ضمائر العلماء
هذا حديثٌ لا أصدر فيه عن فكر نظريٍّ بحت، فليس هو من ذلك النوع الذي أستمدُّ خيوطه من داخل النفس، وهي على فطرتها البِكر، ثم أنسج تلك الخيوط في ديباجة، أقرأ سطورها ولا يقرؤها معي أحدٌ سواي، وكأنها صفحةٌ عرضت لصاحبها في رؤى أحلامه، لا بل هو حديثٌ أستخرجه من لحم الخبرة الحية، ومن أعصابها التي طالما ارتعشت كلما احترقت بأسياخٍ من حديدٍ ملتهب، نعم فمن تلك الخبرة أستقي هذا الحديث خيوطًا خيوطًا، ثم ديباجة منسوجة ومسطورًا عليها بأحرفٍ من نار.
وأبدأ بتلك اللحظة منذ عشرات السنين، حين جلست في مكتبة جامعية على أرض لم تكن أرضَنا، وتحت سماء لم تكن سماءَنا، أقرأُ كتابًا عرفتُه من إشارة إليه وردتْ بالحرف الدقيق في هامش صفحة من مرجع علميٍّ، لجأتُ إليه وكان الكتاب عن الفكر العربي قديمِه وحديثِه، ولم أكَدْ أستكمل فرحتي بما ذكره المؤلف الإنجليزي، عن الفكر العربي في عصوره الأولى، حيث كان للعلماء ما يُثير العجب، من جلَدٍ، وصبرٍ، وصدقٍ، وإخلاصٍ وزهد إلا عن الحقيقة العلمية يتعقبونها في مخابئها، أو إن شئت اختصارًا لعظمة هؤلاء العلماء من العرب الأقدمين، فقُل إنهم ليُبهروننا بما حملتْ أفئدتهم من «ضميرٍ علمي»، لا يخلي بينهم وبين الراحة سبيلًا، حتى يبلغوا مأربَهم البعيد؛ أقول إن فرحتي بهذا الذي ذكره مؤلفُ الكتاب عن أسلافنا من العلماء، حتى أخذ منِّي الغمُّ ما أخذ، حين استطرد المؤلف في حديثه، ليعقد مقارنة بين «العلماء» العرب في وقتنا هذا وأولئك السلف، وهي مقارنةٌ يمكن تلخيصها أيضًا في كلمة واحدة، وهي أن الضمير العلمي قد خفَتَ صوتُه — بالقياس إلى نظيره عند الأقدمين — حتى ليتعذر سمعُه عند صاحبه، وربما كان هذا نتيجةً جزئية من ظاهرة عامة، هي «المظهرية» الطاغية، بحيث يبدو العربي على شيءٍ غير الذي يُخفيه، وتطبيق ذلك على الحياة العلمية، هو أن يكتفيَ العالم بأن يبدوَ للناس وكأنه عالمٌ، ولا يؤرِّقه بعد ذلك أن يعلم بينه وبين نفسه أن الأمر معه قد غلب عليه الخطف السريع من هنا ومن هناك، ولا يتعذر عليه بعد ذلك أن يضمَّ الحواشي والفهارس، التي يشحنها شحنًا بأسماء «المراجع» من مختلف اللغات، شهادةً له بأنه قد عانى ما يعانيه العلماء.
