرف فضله وعلمه وأدبه، وهو «أبو الفداء المهندس» فذكره للوزير «أبي عبد الله العارض»، فدعاه الوزير ليكون من سُمَّاره فسامره التوحيدي سبعًا وثلاثين ليلة، بمعنى أن يطرح عليه الوزير أسئلةً فيما شاء من موضوعات، فيُجيب التوحيدي بما عنده من معرفة واسعة، ويبدو أن «أبو الوفاء المهندس» الذي كان واسطة خير بين الطرفين، لم يكن يحضر جلسات السمر التي تحدَّث فيها التوحيدي؛ إذ نراه قد استدعى التوحيدي، بعد أن قضى فترة السمر بلياليها السبع والثلاثين، وطلب منه أن يكتب له ما دار فيها من أحاديث، ويبدو كذلك أن التوحيدي قد ظهرت عليه علامة القلق من هذا الطلب، فذكَّره أبو الوفاء بفضله عليه في إيصاله إلى مجلس الوزير، بل وهدده بالانتقام إذا هو لم يفعل ما أراده له أن يفعله، فاستجاب التوحيدي آخر الأمر وكتب أحاديثه مع الوزير في كتاب من ثلاثة مجلدات جعل عنوانه «الإمتاع والمؤانسة».
تلك هي الأسباب العاطفية التي دفعتني إلى اختيار الفترة التي قضاها التوحيدي في مسامرة الوزير العارض، لتحملني إليها «آلة الزمن» التي أشرت إليها، وأما الأسباب العقلية لهذا الاختيار فواضحةٌ، وهي أنني ما دمت أستهدف من رحلتي «بآلة الزمن»، أن أجالس رجال الثقافة من أسلافنا القدماء عندما كانوا في عزِّ عزهم لأرى على الطبيعة، كما يقولون كم يكون بين العربي من أبناء القرن العشرين، وبين هؤلاء الأسلاف، من تجانسٍ أو تنافر، فمَن ذا يكون أفضل من اختيار مجلس ثقافي تُعطَى الكلمة فيه لأبي حيان التوحيدي، وذلك ما قد كان، ركبتُ «آلة الزمن» وضغطتُ على الأزرار المناسبة، التي تُحرك الآلة إلى الوراء، حيث الماضي البعيد، ولقد ضبطت تلك الأزرار لتكون محطة الوصول لآلة الزمن هي بغداد في أيام التوحيدي.
واستأذنت الوزير في حضور جلسات السمَر، وتفضل فأذن فتابعت الحضور ليلةً بعد ليلة، لم يفلت مني إلا بضع ليالٍ، وأشهد أنني ما ضقتُ صدرًا بالحديث الدائر في ذلك المجلس، بل إنني أحسست بأني واحد من أبناء ذلك العهد، بدأت الليلة الأولى بحديثٍ عن الحديث نفسه: متى يطيب ومتى يسخف ويثقل على الآذان؟ وكانت متعتي بلا حدود في الليلة الثانية؛ إذ كان الموضوع عرضًا للأعلام من أهل العلم في يومهم، يتناولهم التوحيدي واحدًا واحدًا بالوصف المركز الواضح الجميل، وكانت له أحكامه على مَن ذكرهم، تشمُّ فيها رائحة الدقة والنزاهة، وتتابعت بنا الليالي حتى جئنا إلى الليلة السابعة، فكان السؤال المطروح هو عن المقارنة من حيث تربية القدرة العقلية، بين دراسة العلوم الرياضية ودراسة البلاغة، وقد أجاد التوحيدي في العرض الذي وضح به الفوارق والفواصل، ما ذكرنا بمقارنةٍ تحدث في أيامنا أحيانًا، بين دراسة العلوم ودراسة الآداب، على أن أمتعَ ليلة عندي كانت الثامنة بالرغم من أن أبا حيان التوحيدي لم يشارك في الحديث؛ وذلك لأن الوزير قد رأى أن تُقام «مناظرة» يدعو إليها صفوة المشتغلين بالحياة الثقافية والمهتمين بأمورها، وكانت المناظرة في المقارنة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، فلقد كان علم المنطق كما صاغه الفيلسوف اليوناني أرسطو، في مقدمة ما ترجمه العرب عن اليونانية، بل إنه ما كاد ذلك المنطق يتخذ صورته العربية، حتى أدرك أهميتَه رجالُ العلم والفقه والفكر بشتى ميادينه، وأصبح ضرورةً محتومة على كل مَن ينتسب بصلةٍ إلى عالم الثقافة، أن يكون على أتمِّ دراسة بذلك العلم الذي هو ميزان التفكير السليم، وهنا ضاقت صدور فئة تكره أن ترى علمًا يأتيها من اليونان، لتكون له كل هذه المكانة التي لم يكن في رأيهم يستحقها، ولماذا رأوا ذلك فيه؟ كان ذلك لأنهم رأوا أن ذلك المنطق إنما بُنيَ على لغة اليونان، وأما لغة العبر فمنطقها هو في «نحوها»، وبدا التعارض بين الرأيَين خطيرًا بالنسبة إلى البناء الثقافي كله.
