وثبة جبارة
نزل نيل أرمسترونج ذات يوم من صيف ١٩٦٩م على تراب القمر لأول مرة في تاريخ البشر، وقد تكون هي أول مرة كذلك في تاريخ الكون، تحرك فيها كائنٌ حيٌّ على ذلك الكوكب، فلما أن خطَا أرمسترونج خطوته الأولى هناك قال كلمته التي لا شك في أن تكون قد وجدت طريقها — فور النطق بها — إلى سجل الخلود؛ إذ قال: «هذه خطوةٌ واحدة يخطوها إنسانٌ لكنها للإنسانية وثبةٌ جبارة.» ولقد سمعه سكان الأرض وهو يقولها، فلقد كان ملايينهم يشاهدون الشاشات الصغيرة في منازلهم — أو حيثما كانوا — وكان هذا الكاتب واحدًا من هؤلاء الملايين الذين شدَّت أبصارهم إلى صورة الرجل على شاشة التلفاز ينزل على درجات سلَّمٍ قصير من حيث كان، ليقف بقدمَيه على تراب القمر، ولقد بدَا في ملابسه المنتفخة من عالم الأحلام، ثم سمعناه وهو يقول عبارته تلك في صوتٍ تهدج بزهوٍ خلطته رهبةٌ وخشوع.
ومَن ذا الذي وهبه الله شيئًا من بصيرة تخترق الأحداث إلى مدلولاتها، ثم لم يستطع أن يُدركَ الشبه الشديد بين لحظتين: لحظة أن غامر كرستوفر كولمبس بسفينته، فشقَّ «بحر الظلمات» (المحيط الأطلنطي)، فكان عند كل موجة من جبال الموج الذي أخذ يشيل السفينة ويحطُّها، كأنها لعبةٌ من ورق بعث بها شيطانٌ مجنون، لا يدري ماذا هو واجد عند الموجة التي تليها، ولحظة أن انتهى العدُّ التنازلي للصاروخ الواقف في تحفُّزٍ للوثوب، وإذا هو ينطلق انطلاقة المارد مخترقًا أطباق السماء، وهو مصحوبٌ بذيلٍ من نارٍ؟ نعم مَن ذا الذي لم يربط بخياله اللحظة التاريخية الأولى، عندما غامر كولمبس في مجاهل البحر، باللحظة التاريخية الثانية عندما انقذف أرمسترونج بصاروخه في مجاهل السماء؟ فلقد كانت اللحظة الأولى بداية لثورةٍ حضارية، لا نظن أن كولمبس توقَّع من حقيقتها جزءًا من ألف جزءٍ، فدون أن يقصد ودون أن يدري وقع على قارةٍ جديدة، أو قُل — إن شئت — قارتَين، ودون أن يقصد ودون أن يدري، شاء الله سبحانه وتعالى أن تلوذ فئةٌ من أهل الدنيا القديمة بتلك الدنيا الجديدة، ثم توالت بعد الفئة الواحدة الصغيرة فئاتٌ كثيرة، حتى نشأت في الدنيا الجديدة أمةٌ — أو أمم — فلم يطوِ التاريخ من سجله الضخم صفحة أو صفحتين، حتى بذرت بذور حضارةٍ جديدة تقوم على علمٍ جديد — علم جديد — اقرأ هذه العبارة الموجزة، أرجوك، مائة مرة قبل أن تستأنف القراءة.
فتاريخ العلم قد طال ما طال التاريخ البشري؛ إذ ماذا يكون «العلم» بمعناه المطلق، إلا أن يكون معرفة حصَّلها الإنسان عما حوله، بحيث استطاع أن يصوغها في عباراتٍ تحمل أحكامًا عامة، هي التي تسمَّى بالقوانين العلمية عندما هُذِّبت وبلغت درجة معينة من الدقة والصواب؟! لكن العلم — مع ذلك — أخذت صورته وموضوعه يتغيران مع تعاقب العصور، فإذا زعمنا لك الآن أنه في الدنيا الجديدة وُلد «علمٌ جديد» لم يلبث أن أُقيمت عليه حضارة جديدة، فنحن نعني ما نقوله، فعلم المائة والخمسين عامًا الأخيرة لا يُشبهه علمٌ سبقَه في عصرٍ سابق، وكانت نقطة الاختلاف الأساسية هي العناية الشديدة بابتكار «أجهزة»، تساعد الباحث على مزيدٍ من دقة النتائج، وكان استخدام الأجهزة في البحث العلمي قبل ذلك منحصرًا في حيزٍ ضئيلٍ لا يكاد يستحق الذكر، فلما أصبح هو الأساس الواسع العميق المتنوع، أطلق على ذلك المنهج الجديد اسم «التكنولوجيا» «ومعناها العلم بوساطة الأجهزة»، ثم جاء الاستعمال الشعبي بعد ذلك ليُطلق هذا الاسم نفسَه على الناتج الصناعي، الذي يُنتج بفضل منهج الأجهزة، والذي يهمُّنا الآن من هذا كلِّه هو أننا أصبحنا أمام علمٍ جديد، أدَّى بالناس إلى الإنتاج السريع المتلاحق لأجهزة وآلاتٍ تصنع الأعاجيب، التي لم يكن في مستطاع الأحلام فيما مضى أن تجعلها موضوعًا لشطح الأوهام!
