رواية وراويها
أتذكر يا صاحبي، ذلك اليوم البعيد البعيد، عندما كانت الشمس الغاربة قد أوشكت على الغروب، تجرُّ وراءها أذيالًا من الشفق، امتدت وراءها حتى اكتسبت بها رقعة تبلغ من السماء ثلثها أو ما يزيد على الثلث، وقد جلسنا معًا فوق الصخرة الناتئة على شاطئ البحر؟ أتذكر كيف نظرنا معًا إلى ذلك الشفق الجميل وهو يزفُّ الشمس إلى مغيبها، فقلت أنت إنه نارٌ تأجج أوارها، ورددت عليك قائلًا: بل هو فرشٌ من أوراق الورد؟ أتذكر يا صاحبي تلك اللحظة من ذلك اليوم البعيد؟ ألم نلحظ معًا كيف جاء اختلافنا في الوصف، دليلًا على اختلافنا في رؤية الأشياء وتأويلها؟
ولقد امتدت بنا الأعوام، بعد تلك اللحظة البعيدة، فطوحت بك في شرقٍ وطوحت بي في غرب، نلتقي آنًا هنا أو هناك لقاء قصيرًا عابرًا ثم نفترق سنوات، لكن رؤيتك للدنيا لم تزل رؤيتك، ورؤيتي لم تزل رؤيتي، فما تراه نارًا حارقة أراه وردًا، والشيء المرئي هو هو ذاته الذي تراه أنت وأراه، إن دنيانا وأحداثها — يا صاحبي — هي كأحرف الهجاء كلٌّ يصنع منها الرواية التي يشاء، ولقد صنعت أنت من أحرفك روايةً يائسة حزينة، وصنعت أنا من أحرفي روايةً راجية راضية مستبشرة، والعجب هو أننا متصاحبان على طريق الحياة، ونحرص على أن نبقى متصاحبَين، ولعلك أنت الذي قلت لي ذات يومٍ، أن بتهوفن، وهو على فراش مرضه وقد جلس بجواره بعضُ أصدقائه الأقربين، قد التفت إليهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وقال: هيا الآن يا أحبائي، أنزلوا الستار فقد انتهت الملهاة — قالها وأسلم الروح.
وأذكر أن حوارًا جادًّا قد دار بيننا، حول ذلك الذي رويته لي عن بيتهوفن وما نطق به عند موته، فسألتك بعد لحظةٍ صامتة: أيمكن حقًّا أن تكون حياة الإنسان «ملهاة»، ودع عنك أن يكون ذلك الإنسان هو بيتهوفن، أو أيًّا ممن دارت حياتهم على أفلاك العظماء، كما دارت حياة بيتهوفن؟ نعم لقد أدرنا بيننا يومئذٍ حديثًا مسترخيًا خفيفًا لكنه جادٌّ، حين بادرتني — كعادتك — بسؤالٍ تريد به أن تتقصَّى الأمور إلى منابتها، فقلت لي: لماذا تفرق في وصفك للحياة بين ملهاةٍ ومأساة؟ أتحسب أن الملهاة ضحك ليس وراءه إلا الضحك، وأن المأساة بكاءٌ ليس وراءه إلا البكاء؟ الملهاة والمأساة كلتاهما تصوير للإنسان الأولى تصوره في متناقضاته، وتصوره الثانية وهو يسعى إلى حتفه بظلفه، فيوجه مسيره نحو التهلكة، ظانًّا أنه يصعد به إلى مجد، وربما قصد بيتهوفن بقولته تلك: أن عظمة موسيقاه حين تنتهي بصاحبها إلى موت، إنما تشير إلى تناقضٍ كالتناقض الذي تُبنى عليه الملهاة، وكان ذلك الرجل العظيم لم يفرق بين موتين: أن يموت هو وأن تموت موسيقاه، فالعملُ العظيم باقٍ مع الناس، وأما صاحبه فهو فانٍ بجسده حتمًا محتومًا، ولا تناقض في ذلك؛ لأن العمل العظيم ليس ملكًا لصاحبه بقدر ما هو ملك للناس أجمعين.