ولهذا رأى الوزير أن تُقام تلك المناظرة في قصره بين رجلٍ في نحو الأربعين من عمره، عُرف بعلمه وتقواه وظهرت على وجهه الوسيم دلائلُ الورع، وهو «السيرافي»، وبين رجلٍ كان في نحو الثمانين من عمره، لا يكاد الناس يرونه إلا مخمورًا، وذلك هو «بشر متَّى بن بولس»؛ فأما السيرافي فمن الذاهبين إلى أن العربي لا يحتاج إلا إلى إلمامٍ بعلم النحو الخاص بلغته ليستقيم فكرُه، وأما «بشر متَّى» فكان دارسًا للمنطق الأرسطي ويدرسه للشباب، ولقد قدمت لك وصْفَ الرجلين لأقول إن الفارق بين الشخصَين كان كفيلًا وحده منذ البداية أن يجعل الرجحان في المناظرة للسيرافي على مناظرة بشر متَّى، ولقد تتبَّعت المناظرة بشغفٍ شديد؛ لأنني وقد أتيت من عالم القرن العشرين، وممن عرفوا الكثير عن المنطق وعن النحو العربي معًا، فقد اشتدت بي الرغبة في أن أرى ماذا يقول فيهما أبناء القرن العاشر (الرابع الهجري)، وكانت مفاجأة لي أن أعلن الوزير عن وجودي زائرًا جاء إليهم من مستقبل بعيد لم يولد لهم بعدُ.
وطلب إليَّ في ختام المناظرة أن أُدليَ برأيي فيما سمعت، فاضطررتُ أن أُبيِّن للحاضرين في تواضعٍ أربكه الخجل، بأن عقدة الاختلاف بين المتناظرين، إنما نشأت من محاولة المقارنة بين موضوعين، وكأن هذين الموضوعين يقعان معًا في مستوًى واحد من مستويات الفكر، وحقيقة الأمر هي أننا إذا حللنا اللغة، أية لغة كائنة ما كانت، تحليلًا نصلُ به إلى أصولها وجذورها، ألفَينا أنفسنا نخطو على درجتين متتابعتين؛ ففي الدرجة الأولى منهما نصلُ إلى «القواعد» العامة، التي نستخلصها من طرق الناس في استعمالهم للغتهم، كأن نجدهم مثلًا يرفعون الفاعل، فتكون القاعدة التي نستخلصها هي أن الفاعل مرفوع دائمًا، ومن مجموع تلك القواعد يتكون «علم» النحو، ولنلحظ جيدًا كلمة «علم» هنا؛ لأن علم النحو كأي علمٍ آخر يستخلص قوانينه وقواعده مما هو كائنٌ بالفعل، لكننا إذ نخطو على الدرجة التالية في طريق التحليل، نجد أنفسنا وقد وصلنا إلى «الصور» التي تجيء عليها حالات الفكر البشري، أيًّا كانت اللغة التي يستخدمها ذلك الفكر، فبينما يكون علم النحو مختلفًا باختلاف اللغات، تكون تلك الصور العامة التي يُصاغ بها الفكر البشري، صادقة على اللغات جميعًا، كأن تقول مثلًا، إذا كانت «أ» هي «ب» وكانت «ب» هي «ﺟ» حكمنا بأن «أ» هي «ﺟ».
وهذا هو المنطق الذي هو أقرب إلى أن يكون فلسفة العملية الفكرية، من أن يكون علمًا يوضع في صفٍّ واحدٍ مع سائر العلوم؛ فالسيرافي يتكلم على مستوى العلم الخاص بقواعد لغةٍ معينة هي اللغة العربية، وبشْر متى يتكلم على مستوى فلسفة الفكر التي تصدق على اللغات جميعًا، فكيف إذن تجوز المقارنة بين الطرفين؟
وركبتُ آلة الزمن لأعود بها إلى وطني وإلى زمني موقنًا بأن ثقافة العربي في القرن العشرين، هي بالضرورة امتدادٌ لثقافة العربي في القرن العاشر مع القرون التي سبقتْه، والقرون التي لحقتْه من امتداد التاريخ العربي، إلا أن مرَّ الزمن الذي يُخرج من جذع الشجرة فروعًا تنتمي إليه، ولكنها من جهة أخرى تنفرد بخصائصها، فكذلك يفعل الزمن بشجرة الثقافة في أمةٍ بعينها، تظل الفروع تنبثق من جذعها لتجمع بين انتمائها إلى ذلك الجذع وانفرادها بوجودها الخاص.
