على سبيل الفكاهة
بدأتُ الطريق جادًّا، وانتهيت هازلًا، إنه إذا ثقلت الكارثة على قلب المكروث، أخذ بادئ ذي بدءٍ أخذ المحزون، فإذا استعصت حتى رزح تحت همومها، تفجر صدرُه عن ضحكاتٍ بلهاء الرنين، قد تتحول إلى قهقهة الجنون، تدمع لها العينان دموعًا، تمهِّد لدخوله في غمرة البكاء، وبين أصوات الضحك وأصوات البكاء شبهٌ قريب، حتى ليحدث لنا أن نظنَّ الباكي ضاحكًا، ونسمع الضاحك فنحسبه باكيًا، وقديمًا قال المعري: «وشبيه صوت النعي بصوت البشير.»
كانت جلسةً جلستُها إلى مكتبي، كما أفعل عندما أعدُّ نفسي للكتابة، فالموضوع في رأسي، والورق أمامي، والقلم في يدي، ولم يبقَ إلا أن أُمسك عدسةً مكبرة بيسراي تهديني إلى الأسطر فيسطِّر القلم، لكني تركت العدسة ملقاة إلى جوار الورق، وسرحت سرحةً كان أمرها عجبًا، سألت بعدها ساعتي كم طالت، فأجابت بأنها زادت على ثلاث ساعات، وأما وقعها في حساب النفس، فكان كوقع الطيف، بغير صوتٍ وبلا كثافة، يظهر ويختفي في أقل من نبضةٍ واحدة ينبض بها قلب، وفيمَ سرحت تلك السرحة الطويلة القصيرة؟
لقد كان الموضوع الذي هممت بالكتابة فيه، هو ذلك التناقض في حياتنا كما أراها، فحياتنا في حقيقتها الواقعة، مترامية الأطراف، كثيرة الحركة، منوعة المناشط، لكني لا أملك — بالطبع — إلَّا أن أراها بمنظاري، فلا أرى منها إلا ما ينتسب إلى الكتب والكتابة، والفن والأدب، والرواية والمسرح، والنحت والعمارة، وهي رؤية تجاوز — بطبيعتها — فواصلَ الزمن، فالماضي حاضر مع الحاضر، وهما معًا يتجاوران مع صورة مستقبلية لا مكان لها إلا في خيال صاحبها، وهي كذلك رؤية تتخطى حواجز المكان، فليس ما يمنع فيها أن ترى الأفكار قد وفدت إليك من بعيدٍ ومن قريب، وكلها عندك سواء، تكتسب وهي في خاطرك حقَّ «الجنسية» لا فرق فيها بين فكرةٍ وفكرة إلا بقوة الحق الذي حملته في جوفها، فإذا نظرت إلى «حياتنا» من هذه الزوايا، رأيت منها ما أحيا به وما أحيا من أجله، ولقد كنت هممت ألَّا أكتب في «حياتنا» التي أصبحت أراها متقاطعة الخطوط، مسكوبة الماء، شاردة هنا وهنا وهناك كأنها هوامل البعران في صحراء، فإذا سألنا سائل: أين الثمرة؟ أُسقط في أيدينا، ولم نُحِرْ جوابًا.