قلت: لا عليك يا صاحبي من بيتهوفن وما حكم به على حياته لحظة خروجه منها بأنها كانت ملهاة، حتى طلب من أصدقائه الذين جلسوا بجواره خاشعين وهو يحتضر أن يسدلوا ستار المسرح؛ لأن الملهاة قد بلغت ختامها، لا عليك يا صاحبي فقد قال بيتهوفن ما قاله وهو في برزخٍ بين عالم الفناء وعالم الخلود، فهو وأمثاله من شوامخ الرجال — ربما عن غير وعيٍ منهم — قد تحقق لهم الخلود مرتين: مرة أولى حين رُسمت أسماؤهم في قلوب البشر، ومرة ثانية حين نُقشت أسماؤهم بالنجوم على صفحة السماء، ولنوجه أبصارنا إلى أمثالنا ها هنا على هذه الأرض وفي زحمة الناس، نعم فلنوجه أبصارنا إلى مَن هم مثلك ومثلي من ملايين الرجال والنساء، الذين لا هم بلغوا من درجات الصعود ما بلغه بيتهوفن وأبو العلاء، ومَن هم على هذه الشاكلة التي تتحول حياتها إلى نورٍ يقشع الظلام أينما كان، ولا هم نزلوا على درجات السلم حتى تسطَّحت حياتهم مع أديم الأرض، وإنما هم بقدراتهم المتوسطة معلَّقون بين أرضٍ وسماء، فلا هم يريدون أن يقروا على الأرض مع عامة الناس ولا سماء الخلد تريد أن تفتح لهم الأبواب، إنهم كطائر هيض له جناح وبقيَ جناح فلم يَعُد يعرف له مكانًا: أهو مع الطير محسوب، أم هو محسوبٌ مع ذوات الرِّجلين؟ أو هو كمَن بُترت له ساق فوقف على رِجلٍ واحدة لا يعرف الناس أهو مقعدٌ يحملونه؟ أم هو ماشٍ فيسير؟
إنه لا إشكال في العمالقة، ولا إشكال في الأقزام؛ فالعملاق في ميدانه عملاق يُرغم الناس من حوله إرغامًا على أن يثنوا رقابهم، حين يتجهون بأبصارهم إلى أعلى، إذا أرادوا رؤيته أو التحدث إليه، والقزم في ميدانه قزم لا حيلة لمن أراد النظر إليه إلا أن يتجه ببصره إلى أسفل، أما الإشكال فهو في «الأواسط» فأمرهم كثيرًا ما يختلط على المشاهدين، فتارةً يتوهم مشاهدوهم أنهم أعلى، وتارةً يتوهمون أنهم أسفل، وإن ذلك ليذكرنا برواية «رحلات جالفر» للكاتب الإنجليزي «جوناثان سويفت»، وهي رواية مشهورة تلقى إعجابًا عند الكبار وعند الصغار على حدٍّ سواء، ففيها أخبار «جالفر» إذ وجد نفسه خلال أسفاره بين قبيلةٍ من عمالقة الأجسام، بحيث كان الواحد منهم يحمل جالفر على كفِّه، فلم يكن يزيد على إصبع واحدة، وهكذا أخذ العمالقة يلهون بتلك الأعجوبة البشرية، فلما شاء الله أن ينجوَ من تلك المحنة، واستأنف السفر وقع على قبيلةٍ من الأقزام، فانعكس الوضع هذه المرة؛ إذ كان هو العملاق الذي أخذ يلهو بتلك الأجسام الصغيرة، يضع الواحد منهم على كفِّ يده، أو في جيب صِداره، لقد كان «جوناثان سويفت» يريد بتلك الرواية سخرية بالحياة السياسية في إنجلترا على أيامه «إبَّان القرن الثامن عشر»، لكنها سرعان ما جاوزت هدفها الأساسي لتكون متعةً للأطفال وتسريةً للهمِّ عند الكبار، ومشكلة «جالفر» في أسفاره سواء أكان مستصغرًا بين العمالقة أم كان مستضخمًا بين الأقزام، هي بعينها مشكلة «الأواسط» الهوامل في عالم الفكر والفن والأدب في حياتنا، محنة هؤلاء «الهوامل» هي أن حقيقة أقدارهم لن يكشف عنها نقابها، إلا على أيدي أجيالٍ آتية، فإما رفعتْهم تلك الأجيال إلى حيث يستحقون من رِفعة، وإما خفضتهم إلى حيث يستحقون من حضيضٍ.
