صورة مصغرة
كان في حياتي العلمية موقفٌ، ظننته أولَ الأمر حجرَ عثرةٍ على الطريق، يُضاف إلى عشراتٍ من العقبات التي شاء لي ربي أن أُمتحَن بها؛ فإما أفلحتُ في اجتيازها، وإما هويت في القاع، لكن ذلك الموقف الذي أشرتُ إليه، لم يلبث أن تكشَّف عن نعمة كبرى؛ وذلك أن الأستاذ الذي وُكِّل إليه الإشراف عليَّ في إعدادي لرسالة الدكتوراه في جامعة لندن، كان في رؤيته الفلسفية على نقيض رؤيتي، وعلى الرغم من أن البحث العلمي بحثٌ علميٌّ، ومن شأنه أن يُقيِّم خطواته ونتائجه على أسانيدَ موثقةٍ، إلا أن وراء ذلك السطح العلمي الخالص توجهًا يميل بصاحبه نحو أن يختار موضوعه من مجال فكريٍّ معين، وهذا في ذاته يضع أمام الباحث نقطة بدء يكون لها تأثيرها في اتجاه السير، كان الأستاذ ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية وليدة أفكار أولية مفطورة في العقل، وكنت ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية صنفان: صنفٌ منها قائم على العقل الخالص وما فُطر فيه، وصنفٌ آخر لا بد له أن يكتسب من معطيات تجريبية تأتي من مصادر خارج الإنسان وتؤثر في حواسه، فالموجات الضوئية تؤثر في العين، والموجات الصوتية تؤثر في الأذن، وهكذا، ولكلٍّ من وجهتَي النظر نتائجها في فهم الإنسان لحقيقة نفسه، وحقيقة العالم الذي يعيش فيه، وإلى هذا الحد من التباعد النظري منذ البداية، بل قبل البداية، كان الموقف بين الأستاذ المشرف، والباحث الذي جاء ليهتديَ بما يرسمه له أستاذه من خطوات السير، وبرغم هذا التباعد النظري، أقبل الأستاذ على مهمة الإشراف سعيدًا بها، وأقبل الطالب على خوفٍ من أن تكون الحياة قد وضعت له حجرًا يتعثَّر به، كما عوَّدته في سابق أيامه ألَّا تدع له مرحلةً واحدة منسابة الخطوات في غير خطرٍ من عثرةٍ فسقوط.
وكان بين الطالب وأستاذه لقاءٌ أسبوعيٌّ، يُعدُّ له الطالب نفسه إعدادًا ليس في قدرته إعداد يزيد عليه، وكان الأستاذ في غير حاجةٍ إلى إعدادٍ سابق لأيِّ شيءٍ، فهو ذو علم واسعٍ يُمكِّنه من الكشف عن مواضع الضعف فيما أعدَّه الطالب، وأغلب المواضع التي يكشف عنها، إنما هي مواضع نقص من وجهة نظره التي تردُّ كلَّ معرفة إلى صورةٍ في فطرة العقل — كما أشرت فيما أسلفته — وبالطبع كان على الطالب إما أن يجد ما يرد به معتمدًا على الأسس الحسية التجريبية التي اقتنع بها، وإما أن يجد نفسه مضطرًّا إلى تغيير الإطار المنهجي بأسْره، فكان هذا التحدي، أسبوعًا بعد أسبوع، هو النعمة الكبرى، التي جاءتني من قلب الخطر الذي كنت أخشاه؛ إذ أُتيح لي أن أرهف قدرتي النقدية إرهافًا، لم يكن ليتحقق لي جزء منه، لو لم أجد أمامي أستاذًا، كان بحكم تكوينه العقلي على مذهب مخالف قادرًا على إخراج المواضع الإشكالية بين المذهبين، والحق أنه كثيرًا ما كان يواجهني مشكلات يرفضها السامع لأول وهلة؛ لأنها تبدو مفتعلة وغير معقولة، ولكن دارس الفلسفة سرعان ما يفيق من سذاجته الفكرية؛ لأنه مما يميز الفكر الفلسفي أنه فكرٌ لا يريد بادئ ذي بدء أن يُسلِّم لفكرةٍ كائنة ما كانت بأنها تفرض نفسها على العقل لنصوع صوابها، بل لا بد لكل فكرةٍ عند دارس الفلسفة من سندٍ منطقيٍّ تُقام عليه. وأضرب لذلك مثلًا مما ورد في الحوار بين ذلك الأستاذ وطالبه، فلست الآن أذكر ماذا كان سياق الحديث بينهما، الذي دعا الطالب أن يُقرر — بغير برهانٍ — بأن الإنسان وحده، دون سائر الحيوان هو القادر على توليد المعاني استدلالًا لبعضها من بعض، فاعترضه الأستاذ قائلًا: من أين لك بهذا الحكم؟ وأجاب الطالب قائلًا: كان ديكارت وكلبه ناظرَين إلى المدفأة، وهي اللحظة التأملية الديكارتية المعروفة، التي أشرقت فيها على ديكارت فكرة الشك المنهجي، الذي يدعوه إلى إعادة النظر في كل ما يعرفه، ليبحث أولًا عن مبدأٍ أوليٍّ يجيء الشك فيه مناقضًا لنفسه، فيؤخذ مثلًا هذا المبدأ اليقيني أساسًا يُقام عليه البناء المعرفي كله، خطوة مستولدة من خطوة، فهل كان مثل هذا التأمل وما نتج عنه، في مقدور كلبه الذي أقعى بجواره ينظر إلى المدفأة؟
هكذا أجاب الطالب أستاذه إجابةً جاءت تحمل بدورها سؤالًا. فقال له الأستاذ: أنا لا أملك حقَّ الإجابة على سؤال كهذا؛ لأني لم أكن قط كلبًا لأُخبر بخبرة مباشرة ماذا في مقدور الكلب، وماذا يجاوز ذلك المقدور!
من هنا تعلمت كيف أردُّ الأفكار إلى أصولها، محاولًا ألا أنخدع فأظن أصولًا ما ليس بأصول، بل هي فروع تفرعت عن أصلٍ لها، ولن تُفهَم حقَّ الفهم إلا إذا تعقبناها إلى منابعها الأولى، التي لا يكون وراءها وراء، فأيًّا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، ويراد لها أن تُحلَّ، سواء أكانت مشكلة في الاقتصاد كهذا التضخم النقدي الذي تنوء تحته أثقال بما أدَّى إليه من تصاعدٍ في الأسعار بسرعةٍ تفوق الخيال، أم كانت مشكلة تعليمية كالتي أشكلت علينا، وجثمت على مدارسنا وجامعاتنا، وأخذت تبيض هناك وتفرخ حتى بلغت حدًّا يجاوز كلَّ معقول، تجلَّى في صورةٍ من الغش في لجان الامتحان، غشًّا علنيًّا تُذاع فيه الإجابات على التلاميذ بمكبرات الصوت، «أو هكذا قرأنا في الصحف» وغير ذلك من صور لم نشهد لها مثيلًا في كل ما عرفناه فيما مضى في التعليم، أم غير هذه وتلك من مشكلاتنا الكبرى، أقول إنه أيًّا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، فلا بد من فهمها أولًا فهمًا صحيحًا، كيف نشأت؟ وكيف تفرعت حتى أصبحت على ما أصبحت عليه؟ وبمثل هذا التفصيل، يمكن لأبصارنا أن تقع على موضع العلة، وأما أن ثمة علة خطيرة فبرهانه هو أن كلَّ فرد منَّا «يحسها»، وتأمل هذه العبارة جيدًا، وهي أننا ما دمنا «نحس» القلق من هذه الناحية أو تلك، إذن فلا بد أن يكون هنالك خطأ ما قد أثار فينا هذا القلق، وانظر إلى نفسك وما قد تتعرض له من ضروب المرض، إنك لا تشعر بوجود العضو السليم، فلا تشعر أن لك عينًا ترى، ما دامت تؤدي وظيفتها على صورة طبيعية، فإذا ما أصابها شيءٌ، أحسست عندئذٍ بوجودها، وهكذا قُل في كل جزءٍ من أجزاء البدن: القلب، الرئتان، المعدة، إلخ.