ومضت بعد ذلك أعوامٌ وأعوام، نسيتُ فيها ذلك الكتاب ومؤلِّفَه، ولم يبقَ لي في الذاكرة إلا ما كنت قد أحسستُه في نفسي عندئذٍ من حسرةٍ حزينة، لم يُخفِّفْ حدَّتَها إلا وهمٌ أوهمني بأنه — أعني مؤلف ذلك الكتاب — مستشرقٌ مغرضٌ كذاب، ولعلي اندفعت إلى تلك العداوة الهوجاء، التي لا تفرق بين حقٍّ وباطل، ضد مستشرق درس الفكر العربي من قديمه إلى حديثه، كنت متأثرًا بما عبئت به من قراءات معادية للمستشرقين، قرأتُها لبعض كتَّابِنا قبل سفري، ولم أكن قد وعيت بعدُ إلى أيِّ حدٍّ يملأ هؤلاء الكُتَّاب أقلامَهم بمِدادِ الكراهية لما يجهلونه، فهم يميلون بالعاطفة أولًا، ثم يكتبون ما يُشبع تلك العاطفة لديهم سواء أصدقتْ أقلامُهم أم كذبت، وكيف لهم أن يعرفوا وأن يفرقوا بين الأبيض والأسود، إذا كانوا يستبيحون الكتابة فيما لم يقرءوا عنه سطرًا واحدًا، معتمدين كلَّ الاعتماد على إشاعاتٍ يتناقلونها جاهلًا عن جاهل، ولو أنهم قرءوا، ودرسوا، وتدبَّروا ما قرءوه ودرسوه، لكان الأرجح أن يجدوا عند المستشرقين صوابًا ممزوجًا بخطأٍ، أو خطأً ممزوجًا بصواب، وأن الأمر ليس كله ضلالًا وتضليلًا، وإلا فمَن ذا الذي يُنكر أن لبعض هؤلاء المستشرقين — والكبار منهم على وجه الخصوص — بحوثًا في الفكر العربي، وفي الأدب العربي، لها من النفاذ ما كشف لنا نحن العرب، كنوزًا من فكرنا ومن أدبنا، لم نكن لنُدركَها بكل هذه الدقة والوضوح اللذَين انكشف بهما ما انكشف، مَن ذا الذي يُنكر أن المشتغلين بهما بتحقيق التراث، قد أخذوا عن هؤلاء المستشرقين شيئًا من الأسس المنهجية في عملية التحقيق، مَن ذا الذي يُنكر على أولئك الباحثين أنهم هم الذين قاموا في العصر الحديث بأهمِّ الترجمات التي نقلت بها عيون من عيون تراثنا، علمًا، وتاريخًا، وأدبًا وشعرًا، إلى هذه اللغة أو تلك من لغات الغرب؟ على أن هذا الجانب الإيجابي كله ليس هو الذي يعنيني الآن، وإنما الذي يعنيني بالدرجة الأولى هو أننا قد أَلِفنا أن نهاجم كاتبًا أو كتابًا، دون أن نكون قد قرأنا للكاتب أو من الكتاب حرفًا واحدًا، ثم لم يقتصر الأمر في ذلك على مستشرقين، بل تجاوز هذا إلى أن يهاجم بعضُنا بعضًا فيما لم نقرأه؛ فالإشاعة وحدها تكفينا يلقفها لسانٌ عن لسان وينقلها قلمٌ عن قلم، وإذا أنت تعقَّبت الموقف إلى أوائله وجدتَ المسألة كلها — في كثيرٍ جدًّا من الأحيان — حقدًا أعمى في أول الأمر، ولَّد وهمًا في الرءوس، ثم انتقل الوهم إلى السادة «العلماء»، وإلى حملة الأقلام من صفوة الكاتبين، فإذا لحظ مَن لحظ عن الثقافة العربية الحديثة أنها — بالقياس إلى الثقافة العربية في عصور مجدها القديم — أنها قد باتت فاترة ضعيفة، ينقصها العمل العظيم الذي يتحقق له شيءٌ من البقاء، لقوته، ودقته وشموله؛ ولأنه — فوق ذلك — ينمُّ عن «ضميرٍ علمي» عند صاحبه، لم يكن يأذن له بالتساهل في البحث عن حقيقة ما يكتب عنه، أو يُجيز له أن يكتفيَ في إسناده على إشاعةٍ تناقلتها الأفواه، لا سيما إذا كانت رائحة الحقد والكراهية والتعصب والضغينة تفوح منها حتى لتزكم الأنوف؛ أقول إنه إذا لحظ مَن لحظ نقصًا كهذا في ثقافتنا العربية الحديثة، فلا ينبغي لنا أن نُسرع إلى قذْفه بالشتائم، عن جهالة، وإنه لأولى لنا ثم أولى أن نتمهل حتى نتبيَّن حقيقة الأمر، لعلنا واجدون عند مَن تقدم إلينا بفكرةٍ، ما قد ينفع. فما هو ذلك الشيء الذي يُطلقون عليه اسم «الضمير العلمي»، والذي زعم لنا الزاعم بأننا قد فقدنا أكثره، فافتقدناه منذ فترةٍ ليست بالقصيرة حتى لأصبح غيابه يبيض في حياتنا ويفرخ، بحيث اختلطت أمامنا السبل، ولم نَعُد ندري لمن نصيخ بسمعنا لنستمع، ولمن نصمُّ الآذان عن باطلٍ يريد نشْره فينا عن غير علمٍ؟ إن «الضمير العلمي» جانب من الضمير العام، إلا أنه اختص برقابته أمانة «العلماء» فيما يطالبون به الناس، وأما الضمير العام، فهو كما تدل كلمة «ضمير» نفسها، محكمة «مضمرة» لا يراها الناس بل ولا يراها حاملها، ولكنه يسمع صوتها؛ إذ هي تأمره بهذا وتنهاه عن ذاك، على أن أمرها ونهيها — بالطبع — لا يضمنان التنفيذ فهناك قوةٌ أخرى في طبيعة الإنسان هي قوة الإرادة، فإما وجدت تدريبًا يعصمها من الزلل ويروضها على الإذعان لما يمليه الضمير، من أمرٍ ومن نهي، وإما تركت تلك الإرادة التي هي بذاتها قوة عمياء لتجمح مع نزواتها؛ وعندئذٍ يأمر الضمير وينهى، ولكن أوامره ونواهيه تذهب أدراج الرياح، وأمره ونهيه في مجال التفكير العلمي، يدوران حول أمانة الصدق فلا يأخذ العالم بفكرة، إلا إذا استوثق أولًا أنه على علمٍ صحيح بمداخلها ومخارجها وأنه يفهمها حقَّ الفهم، في حدود ما يستطيعه؛ إذ إن للبشر حدودًا تُقيدهم، ومن ذلك نستدل نتيجة هامة، وهي أن الضمير — في مجال العلم وغيره — محكمة تخص صاحبها في فرديته، فقد تجيء ضمائر الناس في جماعةٍ من الناس ملتقية بأفرادها عند حكم واحد، وقد يشذُّ ضميرٌ بصاحبه إلى فكرة، أو إلى فعل، لا تقرُّه عليه الجماعة، وهنا يجب أن يستمع إلى حكم ضميره هو في مواجهة آخرين، وبغير ذلك لا نتصور كيف ينشأ بين الناس مصلحٌ، ينعطف بهم نحو اتجاهٍ مغاير لما كانوا عليه، إن مثل هذا المُصلِح عندما يصيح في الناس صيحته الأولى، لا بد بالضرورة أن يشذَّ وحده عن المألوف، ولم يكونوا قلائل في التاريخ، أولئك الذين شذُّوا بفكرهم عن مألوف الناس شذوذًا يتجه بهم نحو ما هو أصلح وأكثر تقدمًا، فحدث الصراع بينه وبينهم وإما انتصر هو بقوة فكرته ومضاء عزيمته، وإمَّا انتصر عليه جمهورٌ فضاعت على الحق فرصةُ الظهور، وأُرجئ ذلك إلى حين يشاء