وليس الذي يحيرنا في الإجابة عن سؤال السائل: أين الثمرة؟ هو أنه لا ثمار، كلا، كلا، فثمارنا — والحمد لله — كثيرة، ومنها الرفيع الجيد. كلٌّ في موضوعه، لكني كنت أتحدث عما أراه في حياتنا من تقاطع الخطوط تقاطعًا يكاد يجعلها تلغي بعضها بعضًا، فهي إلى ذلك أقرب منها إلى أن تُحدث زخرفًا متكاملًا، أو أن تقيم شكلًا هندسيًّا، إن المربع — مثلًا — هو خطوط أربعة، لكنها تتكامل جميعًا في شكلٍ واحد، أما ما يصنعه طفلٌ صغير لاعب حين يعثر على ورقةٍ وقلم فيضرب على الورق بالقلم ضربًا مجنونًا، فهناك ترى الخطوط، مستقيمة ومنحنية ومتعرجة ومن كل شكل، لكنها خطوط لا تبني شيئًا وعندئذٍ إذا سأل سائل: ما هو الشكل الذي أنتجته الخطوط؟ أخذتنا الحيرة ولم نستطع الجواب، وذلك هو ما قصدت إليه من حيرتنا أمام من يسألنا عن حياتنا: أين الثمرة؟
وليكن أمر ذلك ما يكون، فلقد أردت الكتابة فيما أراه من صورة حياتنا، وأمسكت بالقلم، لكن خاطرًا دعاني أن أتمهَّل قليلًا، لأستعرض في ذهني عددًا من المحاور في تلك الحياة متمثلة تلك المحاور في أشخاصٍ بأعينهم، أو في أعمال بذواتها، لكي يجيء ما أكتبه مستندًا — في رأسي على الأقل — إلى شواهد من واقع تلك الحياة، إلَّا أنني عندما شخصت ببصري إلى لا شيء، غفوت ذهنًا، فسرحت خيالًا، وهي سرحةٌ بدأت — فيما يبدو — حين تخيلت أني أجوب المدينة باحثًا عن المحاور التي كنت أريدها، ثم رأيتني وكأنني أنسحب من المدينة، وشيئًا فشيئًا أخذت ضجة المدينة تخفت صوتها، حتى لم يبقَ منها سوى طنين خفيف، ولم يلبث ذلك الطنين أن زال، فساد صمتٌ أين منه صمت القبور. آه! — هكذا صحت لنفسي في سرحتي — ألا يُذكِّرك هذا الذي حدث لضجة المدينة بشيءٍ؟ وما الذي حدث لضجة المدينة مما تعنيه؟ — هكذا سألت نفسي — وجاءني جوابها: كنت أعني أنها ضجة تصمُّ أذنَيك وأنت في قلبها، حتى إذا ما بعدت عنها قليلًا وقليلًا، نقص حجمها، وقلَّ شأنها بمقدار ما بعُدَتْ عنك أو بعُدْتَ عنها، فعدت إلى سؤال نفسي، وما الذي ذكرتك به — يا نفس — تلك الزيادة وهذا النقصان؟
وأجابت النفس إجابة أذهلتني بغرابتها أولًا، وبصدقها ثانيًا؛ إذ قالت: إن ذلك قد ذكرني بما يحدثه البعد الزمني بأحجام الرجال، فهم في حياتهم يضجون ويصيحون، ويهرجون، ويمرحون، و«أشطرهم» هو أعلاهم صوتًا، وأكثرهم هرجًا، وأشدهم مرحًا، حتى إذا ما انزلق الحاضر منبطحًا على ظهره ليصبح ماضيًا، ثم أخذ الماضي القريب ينأى عن الناس ليصبح ماضيًا بعيدًا، أخذت قامات هؤلاء الرجال تتغير في أنظار الناس أطوالًا؛ فرُبَّ عملاق صار قزمًا، وربَّ قزمٍ صار عملاقًا، ثم يزداد عصرُهم بُعدًا، فتأخذ أعداد هؤلاء الرجال، عمالقتهم وأقزامهم على السواء، تقل، وتقل إلى أن يجيء يومٌ للناس — وا عجبًا — لا يُذكَر فيه من هؤلاء الرجال رجلٌ واحد، فقد غاصت أصواتهم جميعًا في هوة العدم، اللهمَّ إلا أن يكون فيهم واحد من أبناء عبقر، فذلك العبقري يبقى أبد التاريخ رغم الألوف.