ومضت بيني وبين صاحبي بضعُ دقائق صامتة، فلا أنا مضيت فيما كنت أتحدث فيه، ولا هو علَّق على حديثي بشيء، فعدتُ إلى خطابي إليه قائلًا: لقد خطر لي خاطر ذات يوم، وكنت عندئذٍ أسيرُ في شارعٍ مزدحم بالمشاة وبالراكبين، وهو أن كل واحد من هؤلاء الناس، إنما يُضمر في دخيلته «رواية»، هي رواية حياته التي عاشها، ولستُ أدري كم مجلدًا ضخمًا تملؤه روايةُ كلٍّ منهم، فالأحداث التي مرت به والأحاديث التي دارت على مسمعٍ منه، شارك فيها أم لم يشارك، والمشاهد التي رآها والأنباء التي سمعها عن الآخرين، إنما هي أكداس فوق أكداس، أين منها مخزونات أي جهاز إلكتروني حاسب؟ وإني لأتمنى حقًّا أن أصادف روائيًّا قديرًا يُعدُّ في بلده من «الهوامل» الذين ترفعهم الأقدار وتخفضهم كما تشاء الأوهام والأغراض، لا كما يشاء الحق والإنصاف، أقول: إني لأتمنى أن أصادف مثل هذا الروائي القدير من فئة «الهوامل» ليرويَ لي رواية حياته، فهو بالفن الروائي يستطيع أن يستخلص من أكداس الحوادث هيكلًا فيه اختصار وفيه شمول في آنٍ واحد، فمثل هذه الصورة الهيكلية الصادقة هي تصويرٌ لما يعانيه الهوامل من عنتٍ وظلمٍ وتجاهل أحيانًا، أو ما ينعمون به أحيانًا أخرى من رواجٍ وشهرةٍ وتقدير، والأمر في كلتا الحالتين لا يرتكز على حقٍّ يستحقه مَن يعاني أو مَن ينعم، بل هو معتمدٌ على مهارة صاحب المصلحة أو خيبة أمله وضعف حيلته، أقول إن ذلك كله مما يلاقيه الهوامل من إقبالٍ وإدبار ومن سعودٍ ونحوس، هو من أصدق الشواهد شهادة على صحة الحياة في المجتمع أو مرضها، فالعمالقة محكومٌ لهم بغير إشكالٍ، والأقزام محكومٌ عليهم بغير إشكالٍ كذلك، ويبقى «الأواسط» الهوامل وحدهم نهبًا لأحكامٍ متسرعةٍ بإنصافٍ أو بإجحاف.
وإنك يا صاحبي لهو ذلك الروائي القدير من جماعة الهوامل، ففي مقدورك أن تحقق لي ما تمنيت له أن يتحقق، وهو أن ترسم لنا صورة مكثفة لكنها وافية لرواية حياتك، فلعلها تشير إلى أي نوعٍ من مجتمعٍ ثقافي يعيشه هذا البلد الحبيب، فتردد صاحبي ضاحكًا أو ضحك مترددًا، ثم قال: إنك إذا طلبت من صانع السيارة أن يصف لك كيف صنعت فما أيسر عليه أن يذكر أجزاء السيارة جزءًا جزءًا، ومراحل تركيبها مرحلةً مرحلة، فترى الحلقات كيف تتابعت منذ بدأت مع خام المعدن، حتى أصبحت سيارة تجري على عجلاتها، لكن مثل هذه التجزئة وهذا التتابع بفواصلَ حادة بين جزء وجزء، غير وارد في تكوين الكائن الحي وتتابع المرحل في نضجه ونمائه، فمهما دقَّ التحليل العلمي بالعلماء، فمحالٌ عليه أن يرسم الخطوط الفاصلة، يقول إن في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، انتهت مرحلة الطفولة وبدأت مرحلة المراهقة، وأكثر منه استحالة أن ترويَ عن إنسان، أو يروي إنسان عن نفسه، قائلًا: إنه في اليوم الفلاني من السنة الفلانية، وردت على ذهنه الفكرة الفلانية، فأصبحت تلك الفكرة بعد ذلك ملازمةً في تفكيره، أو أنها تبخرت كما تتبخر قطرة الماء في وقدة الشمس، فتختفي كأن لم تكن، وما أبلغ الآيات الكريمة التي قارنت كلمةً طيبة بشجرة طيبة؛ فالكلمة هنا «فكرة» خصبة، وَلُودٌ تنسل لصاحبها أفكارًا، وتتجسد الأفكار في أعمالٍ وتنتهي الأعمال إلى ثمرٍ، فانظر إلى الشجرة الطيبة تلك، وافرض جدلًا أنها قادرة على التعبير عن حياتها الداخلية، تعبيرًا يحدد لنا كيف نمَتْ وتطورت وأثمرت، فماذا هي قائلةٌ؟ إن الذي هو في وسعها أن تقوله هو ما قالته عنها الآيات الكريمة وهو منحصر في ثلاثة أطراف، فهناك أصلها الثابت في الأرض وهنالك فروعها التي ارتفعت فبلغت السماء، وهنالك الثمر الطيب الذي تُخرجه حينًا بعد حينٍ، وهي أطرافٌ ثلاثة تشير إلى مقابلات لها في حياة الصالحين؛ إذ هي حياة تنفع أهل الأرض في دنياهم، وهي في الوقت نفسه حياة تُرضي ربَّها يوم الحساب، فنفعُ الناس هنا مشروطٌ بأن يكون في حدود ما يُرضي الله سبحانه وتعالى، وليست هي بالحياة التي تنفع الناس، وتُرضي الله مرةً واحدة ثم تجمد وتعقم، بل هي حياة منتجة في هذا السبيل نتاجًا يبقى ويتكرر ما دامت هي حياة سليمة معافاة، لكن هل تستطيع تلك الشجرة الطيبة — إذا فرضنا فيها النطق — أن تصف كيف اعتملت فيها الحياة من داخلها، منذ كانت بذرة، حتى نمَتْ وتفرعت وارتفعت فروعها، ثم أثمرت ثمرات تعاقبت حينًا بعد حين؟ لا أظن ذلك وحتى لو فرضنا فيها تلك القدرة لما كانت بذات نفعٍ للسامعين.
ورواية حياتي كما تسعني روايتها، يمكن أن توصف على هذا النحو الإطاري الواضح، الذي هو في غنًى عن ذكر الأحداث الصغرى مُفصلة حدثًا بعد حدثٍ، فهي حياةٌ — في جملتها — من ذلك النوع الذي يسير به صاحبه في مراحلَ ثلاث: فكرة فموقف يجسدها، فمستقبلون يقبلون أو يرفضون، وإنه لتتابعٌ مألوف في الحياة الفكرية أينما ظهرت، ولا يعني ذلك شيئًا بالنسبة إلى «مستوى» تلك الحياة الفكرية، فقد تكون حياةً يطير بها حاملها، أو تطير هي بحاملها إلى أعلى عليين، ولكنها كذلك قد تكون فكريةً على مستوًى متواضع، فهذا التفاوت في الدرجة، لا ينفي الصفة العامة التي تتميز بها حياة فكرية كيفما كانت، وتلك الصفة العامة هي أنها أولًا: تنفع الناس في اعتقاد صاحبها، وثانيًا: يرضى عنها الله سبحانه، وثالثًا: هي حياة متواصلة الأثمار على فترةٍ طويلة من العمر.