له الله ظهورًا على باطلٍ، وإن ذلك المؤلف الذي قرأت له كتابه عن الفكر العربي في سيرته الطويلة من قديمه إلى حديثه، ليزعم أن ذلك الفكر في مرحلته الحديثة، قد غاب عنه الكثير من سلطة الضمير العلمي في أوامره ونواهيه، على خلاف ما كانت عليه الحال في القرون التسعة الأولى من تاريخه، ولقد كنت على خطأ ظالمٍ — أنا كاتب هذه الكلمات — حين قرأت ما كتبه ذلك المؤلف عن حياتنا الثقافية في مرحلتها الحديثة، فسارعتُ إلى اتهامه بما تعلَّمتُه من بعض كُتَّابنا من رمْيِ المؤلفين الغرباء بجهالةٍ قبل مراجعة ما كتبوه على واقع حياتنا، ولبث هذا الخطأ الظالم يلازمني حتى وقعتُ فريسة في شباك الظالمين، الذين حُرِموا هداية «الضمير»، فاستباحوا أحكامًا يُطلقونها دون أن تكون لديهم ذرة من علمٍ بما راحوا يُطلقون عليه أحكامهم تلك، فإذا تناولت في إيجاز قضيتي معهم، أو قضيتهم معي، فلن يكون ذلك من قبيل العناية بأمرٍ خاص بقدر ما هو أمرٌ عام، يمسُّ حياتنا الثقافية وضرورة تحديثها وتنقيتها من شوائبها، فلقد حدث لي في أول الأربعينيات، أن نشرت مقالة في عيد الهجرة النبوية، وأذكرُ أني جعلت عنوان مقالتي تلك «هجرة الروح»، واستلهمت فيها هجرة الرسول الكريم ﷺ من مكة إلى المدينة، مما كان سببًا في رسوخ الإسلام وانتصاره وانتشاره؛ أقول إني استلهمت تلك الهجرة لأحفِّز نفسي على هجرة مما كنت فيه حتى ذلك الحين من نقل أفكار الآخرين، إلى موقفٍ جديد أقف فيه مع فكرتي ما دمت مؤمنًا بصوابها، وذلك أنِّي منذ ذلك العهد البعيد، أحسستُ إحساسًا غامضًا باتجاهٍ رأيت فيه الصواب، وكان الأساس فيه أن تُعزل الحقائق «العلمية» وحدها، لتكون لها شروطها فيما يُقبَل منها وما يرفض، وأما ما عدا تلك الحقائق العلمية فهو أنواعٌ كثيرة، تشترك كلها معًا في كونها لا تخضع لأحكام العقل، بالمعنى الذي يجعل العقل حركة استدلالية تبدأ من نقطة أُعدَّت له من قبل، إلى نتيجةٍ تلزم عنها، أي أنه بمنزلة قطار ينتقل بين محطتين: إحداهما محطة القيام والأخرى محطة الوصول؛ فأما الأولى فهي ليست من صنْعه وأما الثانية فهي التي يصل إليها، وبذلك تُصبح ملزمةً للإنسان العاقل، ما دام هذا الإنسان نفسه هو الذي أعدَّ للقطار محطة قيامه، التي حتَّمت عليه أن يصل إلى ما وصل إليه، لكن ما ليس بعقل (بالمعنى الذي حددناه) من مجالات النشاط البشري، فهو فروعٌ كثيرة — كما قلت — ولكل فرعٍ فيها خصائصه التي تميِّزه، وأهم ما يفصلها جميعًا عن دائرة العقل، أنها ليست انتقاليةً بين محطةٍ للقيام ومحطة للوصول، بل هي تسكن عند موضوعها، سكون «المؤمن» إذا كان الموضوع عقيدة ما دينية أو غير دينية، وسكون «المتذوق» إذا كان الموضوع ناتجًا من فنٍّ أو من أدب، أو غيرهما من مواضع الجمال حيثما وجده.