مهلًا! مهلًا! هكذا همست لنفسي، وكنت لم أزل في سرحتي، أتريد أن تجعل سيرة التاريخ أفرادًا جبابرة، يحملون العلم والفن والفكر والأدب على أكتافهم، فأين دور «الجمهور» في حركة التاريخ، إنك حين وجدت ضجة المدينة الصاخبة قد أخذت تخفت رويدًا رويدًا، كلما بعدت أنت عنها قليلًا قليلًا، قفز إلى ذهنك التشابه بين موت الإعصار الصوتي مع بُعد المكان، وموت الأسماء التي لمعت إبَّان عصرها في دنيا العلم والثقافة مع بُعْد الزمان، ورأيت أنه لا يغلب العدم ويقهره من تلك الأسماء إلا أفرادٌ قلائل من أسرة عبقر، فكنت بهذا التشبيه كمَن يقول إن المعول في الحياة الثقافية بجميع أطرافها هو على «أفراد» نوابغ، فأين دور «الجمهور» الذي كان هو — في الحقيقة — صاحبَ الضجة الصاخبة في شوارع المدينة؟ ومَن الذي صنع أولئك «الأفراد» النوابغ، إذا لم يكن كلٌّ منهم صنيعةَ أمته؟ لكني لم ألبث إلا قليلًا، بعد أن طرحتُ على نفسي تلك الأسئلة — وكنت لم أزل في سرحتي الغافية — حتى وجدت الإجابة، وما دمتُ قد اتكأت على تشبيهاتٍ أوضِّح بها المعاني، فلْألجأ إلى الوسيلة ذاتها في توضيح الإجابة، فالأمر في العلاقة بين جمهور الناس ومَن يعلو منهم برأسه ليجاوز حدودهم، فينخرط في زمرة العمالقة على المستوى «الإنساني» العام الذي لا يعرف الفواصل بين جمهور معين من الناس وجمهور آخر، أقول إن الأمر في العلاقة بين جمهورٍ ومَن ينبغ من أفراده، هو كالأمر في العلاقة بين المحيط وموجِه العاتي، فلتصمد الموجة الجبارة حتى تبلغ أن تكون كرواسي الجبال، لكنها ستظل ماء من ماء المحيط، وإلا فمن أين جاءت بكل ما يقيمها من مقومات، إذا لم تكن قد انبثقت من المحيط جزءًا منه، وإن العبقري في جبروته من علمٍ أو فنٍّ أو أدبٍ أو ما شئت، لتراه في ساعات هدوئه وسكوته، يحيَا على مستوًى واحدٍ مع سائر الأفراد، كأن لا فرق بينه وبين أيِّ فردٍ آخر، ولكَمْ قرأنا وسمعنا عن زائرٍ غريبٍ يزور موطن نابغة من هؤلاء النوابغ، فيدهش كل الدهشة أن يراه واحدًا من الناس، يمشي على الأرض، ويسكن البيت، ويأكل الطعام! نعم إن العبقريَّ واحدٌ من أفراد الجمهور في أمته يُكابد ما يكابده الآخرون، وينعم بما ينعم به الآخرون، لكنه في الوقت نفسه — دون الآخرين — قد أراد له ربُّه سبحانه وتعالى، بما ألهمه من مواهبَ وقدراتٍ؛ أن يصبح في أمته عقلها وقلبها ولسانها.