تلك — إذن — كانت اللحظة الأولى وما تولَّد عنها وأعني لحظة إبحار كولمبس نحو عالمٍ جديد، وما تولَّد عن ذلك من علمٍ جديد وحضارةٍ جديدة، وسرعان ما أصبح العلم الجديد هو العصر في شرقيِّ الأرض وغربيِّها، وأصبحت الحضارة المترتبة عليه هي حضارة أهل الكوكب الأرضي كلِّه، ولكن بدرجاتٍ تتفاوت في الشعوب ما تفاوتت علمًا وارتقاء، فمَن إذن الذي لا يرتجُّ فؤاده أمام اللحظة الثانية، لحظة أرمسترونج وهو يخطو بقدمَيه فوق تراب القمر وصخوره، ليسأل: ماذا — يا ترى — قد كُتب للإنسان في تلك اللحظة من علمٍ أجدَّ من الجديد ومن حضارةٍ أخرى غير الحضارة القائمة؟
هكذا يقف سكان الأرض على عتبة مجهولٍ عظيم، نستطيع أن نطير في أجوائه بجناح الخيال، مهتدين بقبسٍ نستضيء به مما ولدتْه لحظةٌ تاريخية جريئة، رأيناها وعشناها علمًا جديدًا وحضارة جديدة، فقُل لي بالله إذا كان هذا هو الموقف الإنساني الراهن وحقيقته، فبماذا تنصح والدًا يريد أن يربيَ ولده لزمانٍ لن يكون كزمان والده؟ لا علمًا ولا حضارة؟ أتنصحه بأن يلويَ عنق ولده لتتجه عيناه إلى ورائه، أم تنصحه بأن يشحذ بصره وبصيرته إلى أمامه تحسبًا للمصير؟ أم تُوصيه بأن ينظر خلفه بالقدر الذي يُسدد خُطاه في سيرها نحو المستقبل الموعود؟ أما هذا الكاتب فيرى في الأولى انتحارًا وفي الثانية انبهارًا وفي الثالثة منطق الحكماء.
إن من الحقائق العلمية التي تلفت النظر، أن الجسم المعين، ولنَقُل مثلًا جسم كوكب المريخ، تتغير كتلتُه بين مَن هو مقيمٌ عليه، وبين مَن ينظر إليه من مكان آخر، كأن ينظر إليه إنسانٌ يعيش على هذه الأرض، فإذا كنت قد فهمت هذه الحقيقة العلمية فهمًا صحيحًا، فإن أيَّ جسمٍ متحرك تتغير كتلتُه بازدياد سرعة حركته، فكلما زادت السرعة زادت كتلة الجسم المتحرك، فأنت إذا سألت — على هذا الأساس — كم تكون كتلة الجسم الفلاني؟ قيل لك إن كتلته مقدارها كذا وكذا بالنسبة إلى إنسانٍ يصاحبه في حركته، وأما بالنسبة إلى إنسانٍ آخر يرقبه من مكانٍ بعيد، فإن كتلته لا تثبت على مقدارٍ معين، بل هي تزيد بزيادة سرعته، وتقلُّ ببطء سرعته، وكذلك الحال بالنسبة لطول فترةٍ معينة من الزمن، فهي بدورها تزيد أو تقل بزيادة السرعة أو بطئها، فإذا وضعتَ ساعتَين مضبوطتَين في مكانَين مختلفَين، أحدهما سريع الحركة والآخر بطيئها، اختلفت الساعتان في طول الزمن الذي سجلتاه، على أن حامل كلٍّ من الساعتين؛ لأنه يصاحب ساعته في سرعة المكان الذي يحلَّان فيه، فإن ساعته تظل في حسابه على ضبطها، وعلى ضوء هذه الأمثلة، تصوَّر إنسانًا أغرق نفسَه إغراقًا في