كانت تلك هي رؤيتي — بما كان يكتنفها عندئذٍ من غموض — عندما نشرت مقالتي «هجرة الروح» في أول الأربعينيات، ثم شاء الله تعالى بعد ذلك أن أسافر طالب علم، وهناك وجدتُ تيارًا فكريًّا حديث عهد بالظهور، أنشأتْه جماعةٌ من علماء في ميدانَي العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، أي أنها جماعة لم تكن «الفلسفة» موضوع دراستها الأولى، وقد عنَّ لأعضائها — لأمرٍ ما — أن يعرضوا مسائل الفلسفة على عقولهم العلمية الصرف، ليروا ماذا عساها أن تعني عند «العلم»، فإذا بهم يتوسعون بحثًا وتدقيقًا، ليصلوا آخر الأمر إلى ضوابطَ للتفكير فيما هو «علم» من جهة وما هو «فلسفة» من جهة ثانية، ثم ما هو شيءٌ آخر، فلا هو إلى العلم ولا هو إلى الفلسفة من جهة ثالثة، وذلك الشيء الآخر إنما يُراد به كل الميادين التي تُقام على إيمان أو تذوق، ولقد كانت تلك الضوابط التي أحكموا صياغتها بمنزلة «منهج» للنظر، كلما أردنا أن نحدد طبيعة عبارة لغوية بين أيدينا، من أي الأقسام الثلاثة هي؟ أهي من «العلم» فنطالبها بما يتطلبه العلم من معايير التطبيق؟ أم هي «فلسفة» فنراها في هذا المجال، أم هي تعبيرٌ عن «إيمان» بعقيدة فنزنها بموازين الإيمان، أم هي عبارة قيلت تعبيرًا عن تذوقٍ لأثرٍ من آثار الفن والأدب، فنقيسها بمقاييس ميدانها، ولقد أطلقوا على منهجهم النقدي هذا، اسم الوضعية المنطقية آنًا أو اسم التجريبية العلمية آنًا آخر، فلماذا هي «وضعية»؟ ولماذا هي منطقية؟ كأن هذا الاسم مقصود به ما يخص العلوم الطبيعية بصفة خاصة، فإذا زعم لنا زاعمٌ فكرة ما، تتصل بأي شيءٍ من أشياء الواقع، كان لزامًا على فكرته تلك أن تجيءَ مطابقة بل زعم لها أنها تطابقه، ومن هنا جاءت كلمة «الوضعية» في عنوان المنهج، على أن الأمر لا يقتضي أن نخرج بالعبارة المزعومة إلى الواقع الفعلي، لنرى أهي مطابقة لواقعها أم غير مطابقة، بل لا بد لنا قبل ذلك أن نفحص التركيبة اللفظية نفسها، التي سيقت بها الفكرة المعروضة للفحص؛ لأن هنالك ما يدل تركيبه اللغوي على بطلانه، فلا يكون بك حاجة إلى البحث عن إمكان تطبيقه، ومن هنا جاءت صفة «المنطقية» في العنوان.
وأظنه واضحًا وضوحَ الشمس في سماءٍ صافية أن اشتراط مطابقة الكلام على أشياء الدنيا الواقعة، واشتراط ما يجيء قبل ذلك وهو أن يكون ذلك الكلام بادئ ذي بدْء مما يقبل أن يكون موضعًا للتحقيق من معناه، إنما ينحصر في الحالات التي يتكلم فيها المتكلم عن دنيا «الأشياء»، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ويخرج من حسابنا في هذين الاشتراطَين: اشتراط «الوضعية» واشتراط «المنطقية»، أقول إنه يخرج من حسابنا كلُّ ما يتصل بميادين الأقوال الأخرى؛ لأن لكل ميدان منها مقاييسه، إننا بهذين الاشتراطين نحصر أنفسنا فيما هو متصلٌ بدنيا الأشياء، مما نريد أن يكون الكلام عنه محكومًا بشروط التفكير العلمي، مهما يكن موضوع الحديث إذا ما كنَّا جادين في القول لا مازحين، فقد يكون كلامنا منصبًّا — مثلًا — على السد العالي، أو المزارع السمكية، أو المفاعلات الذرية أو يدعم السلع التموينية، أو مناهج التعليم أو أي موضوعٍ آخر يجري في هذا المجرى المتصل بدنيا الأشياء والمواقف والوقائع: فها هنا يجب مراعاة الضوابط التي تجعل كلامَنا علميَّ النزعة لكي نضمن إمكان تطبيقه، ولكننا ونحن في سبيلنا إلى تفصيل القول في تلك الضوابط، مضطرون إلى معرفة دقيقة بالفواصل التي تفصل ما هو متصل بالتفكير العلمي عما هو إيمان بالقلب، وما هو تذوق في دنيا الأدب والفن، فلكل صنف ضوابطه الخاصة بطبيعته.