إذا ما سارت في صحة وسلامة، لم تشعر بوجودها، فالشعور بوجود عضو ما، دليلٌ على أنه قد تعرض لعلة، وهكذا الحال في الحياة العامة، يكون الشعور عند الفرد من الجماعة بثقل هذا أو ذاك من مقومات العيش، متناسبًا مع الخطأ الذي أصابه. وهكذا تخفُّ الحياة على الناس أو تثقل، بمقدار متناسب مع صحة تلك الحياة أو مرضها.
ولقد ثقلت الحياة علينا في كثيرٍ من نواحيها، فأول خطوة سديدة في طريقنا إلى مخرج، هو أن نسأل: أين موضع «الخطأ»؟ لأن خطأ ما لا بد أن يكون قد وقع، وما إن وجهتُ سؤالًا كهذا إلى نفسي، بالنسبة إلى مجال التعليم ومجال الثقافة، وهما — كما نعلم — مجالان متصلان منفصلان، على نحوٍ كثيرًا ما يتعذر معه التحديد: أين ينتهي أحدهما ليبدأ الآخر، أقول إنِّي ما كدت أطرح سؤالًا كهذا على نفسي، حتى قدمت إلى ذاكرتي — عن غير دعوة منِّي إليها بذلك — عدة فصول كنت طالعتها مجموعة في كتاب، لمجموعة من رجال الفكر في الغرب، يعالجون فيها، كلٌّ من وجهة نظره، عوارض الحياة في هذا العصر، وكيف انحرفت بالإنسان عن حياة طبيعية ميسرة؟ فكان كلٌّ منهم يبحث عن موضع العلة، أو عن مواضع العلل إذا رآها متعددةً، وهذا مساوٍ لقولنا إن كلًّا منهم قد أخذ يبحث عن «الخطأ» أو «الأخطاء»، التي أحدثت ما أحدثتْه من قلقٍ في النفوس.
كان الانطباع العام الذي تركتْه تلك الفصول في نفسي، ومن ثمَّ سهل على ذاكرتي أن تحفظه إلى أن تحين لحظةٌ مناسبة، هو أن ما يراه رجال الفكر هناك أفدح الأخطاء وأخطرها، ليس هو ما يرد على خاطر رجال الفكر عندنا، ولا لأننا لا نعانيه كما يعانونه هناك، بل ربما أكثر مما يعانونه، ولكن لأننا في الحقيقة نجهله ولا نعرف عنه إلا ما نُردِّده لفظًا، محاكين ما نقرؤه عن كتاب الغرب، دون أن نحسَّ له عضة حقيقية في أحشائنا، فهم هناك يضعون في مقدمة الأخطاء والأخطار الأسلحة النووية وما عساها أن تفعل بالحياة كلها على الكوكب الأرضي، لو أن حربًا بتلك الأسلحة نشبت بين الطرفين، اللذين، هما — بصفةٍ أساسية — القوتان العظيمتان، ثم تمتد إلى الفروع التي تتبع كلَّ أصل من هذين الأصلين، ثم إلى فروع الفروع، التي هي العالم الثالث، بل إن حربًا كهذه قد تبدأ في فروع الفروع هذه، قبل أن يتسع مداها لتشمل الأصلين الأولين، وثاني الأخطاء والأخطار هو — عند مَن قرأت لهم من كتاب الغرب — استنفاد ثروات الأرض استنفادًا سريعًا، بحيث يمكن أن يقال إن اليوم قد اقترب، الذي نبحث فيه فلا نجد بترولًا، ولا فحمًا ولا هذا ولا ذاك مما نُخرجه من الأرض ونفنيه بأسرع مما يجب علينا أن نفعل، وثالث الأخطاء والأخطار هو تلوث البيئة بما قد زاد وفاض في أيامنا من سمومٍ تُخرجها المصانع، والإشعاع الذري، وغيرهما مما نعلم بعضه ونجهل بعضه، وقد يُضيف هؤلاء المفكرون مشكلة التفجر السكاني إلى مشكلاتهم تلك، وغير هذا وذاك من جوانب، إننا هنا في بلادنا نعرف عن تلك المشكلات أسماءَها ولكننا — كما قلت — لا نكابدها أو نعانيها بالمعنى الصحيح للمكابدة والمعاناة؛ ولذلك فإن كتابتنا عنها أشبه بمحفوظات الشعر حين يُلقيها أمام معلِّمه تلميذٌ صغير، اللهم إلا — ربما — مشكلة التفجر السكاني لأن مأساته قد باتت جزءًا من طعامنا اليومي.