مكتبة، كلُّ ما فيها كتبٌ كتبها أصحابها في زمنٍ مضى منذ عهد بعيد، وقارن نظرته هو إلى ما يعلمه عن الدنيا، بناء على ما ورد عنها في تلك الكتب بنظرة إنسان آخر، في مكانٍ مكشوف، يتعامل فيه مع دنيا الأشياء تعاملًا مباشرًا، إن صاحبنا الملازم لمكتبته القديمة قد تتغير من حوله الدنيا، وهو لم يتغير منه شيء فيما يعرفه عنها، بخلاف الثاني الذي تتاح له فرصة التغير بعلمه عن الأشياء، كلما كُشف جديد عن حقائق تلك الأشياء، فالكتب القديمة — مثلًا — تذكر عن نهر النيل أنه ينبع من الجنة، فلولا أن قيَّض الله للحقيقة الخارجية رجالًا بحثوا عن منابع النيل كما هي واقعةٌ في عالم الأشياء، لما عرفنا من أين يجيئنا الماء الذي نشربه ونروي به الزرع، فالرجلان المذكوران: مَن أنفق حياته داخل مكتبته القديمة العهد، ومن عاش في الفضاء المكشوف يقرأ العالم في ظواهره، سيختلفان حتمًا في نظرتَيْهما، اختلاف كتلة الجسم، وطول الزمن، باختلاف سرعة المكان الذي حلَّ فيه الجسم، أو حلَّت فيه آلة قياس الزمن، إلا أن المصاحب للجسم أو لآلة قياس الزمن، لن يُدرك أبدًا أن شيئًا تغيَّر، وأما الذي يدرك التغير، فهو مَن وقف يرقب من بعيد.
إننا في حالاتٍ كثيرة لا نعرف هل نحن في حالة حركة أو في حالة سكون، إلا إذا نظرنا إلى شيءٍ خارج المكان الذي نحن فيه، نفترض فيه الثبات فنقارن أنفسنا به لنعلم أنحن على حركةٍ أم نحن في ثبات، فمثلًا قد يتحرك بك القطار في بطءٍ شديد أول قيامه من محطة القيام، فلا تدرك أنك قد تحركت مع حركة القطار، إلا بعد النظر إلى المباني الثابتة خارج القطار، وهل تستطيع أن تشعر بحركة الأرض التي نحن سكانها؟ إنها تتحرك حركتين في وقتٍ واحد، ونحن معها نتحرك هاتين الحركتين، فحركة حول نفسها، وحركة أخرى تسير بها على فلكها دائرة حول الشمس، وأما الحركة الأولى فتتم مرة كل يوم، أما الحركة الثانية فتتم مرةً كل عام، ولا نشعر نحن بأيٍّ من هاتين الحركتين، لكننا ندركهما استدلالًا، فمن تعاقب الليل والنهار نستدل أن الأرض — ونحن معها — تدور حول نفسها، ومن تعاقب الفصول: شتاءً وربيعًا وصيفًا وخريفًا، نستدل أنها تدور — ونحن معها — حول الشمس مرةً في العام، وعلى هذا الغرار نفسه نقول إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم على حياته، من حيث المعرفة والجهل، ومن حيث القوة والضعف، وبالتالي من حيث التقدم والتخلف، إلا إذا أجرى مقارنةً بينه وبين إنسانٍ آخر، وكذلك الشعب المعين بالنسبة إلى الشعوب الأخرى، وكذلك العصر المعين بالنسبة إلى عصورٍ أخرى سبقتْه أو لحقتْ به.