وليس تحديد تلك الفواصل أمرًا هينًا؛ إذ هو يقتضينا أن نكون على بينةٍ دقيقة من خصائص العلم الرياضي ومن خصائص العلم الطبيعي، وعلى بينةٍ دقيقة كذلك من خصائص المواقف الذوقية في عالم الفن والأدب، وإلا تعرضنا للخلط بين أنواعٍ من القول مختلفة، ولكلٍّ منها أحكامه وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة هامة، قد لا يعرفها كثيرون، ولها نتائج بعيدة المدى، وهي أن الفكر الإنساني في كل عصوره السابقة، وقع تحت وهمٍ بأن العلوم كلَّها سواء في معاييرها المنهجية، لا فرق في ذلك بين علمٍ رياضي وعلم طبيعي، إلى أن جاءت هذه التحليلات العلمية الفاحصة، والتي بدأت بوادرها منذ منتصف القرن الماضي، فعرفنا على سبيل اليقين القاطع أن الحقيقة الرياضية؛ كقولنا ٣ + ٤ = ٧ مختلفة كلَّ الاختلاف تكوينًا ومنهجًا، عن الحقيقة في أي علمٍ من علوم الطبيعة، والفرق الجذري بينهما هو أن صدْق الحقيقة الرياضية يأتي من كونها تذكر الشيء الواحد مرتين ولكن برمزين مختلفين، فما تقوله «٣ + ٤» هو نفسه ما تقوله «٧»؛ ولهذا فليس هناك مجالٌ للخطأ ما دام التحليل الرياضي قد سار على الطريق السليم، أي أن صدْق أية حقيقة رياضية لا يتوقف على أي شيءٍ من أشياء الواقع، بل هو متوقفٌ على تركيب الجملة الرياضية نفسها، وذلك على خلاف العلوم الطبيعية، فصدْقها مرهونٌ بصدق تطبيقها على واقع الدنيا الخارجية، ولهذه التفرقة أهمية لا نهاية لحدودها في تقديرنا لما يُديره الناس في حياتهم من أفكار؛ وذلك لأن ما قلناه عن الحقيقة الرياضية من أن صدْقها غير مرهونٍ بالرجوع إلى واقع الأشياء، يُقال كذلك على أي فكرةٍ في أي مجالٍ يكون قوامها موضوعًا وتحليله؛ كأن تقول — مثلًا — إن الشقيقين جاءَا من أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، فأنت في هذا القول لا تقول أكثر من أن تُكرر الشيء الواحد مرتين، ولكن برمزين مختلفين، فإما أطلقتَ على ذلك الشيء كلمة «شقيقين»، وإما أطلقتَ عليه من أبٍ واحد وأمٍّ واحدة؛ لأن هذه العبارة الثانية هي مجرد تعريف للعبارة الأولى لا أكثر ولا أقل، وتسألني ما أهمية ذلك؟ وأجيب: أهميته أن نسبة ضخمة، أضخم جدًّا مما تتصور مما يطرحه الناس في حياتهم الفكرية، هو من هذا القبيل الذي يكرر نفسه، ولا يكون بذي شأن بحقائق الواقع، أعني أن صدْقه هو في طريقة تركيبه، وليس صدْقه في الرجوع به إلى معيار التطبيق؛ لأنك قد تقول ما قلنا عن الشقيقين حتى إذا كنت وحدك على كوكب المريخ، ولا والد هناك ولا والدة ولا أشقاء، وكل ما هو مطلوب منك إذ ذاك، هو أن تكون على علمٍ باللغة العربية، فتعرف معنى الكلمات: شقيق، ووالد، ووالدة، ولست أريد إثارة القلق في نفسك، بأن أؤكد لك كم هو حجم الأفكار، التي يظن الناس أنهم يقولون بها شيئًا عن الواقع الفعلي، في حين أنها مجرد ألفاظ معينةٍ وتعريفها على أساس العلم بمعاني الكلمات.