تلك مشكلات نشارك فيها العالم كلَّه، على نحو ما تجيء الصورة المصغرة متشابهة الملامح مع نظريتها المكبرة، ثم نضيف إلى صورتنا المصغرة طائفةً أخرى من أخطاء وأخطار لها عندنا صدارة يستحيل معها أن نتغافلها، كما تغافلنا المشكلات الكبرى التي تشغل رجال الفكر في الغرب؛ فإذا فرضنا أن لكل بلدٍ — هنا وهناك — مسائله الضاغطة في السياسة، بحيث نتساوى جميعًا في همومها، فليس الأمر كذلك فيما يمسُّ مشكلة الاقتصاد؛ لأن الفرق بينها عندهم وعندنا هو الفرق بين مَن يأكل ومَن يجوع، فهم حقًّا «الشمال الغني»، ونحن حقًّا مع أمثالنا «الجنوب الفقير». وكذلك مشكلة التعليم فالتعليم مشكلته عامة وشاملة، لكنها عندنا قد تعقدت واستعصت. فإذا كان السؤال عندهم هو: كيف تجعله تعليمًا أفضل، فالسؤال عندنا هو: كيف نجعله تعليمًا يستحق الحد الأدنى من معنى هذه الكلمة؟ وكذلك الأمر في مشكلة السكان، فهي قد تكون مشتركة لكنها بلغت عندنا ذلك الحد الذي يقال عنه إنه مسألة حياة أو موت.
كان العدل ألا تزر وازرة إلا وزرها، لكن هذه الحياة الظالمة قد حملتنا أوزارنا وأوزار غيرنا، وتكدست كلها في صورة مصغرة، إنها صورة تعكس على سطحها كلَّ ما يعانيه عالم الأغنياء — العلماء — الأقوياء من أخطاءٍ أوقعتْه في مشكلات الحرب النووية إذا وقعت، والإشعاع الذري وفضلات المصانع وما تؤدي إليه من تلوث.