ولنتعلم من درسنا من عبرة تاريخنا؛ فقد كانت هنالك ثقافة عربية في العصر الجاهلي قوامها الشعر، مع إضافاتٍ نثرية هي في طبيعتها أقرب إلى الشعر، ثم كانت هناك ثقافة عربية فيما جاء بعد نزول الإسلام، فإذا باللغة العربية لا تقصر نفسها على الشعر، بل تمدُّ فروعها لتشمل ميادين لم يكن مثقف العصر الجاهلي يحلم بها، فظهر النثر على نطاقٍ واسع، ونستطيع القول إن البطل الحقيقي في تثبيت النثر أداةً للإبداع الثقافي جنبًا إلى جنب مع الشعر هو الجاحظ، حتى إذا ما استقرت العبارة النثرية وازدهرت، رأينا الفكر العربي يتدفق به أنهارًا أنهارًا، فهذا فقهٌ وهذا كتابٌ في علمٍ من علوم اللغة وذلك كتابٌ في النقد الأدبي، ورابعٌ في الفلسفة وخامس في التاريخ وسادس في وصف الرحلات، وسابع في علم الفلك وثامن في علم الضوء وتاسع في علم الكيمياء، وعاشر في علمٍ من علوم الرياضة وحادي عشر وثاني عشر، إلى ما شئت من عدد.
ولقد كان للقوم عندئذٍ، برغم هذه الكثرة الكثيرة في تفجُّر الفروع من جذع الشجرة الثقافية، مشكلةٌ حول التراث العربي شبيهة جدًّا بمشكلتنا اليوم حول التراث العربي، إلَّا أنهم عرفوا كيف يُحصرون المشكلة في حدودها، إذ حصروها في موضوع اللغة وحدها، دون أن يجعلوها تمتدُّ لتزجَّ أنفها في الميادين الثقافية الجديدة، التي نشأت عندما أرادوا أن يدرسوا اللغة دراسةً علمية شاملة كاملة، فكان لا بد لهم عندئذٍ من الوقوع على معيار يجعلونه فيصلًا بين ما هو صواب وما هو خطأ في استعمالات اللغة، وانشقُّوا حول هذا المعيار منبهين تركز أحدهما في علماء البصرة وتركز الآخر في علماء الكوفة؛ فأما الأولون فقد أرادوا أن يُقيموا أساسًا عقليًّا لمعرفة الصحيح من الفاسد، وفي هذه الحالة يكون من حقهم الحكم على أقوال السابقين من أبناء العصر الجاهلي.
فيقولون مثلًا: إن فلانًا قد أخطأ في اللفظة الفلانية أو في تركيب الجملة الفلانية، بناءً على المعيار العقلي الذي وضعوه أو حاولوا وضعه، وأما علماء الكوفة فقد رأوا غير ذلك؛ إذ رأوا أن المعيار هو ما قاله أولئك السابقون، فالصحيح هو ما قالوه والخطأ هو ما لم يقولوه، وبناء على ذلك يصبح من التناقض أن تصف واحدًا من السابقين بالخطأ؛ لأنه هو هو معيار الصواب، وغنيٌّ عن الذكر أن نُعلل هذا الاختلاف بين المذهبين؛ إذ يكفي أن نتذكر بأن علماء الكوفة كانوا جميعًا عربًا خُلَّصًا، في حين كان علماء البصرة على مقربةٍ من التأثر بالفرس، ومن هنا رغب أهل الكوفة في أن يحافظوا على أن يكون للعربي وحده سلطة الحكم على صحيح اللغة ماذا يكون، وأما علماء البصرة فقد أرادوا التخلص من أولوية العربي في أحكام اللغة، فاحتكموا إلى «العقل» وحده يقيمون المعيار على أساسه.
فلو أننا تعلمنا الدرس من أسلافنا فيما يختص بالتراث وموقفنا منه، لكان طريقنا واضحًا أمامنا فطريقهم هو طريقنا، وهو أن نحصر مشكلة التراث فيما ورثناه عنهم، لكن هذا الذي ورثناه هو قطرةٌ من بحر العلوم وميادين الفكر وأشكال الأدب والفن، مما استحدث بعدهم تمامًا كالذي رأيناه من فرقٍ بعيدٍ بين مجال القول في العصر الجاهلي ومجالاته الكثيرة التي ظهرت بعد ظهور الإسلام، على أن تلك الحالات الجديدة لم تنبثق كلها دفعةً واحدة في لحظةٍ واحدة، بل أخذت تزداد فروعًا على تعاقب القرون، فهل نضلُّ سواء السبيل في يومنا هذا إذ نحن قصرنا مشكلة التراث على التراث، وأما ما استحدث من علومٍ وفنون فنُخرجه من مواضع الإشكال، إن طريق القدماء هو طريقنا، ولكن أُضيف إلى ثقافة الإنسان فكرٌ جديد.