تلك هي بعض التفصيلات التي منها يتكون منهج التحليل المنطقي الجديد، الذي أطلق عليه أصحابُه — وكان جميعهم من علماء الرياضة والطبيعة — اسمَ «الوضعية المنطقية» آنًا واسم «التجريبية العلمية» آنًا آخر، والهدف المقصود منه هو الزيادة من دقة التفكير العلمي، وفي سبيل ذلك الهدف تراه يعمل على التمييز بين معنى الصدق في العلم الرياضي من جهة، ومعناه في العلم الطبيعي من جهةٍ أخرى، ثم التمييز بين هذين العلمين معًا في دائرةٍ وبقية فروع المعرفة في دائرة أخرى، وترك لمن يشاء من أصحاب الاختصاص في هذه الدائرة الثانية، أن يمايزوا بين معايير الصدق في العقائد الإيمانية من ناحية وفي الأدب والفن من ناحية أخرى وهكذا، ولقد كانت قاعدة الانطلاق هي الوقوف طويلًا عند «اللغة»، التي هي في معظم الحالات أداة التبادل في ضروب المعرفة والثقافة على اختلافها، نعم كانت الوقفة عند اللغة طويلةً وعسيرةً لاستخراج فلسفتها، ليعرف الباحث أسرار اللغة ومركباتها في نقل الأفكار، ونقل الحالات العقلية والنفسية على اختلافها، وكان كل ذلك الجهد يبذل التماسًا لضوابط الدقة في عرض الإنسان لأفكاره ولسائر حالاته الوجدانية كذلك.
ولقد أنبأتك فيما أسلفته، أنني كنت قبل سفري طالبًا للعلم، قد سجلت رؤية رأيتها فيما كنت أعتزم أن أجعله منهجي في التفكير، وكان ذلك في مقالتي «هجرة الروح» التي نُشرت لمناسبة عيد الهجرة في أول الأربعينيات، وكنت قد اقتصرت في عرض رؤيتي على الإطار الهيكلي لما أردت له أن يكون منهجي في التفكير، فلما سافرت كان أول ما استوقف نظري ذلك التيار الفكري الجديد الخاص بمنهج التحليل المنطقي، الذي يضمن للمفكر مزيدًا من الدقة العلمية في تفكيره، ورأيت في شيءٍ من الدهشة والسرور كم هو قريبٌ جدًّا هذا التيار الفكري مما كنت قد رأيته لنفسي، غير أنني كنت قد تركت الهيكل عاريًا خاليًا من تفصيلاته، أما التيار الفكري الذي وجدته هناك فقد كان — بالطبع — مليئًا بتفصيلاته لكثرة العقول العلمية التي تناولتْه بالعرض والشرح أو بالنقد وبيان مواضع النقص فيه، ومهما يكن من أمر ذلك كله، فقد أعطيت ذلك التيار جزءًا من وقتي وجهدي لألمَّ بجوانبه ونواحيه، على الرغم من أنه لم يكن هو موضوع دراستي الذي سافرت من أجله.