ثم تضيف إليها أخطاء عالمها هي بفقره وجهله وضعفه، إلى هنا ولم نذكر إلا مشكلاتنا كما هي عائمةٌ على السطح، تراها الأعين المجردة بغير حاجةٍ منها إلى مناظير التحليل العلمي ومجاهيره، فماذا نحن واجدون وراء هذا كله — في الصورة المصغرة المكثفة التي تُصور حياتنا وأخطاءها — إذا نحن أعملنا فيها مشرط التحليل النفسي، الذي هو في حقيقته ووظيفته، محاولة البحث عن العلة الأولى، أي عن الجذر الأول الذي منه نبتت شجرة الأخطاء — والأخطار الناجمة عنها — كل فروعها وفروع فروعها، إنني أجيب على سبيل المحاولة. إن علة العلل هي — عندنا بصفةٍ خاصة — قلة المعرفة في رءوسنا عمَّا هو حولنا، وأستغفر الله إن كنت مهاجمًا بغير حقٍّ، وأودُّ القارئ ألا يستثنيَ هذا الكاتب من ذلك الحكم العام؛ لأنه يستثني نفسه، لا بل هو أدرى الناس بقصوره وتقصيره في معرفة حقائق العالم الذي نعيش فيه، وهاك مزيدًا من شرح ما أوجزناه:
كان لسقراط مبدأٌ خلقيٌّ، قد يدهش له سامعه للمرة الأولى، لكنه إذا تأمله وجد فيه من الحق ما لا ينكر، وإنه لمبدأ يوضح لنا ما نحن الآن بصدد توضيحه من حيث العلاقة بين «المعرفة» ومقدارها ودقتها من جهة، وقابلية الوقوع في الخطأ، ثم في الخطر تبعًا لذلك، وأما ذلك المبدأ السقراطي فخلاصته أن مَن يعرف، محالٌ عليه أن يقترف الرذيلة بكل أنواعها، أو بعبارةٍ أخرى تؤدي المعنى نفسه: أن مَن «يعرف» لا بد له أن يسلك في حياته مسالك الفضيلة، دون أن يحسَّ شيئًا من الضيق والعنت. إن مَن اقترف رذيلةً إنما اقترفها لأنه «يجهل» عواقبها، ولو «عرف» تلك العواقب معرفةً جيدة كاملة واضحة لاستحال عليه استحالةً تنبع له من تلقاء نفسها، أن يقترف الخطأ، وهنا يُقال — كما يُقال في هذا الصدد دائمًا — إن الإنسان قد يعرف عن الخطأ أنه خطأٌ، لكن إرادته أضعف من أن تحول بينه وبين ارتكابه، فيكون جواب سقراط على مثل هذا القول: «إن المعرفة بحقيقة الأمر عندئذٍ تكون غامضةً أو ناقصةً، أما حين تكون معرفة الإنسان بحقيقة الموقف المعين، كاملةً وواضحة، امتنع عن اقتراف الخطأ بمانعٍ داخليٍّ؛ لأنه ليس بحاجةٍ إلى مواقع تأتيه من خارجه لتنهاه، إذا كنت على ظمأ، ووجدت كوبًا مليئًا بماء أنت «تعرف» حق المعرفة أنه مسمومٌ، فإنك برغم الخطأ تكف عنه من تلقاء نفسك، بأمر أنت صاحبه ولا يأمرك به سلطان، لماذا؟ لأنك «تعرف» أن الماء مسمومٌ، وتعرف أن السمَّ مميت، وأنت لا تريد أن تموت، نعم، هناك حالات كثيرةٌ جدًّا يقول فيها الإنسان إنه يعرف ضررها، ولكنه عاجزٌ بإرادته الضعيفة أن يكفَّ عنها، كما نسمعه من المدخنين، ومدمني المخدرات والمسكرات مثلًا، لكن حقيقة هذه الحالات كلها، هي أن المعرفة المزعومة ليست كاملة ولا هي واضحة مهما ادعى صاحبها غير ذلك.
وننتقل من ذكر المبدأ السقراطي وشرحه إلى تطبيقه في مجال حديثنا هذا، والمجال هو صورة حياتنا وما قد اجتمع فيها من أوزارنا وأوزار غيرنا، فماذا نحن صانعون في معالجتها؟ وأقول في ذلك: إن الخطوة الأولى هي بثُّ «المعرفة» الصحيحة الواضحة بحقائق الأمور. وإنني لعلى دراية تامة على الأقل نتيجة اشتغالي بالتعليم مدة أوشكت الآن على بلوغ الستين، على درايةٍ بسرعة ما يخلط الإنسان بين ما «يعرفه» حقًّا وما «يظن» أنه يعرفه، كم عامًا مضت علينا ونحن نجاهد في سبيل تنظيم الأسرة؟ بمعنى أن ينسل الوالدان بمقدار قدرتهما على التربية الصحيحة، وكم بذلنا من جهودٍ وأنفقنا من مال؟ ومع ذلك لم نحقق إلا نجاحًا أضأل من الضئيل، مما يقطع بأن الآباء والأمهات لا «يعرفون» على درجة قريبة من الوضوح وقريبة من الدقة، مقدار الخطأ — والخطر — في اطِّراد التضخم السكاني، ومع ذلك فما أكثر ما تسمع منهم أنهم «يعرفون»، ولكن الإرادة لا تُسعفهم، فمن الواضح أنهم لا يفرقون بين حالتين: مَن «يعرف» ومَن «يظن» أنه يعرف؛ فالعارف الحق يستحضر في ذهنه كلَّ النتائج وكأنها ناصعةٌ أمام عينيه، ومن تلك النتائج أن يرى أبناءَه أو أبناء أبنائه بلا طعامٍ، لا تسترهم ثيابٌ كافية، وبغير سكنٍ يُؤْوِيهم.