وليس في مستطاعي الآن أن أحدد ماذا كانت أول فكرة مما أنبته رأسي، بحيث كانت نسبته إلى شخصي كنسبة الولد إلى والده، حتى وإن يكن هنالك من العوامل الخارجية ما أوحى بالفكرة؛ لأن مثل هذا الإيحاء لا ينفي صحة النسبة، بل إنه ليكاد يكون شرطًا ضروريًّا ولازمًا عند كل فكرة تولد لصاحبها، لكنني مع ذلك أقول صوابًا إذا قلت إن أول «حالة فكرية» عشتها عن أصالة لا أقلد فيها أحدًا، هي تلك الحالة التي تبينت فيها بوضوح، كم يتفاوت الأفراد في أقدارهم من الدنيا، تفاوتًا لا يستند قط على تفاوت القدرات فيما يتفاوتون فيه، بحيث يكون النصيب الأعلى للقدرة الأعلى والأصغر للأصغر، بل إنه تفاوتٌ يقوم معظمه على عوامل أخرى، لا شأن لها بطبيعة المجال الذي يتفاوتون فيه، وذهبتْ بنا هذه المفارقة إلى حدٍّ يأباه كلُّ إدراك فطري سليم، ومع ذلك فقد حدث ووقع، بحيث جاز لمن لم يكتب في حياته صفحة واحدة — أو ما يقارب من ذلك — أن يعدَّ «كاتبًا»، كما جاز لمن لم يضطلع ببحث علمي واحد أن يعدَّ «عالمًا»، فكان ذلك التناقض العجيب أول ما رسخ في نفسي رسوخًا ليبيض بعد ذلك ويفرخ، وهنا لا بد لي أن أذكر لك — يا صاحبي — حقيقةً هامة، تُعين على فهم الحياة المنتجة وكيف تنتج، وتلك هي أن الفكرة المعينة إذا ما تبلورت وتعينت حدودها في ذهن صاحبها، ولو على صورةٍ تقريبية يشوبها شيءٌ من غموضٍ تتداخل به مع غيرها من الأفكار فإنها — على الأرجح — لا تثبت على حالها إلى آخر العمر، بل هي تظل تزداد وضوحًا وتفرز مضمونًا، وتتسع تطبيقًا كلما ازداد صاحبها مع الخبرة توضيحًا لها، فقد يستخدم أحد الناس كلمة «علم» مثلًا، حين يكون مدى علمه بمعناها محدودًا في دائرة ضيقة هي غالبًا دائرة علومه المدرسية، ثم يكبر الناشئ ليكون طالبًا في الجامعة، فأستاذًا بتلك الجامعة فباحثًا علميًّا ينشر نتائج أبحاثه على الناس، وفي كل خطوةٍ من خطوات طريقه، نرى معنى «العلم» يزداد وضوحًا ودقةً واتساعًا، وهكذا قُل في أية فكرة يفرزها ذهنُه أو يتلقَّاها من سواه، عندما يكون في أوائل الطريق فهي تضخم عنده معنًى مع الأعوام والخبرة، وتكثر عناصرها وتفصيلاتها، ويصبح أقدر على رؤيتها مجسدةً في مواقف الحياة العملية، بعد أن كانت في رأسه — أول الأمر — حبيسة صورتها المجردة.
وهكذا كانت الحالة مع أوائل الأفكار التي تراءت لي منذ مرحلة الشباب مأخوذة من آخرين بالقراءة، أو مستوحاة من ظروف الحياة العملية كما تلقيتها وتأثرتُ بها، ولقد أسلفت لك مثلًا من فكرةٍ غامضة، جاءتني في أول الشباب محصلة من مجرى الحياة العملية التي مارستها في ميدان التحصيل العلمي والثقافي؛ إذ استخلصت لنفسي كم بُنيَت حياتنا في ذلك الميدان على كثيرٍ من المفارقات، التي كان محالًا عليها أن تكثر كما كثرت، إلا إذا كان المجتمع الذي عشت شبابي بين جنباته، قد أقيم على غير قليل من الظلم والعدوان، بحيث أُتيح لمن لا يستحق شيئًا أن يملك الحصاد على حساب مَن كان صاحبَ حقٍّ، ثم خرج من جهده المبذول صفرَ اليدين، أو ما يقارب من هذه الحالة، ولست أعني بصفرية اليدين هنا خلاءَهما من مالٍ مكسوبٍ، فذلك كان — وما يزال — آخر ما يسترعي اهتمامي، ولكني عنيت بصفرية اليدين تجاهلَ الناس للحق، مَن ذا يكون صاحبه وأين يكون موضعه.