وبرغم تميز العبقري عن سائر مواطنيه، فهو ما يزال واحدًا منهم، يتلقَّى ما يتلقاه الآخرون من مؤثرات، لكن الذي يختلف بعدئذٍ بينه وبين الآخرين هو طريقة الاستجابة لتلك المؤثرات، ولا تقتصر هذه المقارنة على دنيا التعبير في عالم الفن والأدب، بل إنها مقارنةٌ نراها قائمة في مجال العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، وذلك أمرٌ يدعو إلى العجب، لكنه حقيقةٌ واقعة، فكأنما صدور الناس في العصر الواحد، وبسبب الظروف المعينة، تختلج بإرهاصاتٍ من نوعٍ معين، تتطلب ما يعينها على أن تُولد كيانًا مجسدًا في عالم الوجود، فما هو إلا أن يتحقق ذلك على يدي عبقري موهوب بقدرةٍ تُعينه على أداء ما هو مطلوب أداؤه، وإذا لم يكن هذا هكذا فكيف تفسر الحالات الكثيرة، التي يحدث فيها أن يتوارد الخاطر الواحد في العصر الواحد على أحد العلماء النوابغ في بلدٍ ما، وعلى عالمٍ نابغٍ آخر في بلدٍ آخر؟ ففي العصر الواحد، وفي الأمة الواحدة، تحدث أحداثٌ يكون لها وقْعها في نفوس الناس جميعًا، موهوبًا وغير موهوبٍ، فيدبُّ فيهم قلقٌ يريد ألا يستريح إلا إذا وجد مخرجًا من مأزقه، لا فرق في ذلك بين الحياة العلمية، والحياة السياسية والحياة الاجتماعية، فيكاد يكون محتومًا عندئذٍ، أن يخرج من الجمهور المأزوم مَن يقدم له الحل الذي يريد؛ ولذلك كان أغلب الظن عند هذا الكاتب، أن بين جمهور معينٍ ونوابغه، موقفًا استدلاليًّا متبادلًا، وأعني أن مَن عرف ما كانت تضطرب به صدور الناس في فترةٍ معينة، استدلَّ نوع المواهب القادرة التي لمع بها أصحابها من أفراد، والعكس صحيحٌ أيضًا، وهو أنه إذا عرف باحثٌ مَن هم النوابغ في أمةٍ معينة إبَّان عصرٍ معين، استطاع أن يستدلَّ منهم آمال تلك الأمة وآلامها وهمومها واهتماماتها في ذلك العصر.
لقد أُتيح لهذا الكاتب أن يزور متاحف الفن في كثيرٍ من بلاد العالم، وكانت عادته في تلك الزيارات أن يُمهل الخُطَى وأن يُطيلَ النظر، ولما كان الأغلب في تنظيم تلك المتاحف، أن تتسلسل عصور التاريخ مع تسلسل الغرف، بمعنى أن تكون مع فنِّ القرن الخامس عشر في هذه الغرفة، ومع فنِّ القرن السادس عشر في الغرفة التي تليها، وهكذا، أو أن تكون هنا مع فنِّ مصر القديمة، وهناك مع فنِّ اليونان أو الرومان، فقد كانت العادة عند هذا الكاتب، أن يحاول الوقوع على فارقٍ جوهري يلحظه بين عصرٍ وعصر في تاريخ الأمة الواحدة، أو بين أمةٍ وأمة، مقيمًا استدلالاته على ملامحَ مميزة هنا أو هناك، مما يدل على أن لكل عصر مناخه العام، ولكل أمةٍ طابعها المتميز، فإذا صح هذا حقَّ لنا السؤال: ما الذي أدى إلى هذا التجانس بين مختلف المواهب، في الأمة الواحدة، أو في العصر الواحد؟ وأمكن الجواب عن هذا السؤال، ألا وهو أن وحدانية الأمة الواحدة، ووحدانية العصر الواحد، مبعثهما مما زخرت به قلوب الناس في زمانهم، من مشاعرَ ومن خواطرَ استجابوا بها لمؤثرات حياتهم، وهكذا تجيء الصلة الحميمة بين جمهور الناس ومَن ينبعث من عمالقة المواهب في بنيه.