وعلى منوال ما قلناه في مشكلة الانفجار السكاني، نستطيع أن ننظر إلى ما شئت من مشكلاتنا الأخرى، في السياسة والاقتصاد والتعليم، وغيرها لترى أن تحليل الموقف تحليلًا يردُّ الفروع إلى أصولها، والنتائج إلى أسبابها سينتهي بك في آخر الشوط، إلى أن علة العلل كافيةٌ في ضحالة «المعرفة» التي نحملها في رءوسنا عن أي موضوعٍ مطروحٍ للنظر. وغموض تلك المعرفة القليلة غموضًا لا يمكن العارف من رؤية النتائج المتوقع حدوثها، بكل تفصيلاتها: رؤية ناصعة وكأن كلَّ تلك النتائج المرتقبة حاضرةٌ أمام حواسنا، فما من مشكلةٍ إلا وهي في صميمها موقف فيه نقص لعناصر معينة إذا أضيفت زالت المشكلة، أو فيه زيادة من عناصر معينة، إذا حذفت زالت المشكلة، وإدراكنا لحقيقة الموقف — من نقصٍ في عناصره — أو من زيادة، يتطلب الدراسة العلمية ثم يتطلب بعد ذلك أن تُبنى نتائج تلك الدراسة على درجاتٍ متفاوتة من التعقيد والتبسيط، تتوازى من درجات الثقافة التي يتلقاها أفراد الشعب لتصبح جزءًا من حياته اليومية الجارية، فأما الدراسة العلمية لما يحيط بنا من مشكلات، فهي مهمة العلماء ومعاهد التعليم والجامعات ومراكز البحث العلمي، وأمَّا بثُّ النتائج في أفراد الشعب لتصبح «معرفة» عامةً وكافية ودقيقة، فذلك أوجب واجب تؤدِّيه وسائل الإعلام، وليس المقصود «بالمعرفة» التي ندعو إلى غزارتها ووضوحها ودقتها، أن تكون مخزونات محفوظة في الذاكرة، نكرُّها كرًّا كلما نشأت مناسبةٌ لتسميعها، بل المقصود والمأمول أن تتحول تلك «المعرفة» عند حاملها إلى سلوكٍ فعليٍّ يتضمن عملًا مؤداه أن تتحقق لنا حياةٌ جديدة بالفعل، على صورةٍ يضاف فيها ما كان ناقصًا، أو يحذف منها ما كان زائدًا، لقد قلنا فيما أسلفناه إن العالم كله يواجه مشكلات اقتضاها هذا العصر وطبيعة الحياة فيه، شأنه في ذلك شأنُ كلِّ عصرٍ مضى؛ إذ لو أن التاريخ قد شهد عصرًا خلا من النواقص والزوائد، لدام ذلك العصر إلى نهاية التاريخ البشري، إلا أننا قد ذكرنا كذلك فيما أسلفناه أن صورة حياتنا نحن ومعنا ما يسمُّونه بالعالم الثالث قد أفرزت مشكلاتٍ خاصة بها، أضيفت إلى المشكلات العامة التي تعترض سكان الأرض جميعًا، مَن تقدَّم منهم ومَن تخلَّف على السواء، إذن فنحن وأمثالنا نتحمل العبء الأكبر، ومع ذلك فليست ضخامة العبء هي جوهر الكارثة، بل يكمن جوهر كارثتنا في الطريقة التي نواجه