كانت الفكرة أول أمرها منصبَّة على أسس التعامل بين الناس، كما رأيتها وتأثرت بها، وبدأت التعبير عن تلك الصور في كتاباتٍ تأخذ صورة التحليل الموضعي آنًا، وصورة الشكل الفني من آداب المقالة آنًا آخر، وكانت هذه الصورة الثانية أحبَّ إلى نفسي، ولو كان الفن الأدبي رجلًا يعيش بيننا، لأعلن في الناس بأعلى صوته أن قلمي قد جرى عندئذٍ ببدائع، لا أظن أن الأدب العربي يشتمل على كثيرٍ مما ينافسها إبداعًا، لكن الفن الأدبي — وا أسفاه — لم يكن رجلًا يعيش بين الناس ليُنبئهم حقيقة ما أغمضوا عنه الأعين، وليكن من أمر بذلك ما يكون، وإنما أردت أن أتعقَّب فكرتي عن الإنصاف أو الإجحاف في حياتنا العملية والثقافية، كيف رأيتها ثم دارت لي الأيام فالأعوام، فأخذتِ الصورةُ الفكرية الأولى تتلوَّن وتتشكل وتتعمق وتتسع، حتى أصبحت وكأنها شيءٌ آخر؛ وذلك أني ارتفعت بالفكرة إلى فلك التحليل العقلي، فإذا بأنسالٍ لها تتفجر من جوفها، وكان من تلك الأنسال المتفرعة التفرقة بين «العلم» و«الهوى»، ومن الهوى ما يذهب إليه الإنسان من أحكامٍ على الناس والأعمال والأشياء، لا عن تحقق من الواقع كما وقع، بل عن تحيزٍ مسبق مع الشيء المحكوم عليه أو ضده، وعلى أساس هذه التفرقة المبدئية تقوم الفواصل بين ما هو «علم» يشترك في صحته أهلُ الأرض جميعًا على معيارٍ واحد، و«عاطفة» تميل أو تنفر، تحب أو تكره، تغضب أو ترضى، فإذا ارتقى فردٌ من الناس أو أمة من الأمم، عرفت كيف تفرق بين ما هو «علم» وما هو «عاطفة» بمقدار ما ارتقت، ولئن كان للعاطفة وأحكامها رخصة الجموح، اعتمادًا على أنها لا تعبر إلا عن صاحبها وحده، دون أن تحمل معها دليلًا على أن الشيء الخارجي هو في حقيقته على الصورة التي رآها العاطف بعاطفته، أقول: لئن كان لأحكام العاطفة رخصةُ الجمود والجنوح، فليس لأحكام «العقل» من رخصة يتجاوز بها حقيقة الأمر، كما هو واقعٌ تراه الأعين، وتسمعه الآذان وتمسه الأيدي، وكما أن الاحتكام إلى العقل وقيوده كلما كان الشيء المحكوم عليه أمرًا يهمُّ الناس أن يعلموا عنه الحق، هو معيارٌ يقاس به ارتقاء الفرد من الناس أو الأمة من الأمم، فطغيان العاطفة على الحياة بكل ما رأيناه للعاطفة من جنوحٍ عن الحق وجموحٍ عن العدل، إنما هو معيارٌ كذلك لكنه معيار يقيس ما قد تردَّى فيه الفرد، أو ما تردَّت فيه الأمة من تخبطٍ ومن جورٍ.
تلك — إذن — كانت «فكرة» وذيولها تعلقت بها محورًا أُدير عليه النظر والتفكير والفصل بين مواضع النقص ومواضع الكمال، أو ما يتجه نحو الكمال، في حياتنا، فإذا عقبت عليها بفكرةٍ ثانية كانت هي الأخرى باكرة الظهور في حياتي النظرية، وأعني حياة الفكر المتأمل الحر، قلت إنها فكرة «العظمة» في عظماء الرجال والنساء مَن كان منهم، ومَن هو كائنٌ بأي العناصر تقوم، لقد رأيتها منذ البداية «فكرة» جديرة بالنظر الفاحص والتحليل الدقيق لماذا؟ لأن صورتها في الأذهان ثم إخراج تلك الصورة فيما يكتبه الكاتب، هو الموجه الذي يوجه الوالد في تربية أبنائه، ويوجه الدولة في تنشئتها للجيل الجديد، ولست أريد بذلك أن عظمة العظماء قد هانت لتصبح مُلْكًا مباحًا لأبناء الأمة جميعًا، فذلك مطمع تأباه طبائع الأمور، بل أردت أن تصورنا لعظمة العظيم — فردًا أو شعبًا — يرسم غاية عُلْيا من شأنها أن تعين على اتجاه السير إلى أين يكون؟ وهذا جانبٌ لا يستهان به لمن شاء لنفسه أو لولده أو لأمته أن تهتديَ في سيرها إلى جادة الطريق.