انظر — مثلًا — إلى الفن التشكيلي في عصرنا هذا في مختلف اتجاهاته وتياراته: التجريدي، والتكعيبي والسريالي إلخ، ألا تشعر أمام هذا التنوع العجيب بسؤالٍ يتردد في نفسك: لماذا؟ وهل يمكن أن يكون لهذا السؤال من جوابٍ إلا وهو منتزعٌ من روح العصر، فقد يكون العنصر المشترك في هذه المنوعات كلها، هو هروب إنسان العصر من واقعه الأليم بالقياس إلى نفسه من باطن، حتى ولو كان نافعًا ودافعًا إلى القوة والسيطرة والتقدم، بالقياس إلى صور الحياة العملية من ظاهر، فها هنا خرج الفنان ليحقق بموهبته شيئًا كان كل إنسان من عامة الناس يتمنى أن يحققَه لنفسه، وهو أن يجد مهربًا من الحياة في صورتها الواقعية، إن الفنان الحديث يتمرد على «الواقع» ليخلق لنفسه على اللوحة واقعًا آخر يرتضيه، إذا أعجبك أيها المشاهد، فعِش معه فيه، وإن لم يعجبك فاترك الفنان في دنياه، وارحل أنت عنه «إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم»، وماذا يصنع الفنان السريالي — مثلًا — سوى أنه يرسم على لوحته «حلمًا» من نوع ما يراه كلُّ حالم في نعاسه، كما هي الحال في فنِّ «سلفادور دالي»، إن ما يفعله الفنان السريالي هو نفسه الذي فعلته فطرة الإنسان لتخفف عنه عناء صحوه بأحلام نومه، وعسيرٌ على كاتب هذه السطور أن يذكر حياة الإنسان بين صحوه ونومه، دون أن تستعيد له ذاكرته نعمة الله عليه، من قدرةٍ على أن مجيء صور أحلامه في لوحاته متسقة ناصعة، حتى ليجوز أن يختلط عليه الأمر، في كثيرٍ جدًّا من الحالات، أيكون مشهد معين بأحداثه، مما وقع له بالفعل في الحياة الصاحية، أم هو — يا ترى — ورد له في رؤياه؟ (أرجو من القارئ أن يفرق بين «رؤية» و«رؤيا»؛ فالأولى لرؤية العين، والرؤيا للحلم.)
وعند هذا الحديث مع نفسي، وعلى ذكر الفن السريالي والأحلام، دخلت من غفوتي السارحة، في منعطفٍ جديد، إذ رأيتني مع جماعةٍ من أقطاب حياتنا الثقافية فيما يشبه الحلم، أو ما يشبه لوحة من الفن السريالي، بمعنى أنني رأيت هؤلاء الأقطاب على أشكالٍ ترمز إلى حقائقهم، أكثر منها صورًا فوتوغرافية لقسمات وجوههم، مما جعلني أنظر إلى اللوحة محاولًا فكَّ رموزها، تمامًا كما أحاول إزاء حلم رأيته ثم صحوت لأشغل نفسي بما عسى أن يكون تأويلًا له، مؤسسًا على حقائق حياتي في عالم الواقع، فكيف تسلسلت معي الرُّؤَى في ذلك الحلم العجيب؟
كنت أصعد في مصعد إلى طابقٍ علويٍّ من عمارة شاهقة، قاصدًا إلى زيارة طبيب؛ إذ فوجئت في أذني بطنينٍ مزعجٍ، ينقلب آنًا بعد آنٍ إلى صفير، بدأت رحلتي في الصعود وحيدًا، أو هكذا ظننت، لكن فجأة وجدت معي صديقًا قديمًا، توفي من زمنٍ ليس بقصيرٍ، إلا أن هذه الحقيقة عنه لم تكن هي حقيقته عندي في الحلم، ومع ذلك فقد كنت أعلم أنني لم أرَه منذ فترة أطول مما ألفناه معًا في صداقتنا، فلما فوجئت بوجوده في المصعد، أخذتْني دهشةٌ متعددة الجوانب، ورحبت به معاتبًا بأنه ذهب عني كل تلك الأشهر التي لم أره خلالها، وأما جوانب دهشتي لرؤيته، فهي أنه كان يرتدي جلبابًا أبيض، وعهدته ممن يلبسون البدلة، ثم رأيته وقد أخرج من جيبه غليونًا وضعه بين شفتَيه وهمَّ بإشعال التبغ في وعائه، ولم أكن قد رأيته قط يدخن الغليون، أو ربما فعل ونحن في سن المراهقة ثم أقلع، لم يكن قد أكمل إشعال التبغ حين وصل المصعد إلى غايته.