بها الموقف الصعب، فبينما نرى الشعوب المتقدمة، بفضل جهود علمائها ومعاهد تعليمها ووسائل إعلامها، قد استطاعت إدراك حقيقة الموقف ومشكلاتها، فحاولت وتحاول بكل الوسائل المستطاعة، أن يكون الإنسان العادي من أبنائها على «وعي» بما يحيط به، وبما هو متوقع الحدوث لو تركت الأمور لتجري كما تجري، وهو «وعي» ينتقل بالوعي في الأغلب إلى تغيير سلوكه في حياته العملية درءًا للخطر، ننظر إلى أنفسنا، فلا «وعي» الناس بحقيقة الحياة المعاشة وعيٌ كافٍ، ولا هو — على ضعفه — قد صيغ على نحوٍ يحمل أصحابه على أن يتكيفوا بسلوكهم الفعلي لما يقتضيه عصرهم، وإن شئت اختصارًا يوضح الفرق بيننا وبين الشعوب المتقدمة، في هذا الصدد الذي نتحدث عنه لقلنا: إنهم هناك مشغولون بنظرةٍ «مستقبلية»، لا يكتفون بأن تتجه أبصارهم إلى مواضع أقدامهم، بل يشخصون تلك الأبصار إلى غدٍ وبعد غدٍ، في حين ترانا وقد انصبَّت على آذاننا إذاعاتٌ وسدَّت الطريق أمام أعيننا كتاباتٌ، تجعلنا في محصلتها الأخيرة نغيب عن دنيانا غيابًا تامًّا، وكأنها لا هي دنيانا ولا نحن أبناؤها، فيضيع علينا يومنا، كما يضيع علينا يقينًا غدٌ مأمول أو غير مأمولٍ.
«المعرفة» نور، وإذا قلنا إننا — بوجهٍ عامٍّ — فقراء «معرفة» بأشد مما نحن فقراء مال، فكأننا نقول إننا نتخبط في ظلامٍ ليس فيه من «النور» ما يهدي إلى سواء السبيل، وتستطيع أن تنظر وراءك لترى حياتنا الثقافية خلال النصف الأول من هذا القرن، لترى كيف كان «التنوير» مداد الأقلام الكاتبة، وأن تنظر بعد ذلك — على سبيل المقارنة السريعة — إلى هذه المرحلة الزمنية الراهنة التي نجتازها، ونحن في الربع الرابع من القرن العشرين، لترى كم مما يُذاع وما يُكتب صرفًا للأنظار عن هذا العالم بكل ما فيه؟ ونحن إذا فرضنا جدلًا أن ذلك السيل من الإذاعات والكتابات قد حقق غايته، فتزهَّد الناس ونفضوا أيديَهم من غبار الأرض، فماذا يبقى لهم من مشكلاتٍ تُحَلُّ على أيديهم أو لا تُحَلُّ؟ فلا سياسة ولا اقتصاد ولا تعليم ولا شيء قط من أمور هذه الدنيا الدنية يُعينهم! الحق أن أملَنا كلَّه معقودٌ على أن تُخطئ تلك الإذاعات والكتابات أهدافَها، حتى تبقى لنا بقيةٌ ولو قليلة من «وعي» بهذا العالم وما يجري فيه، لعلنا نمدُّ أنظارنا من حاضرٍ موبوء إلى مستقبلٍ مرجوٍّ نرسم صورتَه بدقة العارفين، لنعمل جادِّين على تحقيق الرجاء.