ولماذا صادف ذلك المنهج التحليلي قبولًا عندي واهتمامًا؟ كان ذلك لأنني رأيت فيه وسيلةً فعالةً في نقد الفكر العربي الذي نعيش تحت مظلته؛ فلو أنني سئلت ما الذي تراه نقيصة أولى في الفكر العربي الحديث، تفرعت عنها كل النقائض من فقرٍ في الإبداع الذي هدم للأمة العربية ما يحضها على النهوض والمشاركة في ركب الحضارة العصرية؟ لكان جوابي هو أن النقيضة الأولى هي ذلك الإسهال اللفظي الذي ندفقه دفقًا بغير حسابٍ نطقًا باللسان، وكتابةً بالقلم، فإذا أنت دققت النظر في هذه الزوابع الكلامية التي تعصف بالعقل العربي، لترى كم منها يتحول إلى فعلٍ حقيقي يُزيح عن الأمة العربية مشكلاتها، وجدت الجواب يبعث على الأسف والأسى، فمعظم تلك العواصف اللفظية كلامٌ فارغ من المعنى الذي من شأنه أن يؤدي إلى عمل، فماذا يصنع المواطن العربي المخلص لأمته خيرًا من أن يضع أصابعه على مواضع النقص، ليوضح العلة توضيحًا علميًّا جادًّا لا يبتغي إلا الخير لأمته؟
وهكذا صنعتُ وأصنع وسوف أظل أصنع حتى يحين الأجل، فالذي ينقصنا هو جدية التفكير ودقته، والصدق في الإيمان وفي الإبداع وفي كل جانبٍ آخر من جوانب الحياة الثقافية كلها، إلا أن ما لقيته وما ألقاه وما سوف أظل في أغلب الظن ألقاه من السادة «العلماء» ورجال الفكر والنقد، يدعو إلى العجب، فلو أنهم درسوا وعرفوا ثم غضبوا من منهجي في التحليل المنطقي للأفكار، حتى نُقيمَ المستقيم ونمحوَ المعوج لاستبشرنا خيرًا؛ لأن ذلك الأخذ والرد في الحياة الثقافية هما علامة الحياة، شريطة أن يصدرَا عن ضميرٍ علميٍّ حيٍّ، لا يفتري على الحق كذبًا وجهلًا، أما أن يتصدى الناقد لما ليس يعرف عنه شيئًا، ولما لم يقرأ عنه سطرًا، فذلك هو الحقد الأعمى الذي يهدم ولا يبني. بدأت المعارك الهوجاء منذ أوائل الخمسينيات، فلقد همَّ «عالم» من علمائنا الذين كنا نودُّ من صميم قلوبنا أن يكونوا «أجلاء» في أواسط الخمسينيات، وأخذ ينشر في الناس أن صاحب هذه الكلمات «عميل» للمستعمرين! سبحانك اللهم فإياك نستعين على البلاء، أهو «عميل» للمستعمرين. ذلك الذي يدعوك إلى مزيدٍ من ضوابط الدقة في التفكير، كلما أردت لذلك التفكير أن يُنتج فكرةً علمية صحيحة، تُعين الناس على حلِّ مشكلة من مشكلاتهم؟ وهل قرأ ذلك العالم ما كنت قد كتبتُه وقتئذٍ قراءة فيها العناية التي تُبرِّر له أن يتجهم بمثل تلك التهمة الشنعاء؟ اللهم لا، وإلا فقد قرأ ولم يفهم ما قرأ، وحسبنا أنه أخذ يصول ويجول في نقد المذهب الوضعي الذي ينسب إلى أوجيست كونت، حاسبًا أنه هو هو منهج التحليل المنطقي الذي تستهدفه الوضعية المنطقية! ثم تعاقب المهاجمون «عالمًا» بعد «عالِم» وناقدًا بعد ناقد، وإني بعد أن أستغفر الله من الحلف به سبحانه وتعالى، في أمثال هذه الصغائر التي كتب علينا أن نُشقى بها، أحلف بالله العظيم إن علماءَنا هؤلاء الذين كنا نتمنى أن يكونوا أجلاء، قد هاجموا شيئًا لم يقرءوا عنه حرفًا واحدًا، وربما لو قرءوا بمثل قراءتهم القلقة العجلَى لما فهموا شيئًا.
فهل أخطأ مؤلف الكتاب الذي تحدث فيه عن الفكر العربي قديمِه وحديثِه، حين أشاد بما كان لأسلافنا من «ضمير علمي» بقدر ما فجع لغياب هذا الضمير في الفكر العربي الحديث؟