كان الظن أننا سنخرج من مصعدنا لنجد عيادة الطبيب الذي قصدت إلى زيارته ولم أكن قد عرفت من صديقي إلى أين مقصده، لكننا خرجنا لنجد أمامنا بوابةً واسعة، كُتب عليها بأحرف مضيئة بأنابيب «النيون»: وكالة البلح. فوقفت وقفةً مفاجئة وسألت مأخوذًا بما أرى مما لم أكن أريده ولا أتوقعه: وما هذا؟ أين نحن؟ فأجاب صديقي: إنها «وكالة البلح» ماذا أردت لها أن تكون؟ قال ذلك صديقي في نغمةٍ جادة ووجهٍ عابس، وتلك علامة أخرى فيه عندئذٍ مما أدهشني، ولم أكن عَهِدتها سمةً من سماته؛ إذ هو — كما عرفته — ضاحكٌ ساخر، إني كما كنت في الحلم لم أكن قد سمعت بشيءٍ اسمه «وكالة البلح»، فلما رأيت العبارة مكتوبةً ووجدت صديقي على علمٍ بها، بل لعله كان يقصد إليها، سألته: وماذا عسانا واجدين هنا؟ قال — وكنا ما زلنا واقفين أمام الباب الكبير المغلق — إن «وكالة البلح» مؤسسةٌ تجارية قديمة، فيها كل ما ترغب في شرائه، تعرض الجديد والمستعمل، فيها كل أنواع الثياب، والأجزاء النادرة من العدد والآلات وفيها أحذية وقبعات وطرابيش، فيها أقدم صنوف الأزياء والأوعية والقدور والقلل، وأحدث صنوف الثلاجات وأجهزة الطهو والغسل، إنها تعرض المسروق والمستورد والناتج المحلي، ولا أُطيل عليك؛ ففي هذه السوق العجيبة كل ما تشتهي الأنفس والأبدان وما لا تشتهي.
كان صديقي قد أشعل التبغ في غليونه، ووضعه بين أضراسه وتركه يُرسل دخانه حلقات حلزونية في الهواء، ولم تستطع عيني أن تتابع ما فعلتْه أصابعه في الباب، ولعله ضغط على زرٍ هناك، فانفتح الباب الكبير عن بهوٍ فسيح، فيه ما بدا للعين في اللمحة الأولى أنه جماعات من أطفالٍ وغلمان وقفوا، وتحركوا وانبعث زياطهم على نحوٍ يتركك تنظر ذاهلًا، لا تدري ماذا أنت واجدٌ هناك: ولقد ظننت أنني وحدي كنت الذاهل لغرابة المكان ومن فيه، ونظرت إلى صديقي مع حركةٍ من يدي، وكأنما أردت أن أنبئه بأني تهيأت للدخول، فإذا بي أجد صديقي شاردَ العينين، وكأنه تائهٌ في فلاةٍ لا يعرف لها شمالًا من جنوبٍ، ثم سمعته يهمس قائلًا: ما هذا الذي أرى؟ هل أخطأنا طريقنا؟ لكن اللافتة رأيتها على الباب، وانفتح لنا الباب كما أردنا له، فوا عجبي مما أرى: ومع ذلك فهيا إلى الدخول لعل سرًّا ينكشف عنه الغطاء، لم تكن جماعات الأطفال والغلمان التي رأيناها من خارج الباب تتجمع وتتفرق هي التي ينتسب إليها المكان؛ إذ يبدو أنها جماعات جاءت لاهيةً لتتفرج على المشاهد المعروضة، وما نحن إلا وقد أمسكنا الخيط في أيدينا، وأعني أننا عرفنا طريقنا، فمن أين نبدأ، وكيف نسير، فالعارضون يعرضون أنفسهم وأفعالهم، في صمتٍ لا يخلو من إشاعة الرهبة في نفوس المشاهدين.