علة العلل — إذن — هي فقر «المعرفة» أو قُلْ هي ضآلة «النور»، في حياتنا الفكرية، وما يترتب على ذلك من حياة عملية لا تتبيَّن أهدافها، وحتى إن تبيَّنتْ شيئًا من تلك الأهداف تعذَّرتْ عليها — لفقر المعرفة — تحديدُ الوسائل، ولقد كان من أفدح النتائج التي تولدت عن فقر المعرفة، أننا ونحن في عصرٍ يُوصَف بحقٍّ بأنه عصرُ «العلم» ترانا في أعماقنا لا نؤمن بالعلم، نعم، إننا نُرسل أبناءَنا إلى الجامعات ألوفًا ألوفًا، وهم قد «يحفظون» ما يتلقَّونه من «علوم»، كلٌّ في مجال تخصصه، ولكنهم برغم ذلك العلم المحفوظ، يرفضون — عن مبدأ — أن ينصاعوا في حياتهم اليومية، وفي تكوينهم لوجهة النظر، التي من خلالها ينظرون إلى الكون وإلى الإنسان، أقول إنهم في ذلك كلِّه، يرفضون — عن مبدأ — أن ينصاعوا للعلم ومقتضاه، بحيث يرفضون «الخرافة» عند تعليل الظواهر، أو عند التقدير والتدبير لحياة ردِّ الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية.
لقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة سابقة، أن لفت الأنظار إلى حقيقة الهيكل الذي تُقام عليه حياتُنا العلمية والثقافية جميعًا، وخلاصة ذلك هي أننا ننقل عن العصر علومه لتدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، لكننا نأبى — ربما عن عمدٍ — ألَّا يلقطَ الدارسُ مع علومه التي يدرسها، «منهج» البحث الذي أدَّى بمن أنتجوا تلك العلوم في الغرب — بصفةٍ خاصة — إلى أن يُنتجوها، فكان الحاصل عندنا هو: متعلمون يُعدُّون بمئات الألوف، يتفاوتون — بالطبع — في قدراتهم، إلا أنهم يتساوون جميعًا في جانبٍ هام، هو غياب المنهج العلمي، ولا يخدعنا أن نرى رجال العلم وهم في مقار تخصصاتهم، يمارسون طرائق البحث العلمي؛ وذلك لأنهم هناك يعيدون ما كانوا حفظوه من مادة وطريقة، لكن المعول الحقيقي في اكتساب المنهج العلمي، هو أن يتطبَّع به صاحبُه في مجالات الحياة على اختلافها، فتكون لديه عادة أن يربط المسببات بأسبابها الحقيقية، كلما أراد تعليلًا مقبولًا لها.
لقد استطاعت مصر، عبر الحضارات المختلفة التي جاءتها من خارج حدودها، بعد أن أكملت شوطها الإبداعي في الحضارة المصرية القديمة، أقول إنها استطاعت أن تهضم الحضارات الجديدة هضمًا، مكَّنها من الإبداع فيها، ومن التفوق حتى على أصحاب الحضارة الوافدة إليها، وكان السر في ذلك هو إيمانها بما قد تلقَّتْه، ولعل ما ساعدها على ذلك الإبداع والتفوق أن جوهر الحضارات الجديدة كان ذا صلةٍ بجوهر الحضارة المصرية القديمة، في كونه دينيًّا أخلاقيًّا، لكنها حين تلقَّت حضارة هذا العصر، وجدت أساسها شيئًا آخر هو «العلم» بمعنًى جديدٍ لكلمة «علم»، ولم يكن عسيرًا على المصري المتحضر بكل ما قد تحضَّر به، أن يُهيِّئ نفسه لهذا الجديد الوافد، مادةً ومنهجًا، لكنه — وا أسفاه — قد ضيَّع على نفسه الريادة التي أَلِفها وعُرف بها فيما مضى، بأن استمع إلى مَن جعلوه يقصر نفسه على «حفظ» العلوم الجديدة، مع الحذر حتى لا ينتقل معه منهجُ تلك العلوم، كلما انتقل من أماكن عمله العلمي، إلى حيث الحياة اليومية في صُوَرها المختلفة، إذا أرادوا له هناك أن يخلع عن عقله منهج العقل، كما قد خلع عن جسده ثياب العمل.