ولقد بدأت فكرة «العظمة» عندي أول الأمر — كما بدأت فكرة الخلط بين عقلٍ وعاطفة — على كثيرٍ من الغموض، ثم جاءت خبرة السنين لتجلوها ولتزيدها غزارةً واتساعًا، وربما كان بيت «المتنبي» عن «العظيم» أول ما نبهني إلى أهمية الفكرة، وهو بيت يقول فيه:
وإنِّي لأذكر الآن كيف امتلأتُ إعجابًا بهذا البيت عندما وقعتُ عليه أول مرة، وحفظته وأخذت أعيده لأمتع سمعي بموسيقاه، لكنني في شكٍّ كل الشك في أن أكون في تلك السن الصغيرة قد أدركت أبعاد المعنى وأغواره، وأقل ما يُقال في هذا الصدد هو السؤال عن «صغار» الأمور ما هي؟ وما هي «عظائم» الأشياء؟ فقد يكون أمرٌ معينٌ صغيرًا في عين زيد، عظيمًا في عين خالد، فماذا يكون مرجعنا الذي نستند إليه في التفرقة بينهما على أساسٍ صحيح؟
وإذا ألقيت سؤالًا على نفسي الآن لكان لي جواب لم يكن ليخطر على ذلك الفتى الصغير وهو يردد بيت المتنبي معجبًا، فمن أبرز العناصر في عظمة العظيم كما أراها أن يتمثل عصره ويمثله تمثلًا وتمثيلًا يُعينانه على معرفة جوانب القوة وجوانب الضعف في حياة عصره. وهنا تأتي الصفة الثانية من صفات العظيم، وهي أن يحمل تبعة المصير لتلك الحياة وكأنها كلها حياته هو، فترتسم في ذهنه صورةٌ تُثبت ما هو قوة في عصره وتنفي ما هو ضعف، وعلى أساس ذلك التصوير يبدأ كفاحه وجهاده نحو التغيير والتطوير للمجتمع كله، نحو ما هو أفضل فيما كان قد رأى، وإن وسائل الكفاح والجهاد لتختلف بين العظماء باختلاف مواهبهم؛ فالقلم أداة لهذا والحرب أداة لذلك والثورة خطة لثالث، والتعليم والإعلام سبيلٌ لرابع وهكذا.
وانظر إلى أبطال التقدم البشري على مدى التاريخ فمَن هم؟ إنهم رجالٌ تمثَّلوا عصورهم وكأن كلًّا منهم كان هو عصره، فعرف أين يقع النقص فدفعتْه العظمة الكامنة في جبلَّتِه أن يتبنَّى قضية الإصلاح، وكأنما الله سبحانه وتعالى قد خلقه بهذا الواجب الإنساني الملزم، وخير ما نقرؤه تنويرًا لأنفسنا في هذا الجانب من الفكرة، هو كتاب «كارلايل» عن البطل والبطولة «وأظنه قد تُرجم إلى العربية»، ولست أرى أن التركيز على عظمة العظيم إجحاف بالجمهور ودوره في حركة التقدم؛ لأن العظيم إنما امتصَّ خبرتَه من معايشته لمواطنيه، بل وللإنسانية كلها متمثلة في تاريخها وتراثها.
فرواية حياتي — يا صديقي — هي رواية فكرٍ وأفكار سايرته مهنة قوامها دراسة وتدريس، ونتج عن الخطَّين المتعاونين قلمٌ يكتب وينشر لستين عامًا خلت، ما أظنه قد استراح منها عامًا، وإنها لرواية — كما ترى — ارتكز بناؤها على رءوس ثلاثة: أولها فكرة وثانيها موقف يجسِّدها، وثالثها نشر لها فيتلقاها مَن يتلقَّى وعند الله حسن الجزاء.