كان المشهد الأول قوامه شخصان وقفَا ظهرًا لظهرٍ، كلٌّ منهما أمسك بسوطٍ طويل، وأمام أحدهما قطة سوداء مقيدة أرجلها، وأمام الآخر قطة بيضاء مشدودة في عنقها بحبلٍ رفيع، وقد ارتديَا ملابس غريبة فأحد الرجلين تلفع بأرديةٍ عربية لم يُحسن حبكها على جسده، فكانت مع حركة ذراعَيه العنيفة، تميل إلى السقوط فيُسرع إلى إعادتها، وأما الثاني فكان يلبس سترةً وسراويل، لكنها أوسع جدًّا من حجمه، فكانت تُثير الضحك لولا أن جهامة الرجل كانت تنشر الرعب فلا يجرؤ متفرجٌ على ابتسامة، ودع عنك أن يضحك بصوتٍ مسموع، ولم يكن يفعل هذان العارضان شيئًا أكثر من أن يُلهب أولهما بسوطٍ القطة السوداء، وبأن يصنع الثاني الصنيعَ نفسه مع القطة البيضاء، والقطتان تموءان بأصواتٍ مخيفة وكأنهما تحولتَا إلى عفريتَين من الجن، ترى ما هذا الذي يفعلانه؟ لا صديقي القديم ولا أنا استطاع أن يفهم معنى الذي يراه، إلا أن الأمر الواضح في الرجلين معًا هو ذلك الغلُّ الذي يملأ قلبَيهما إذ هما يهويان، كلٌّ منهما بسوطه اللاهب على قطته، مما يدل على أن كلًّا منهما قد وجد العداء المرَّ في فريسته، ورأى لا منجاة له إلا بقتل عدوه، وعندما أخذنا صديقي وأنا نتحرك إلى مشهدٍ آخر، رمى إلينا القدر بمَن يهمس لنا قائلًا: أرأيتما كيف جعل أحدهما من الغرب عدوًّا، وجعل الآخر من العرب عدوًّا، فطفق كلٌّ منهما يفتك بعدوه في غيظٍ مسمومٍ وجهالةٍ عمياء، فما زادنا الهامس بهمسته تلك إلا حيرة على حيرةٍ.
وانتقلنا إلى المشهد الثاني، وقد ذكَّرني بخطباء الأحد في حديقة «هايد بارك» في لندن، حيث يقيم كلُّ خطيبٍ منبره، ويُلقي خطابه بأعلى صوت يستطيعه، سواء أكان أمامه سامعٌ أم لم يكن؛ ففي المشهد الثاني وجدنا رجلَين، كلٌّ منهما على منبره، وقد نُصب المنبران ظهرًا لظهر، لكن ما أشد ما كان بينهما من اختلاف؛ فأحدهما يخاطب جمهورًا ضخمًا تجمَّع أمامه ليستمع، وأما الآخر فلم يكن أمامه إلا سامع واحد. واقتربنا فأدركنا العلة، فأولهما يقول لجمهوره ما يحب ذلك الجمهور أن يسمعه، دون أن يعرف المتكلم أو السامع كيف يمكن أن تتغير صورة الحياة بما يقال ويسمع، فالذي يقوله القائل يعرفه السامع قبل أن يسمعه، فلا المتكلم تغيرت حياته بما قال، ولا السامع ستتغير حياته بما يسمع، وأما الخطيب الثاني فهو يخطب بلغةٍ غير لغتنا، وفي موضوعٍ لا يؤرق أحدًا منا؛ ولذلك فقد استحق عقابه، وذهبت كلماتُه أدراجَ الرياح.
وانتقلنا إلى المشهد الثالث، فرأينا منظرًا مثيرًا حقًّا، وداعيًا إلى تساؤلٍ: إذ رأينا صندوقًا زجاجيًّا مستطيلًا، طول ضلعه الأكبر نحو ثلاثة أمتار وطول ضلعه الأصغر نحو متر ونصف المتر، وأما عمقه فيبلغ نصف المتر على وجه التقريب، والصندوق مركَّب على قائمةٍ خشبيةٍ مسدودة الجوانب، وفي أحد جانبَيه الأصغرين ثقبان مستديران، وفي الجانب الصغير المقابل بابٌ صغير، ينفتح وينغلق بلوحةٍ زجاجية تنزلق في اتجاهٍ جانبيٍّ، وقفنا عند هذا الصندوق ولم يكن بداخله شيءٌ، لكن لم تمضِ دقيقتان حتى جاء الحارس بأرنبين صغيرين، فتح لهما الباب وأدخلهما ثم أغلق دونهما الباب: وأخذ الأرنبان يقطعان الصندوق طولًا وعرضًا وثبًا سريعًا وكأنهما يتسابقان، إلى هنا والمنظر لافت للأنظار لكنه غير مفهومٍ، وفجأة أطلَّت من الثقبين المستديرين عينان حمراوان تثيران الرعب، ولا بد أن تكونا عينَي حيوانٍ داخل القائمة الخشبية المغلقة، على أنهما ما كادتا تظهران وتسلِّطان النظر على الأرنبين حتى تجمَّد الأرنبان كلٌّ في موضعه — وكأنما هما مقدودان من حجر.
أحسست بالقشعريرة تسري في بدني، ونظرت إلى صديقي لأجده على جهامته وعبوسه، وكأن لا شيء مما نراه قد اهتزت له شعرة في بدنه، وقد ذكرت لك أن عهدي بصديقي ذاك الذي لم أكن قد رأيته منذ سنوات، أنه ضاحكٌ دائمًا ساخرٌ دائمًا، قلت له إني لم أَعُد راغبًا في رؤية شيء من هذا المعرض السخيف، وبينما نحن في طريقنا إلى الخروج، وقعتْ عيني على غرائب، فهنالك تيجان معلقة في الهواء بلا ملوك، وبجوارهما ملوك على عروشهم ولكن بغير تيجان، وهنالك نافورات تحسبها من بعيد تنفث قطرات الماء في حوضٍ مرمري أقيمت فيه، وتقترب فإذا هي أقلامٌ تنفث نثارًا من كلماتٍ على ورقٍ أبيض، وهكذا.
قلت لصديقي: لم أفهم شيئًا من هذا الخليط العجيب.
فقال: كنت بادئ الأمر في مثل حيرتك، عندما توقعت أن أدخل «وكالة البلح» كما عرفتها، وإذا الذي أراه هو هذه المشاهد، لكني حين أدركت أنها هي وكالة البلح، إلا إنها استبدلت بضاعةً ببضاعة، فبضاعتها اليوم هي ذلك الشيء الذي يسمونه «ثقافة».
قلت في دهشةٍ صارخة: ثقافة! وأين الثقافة في عينين ساحرتين وأرنبين مسحورين؟
قال الأمر واضحٌ، أما العينان فهما الرأي العام يرقب، وأما الأرنبان فهما رجال الثقافة جمدت أوصالهم برقابة الرأي العام!
هنا تنبهت من غفوتي السارحة، فوجدت القلم لم يزل بين أصابعي — والورق أمامي — فسألت نفسي: ماذا أكتب بعد تلك المساخر التي رأيتها، فأجابت النفس قائلة: اكتب عن تلك المساخر التي رأيتها.