إننا لا نقول بهذا كله شيئًا جديدًا لم يكن القارئ ليعرفه إلا إذا طالع هذا الحديث، فربما قال قائلٌ موجهًا قولَه إلى هذا الكاتب: إنه لم تكن بك حاجةٌ إلى هذا اللف كلِّه والدوران كله حول موضوعٍ لا يجهله أحد، لم تكن بك حاجة إلى ذكر ما ذكرته عن نسبية الكتلة في أيِّ جسمٍ متحرك بسرعةٍ هائلة؛ إذ تتغير الكتلة بتغيُّر السرعة، تغيُّرًا لا يُدركه إلا مشاهدٌ من كوكبٍ بعيد، وما شاكل ذلك مما يُقال كلما ذكرت لمحة من نظرية النسبية، نعم، لم تكن بك حاجة إلى هذا الشطح البعيد، لتؤكد لنا أن الإنسان لا يعلم عن نفسه حقيقتها إلا بالقياس إلى سواها. لكن ماذا يصنع كاتبٌ أمام قارئٍ يُغمض عينه حتى لا تشهد ما يقع أمامها، خوفًا من أن تأتيَه شهادة العين بما يكذِّب أوهامًا في رأسه؟ فعصرنا واقفٌ على عتبة الوثوب بوثبةٍ جبارة يخترق بها أجواز السماء، فإذا كانت رحلة كولمبس عبر محيطٍ مجهول، إلى قارةٍ مجهولة، قد أعقبت نتائج لم تكن تخطر لأحدٍ على بال؛ إذ بدأت هجرة المهاجرين إليها، ومن المهاجرين نشأت أممٌ جديدة، ومن الأمم الجديدة نشأت وجهة نظر جديدة، فعلمٌ جديد، فحضارة جديدة فرضت نفسها على الدنيا فرضًا، فماذا عسى أن تكون النتائج التي سوف تعقب عبور الإنسان حواجز الكون المجهول؟ إنه لا يعلم ذلك اليوم إلا علَّام الغيوب. ويحدث كلُّ ذلك أمامنا ووراءنا، وعن يميننا وشمالنا، ومع ذلك يظل الصوت المسموع فينا، هو الصوت الذي حفظ أسطرًا، أو صفحات، أو فصولًا، من كتب تعكس على صفحاتها فكرًا قديمًا، استمدَّه أصحابه من واقع حياتهم، ثم لا يملك هؤلاء الحفاظ من علمٍ يعرضونه على الناس بذلك الصوت المسموع، سوى أن يعيدوا على آذانهم ما كانوا حفظوه، وبهذه المحفوظات المكرورات، نُمسي مع كل مساءٍ، ونُصبح مع كل صباح.
أقول هذا وأنا من أشدِّ الدعاة حماسة لإحياء الماضي الثقافي، على أن نكون على وعيٍ رشيدٍ بالدور الذي نريد لذلك الماضي المبتعث أن يؤديَه، فبينما أرفض رفضًا لا ترددَ فيه، أن نُعيدَ الماضي الثقافي عن طريق الحفظ الأصم الأعمى، لكي نجعل من أنفسنا تكرارًا له، وكأننا خُلِقنا أذنابًا لا رءوس لها، فإني لا أتجاهل ضرورة أن يكون الماضي مصدرَ وحي للحاضر، فتتواصل بهذا حلقات السلسلة بين ماضٍ وحاضرٍ، وتعالوا ننظر عن كثبٍ إلى ما يحدث فعلًا في جميع الحالات التي تستقيم فيها حياة الناس على نهجٍ سليم، فإذا نحن استثنينا علوم الرياضة وعلوم الطبيعة (وسأعود إليهما بعد حين) وجدنا كل الفروع الأخرى في البناء الثقافي، أو قُل في النهر الثقافي من تاريخ الأمة، تتطور في انسيابٍ سهلٍ من سابقٍ إلى لاحقٍ، بمعنى أن تُثبت الحلقة الحاضرة وجودَها ومميزاتها، لكن ذلك يتمُّ لها في إطارٍ به من العناصر ما يربط تلك الحلقة بالحلقة — أو الحلقات — التي سبقتْها في تاريخ الفرع المعين.
فلقد كان لعرب الجاهلية شعرٌ — وشعر عظيم — ثم جاء عصر الإسلام، بما شهد من مراحل تاريخه، فعصر الراشدين، وعصر بني أمية، فعصر بني العباس … إلخ، فكان لا بد للشعر أن يتغير مذاقه مع التغير في العقيدة، وما نتج عنها من مناخٍ وجداني عام.
إلا أنه لم يكد يظهر في ساحة الشعر نقدٌ ونقاد، حتى أقيمت قواعد الحكم الأدبي على أساس الشعر الجاهلي، لا من حيث المضمون، ولكن من حيث الشكل؛ كالعروض والأغراض الأربعة الأساسية التي يقصد إليها الشاعر، ليضمن أن تجيء حركتُه في إطار من الرصانة التي لا ابتذال فيها، وخذ مَن شئت من شعراء الجاهلية، ومَن شئت من شعراء العصور الإسلامية، خذ — مثلًا — امرأَ القيس والمتنبي، تجد فرقًا واضحًا في المضمون الشعري، لكنك لا تتردد في أن كليهما شاعرٌ عربيٌّ؛ أو خذ من شعراء الحكمة زهيرًا وأبا العلاء، وانظر كم يختلف المذاق والنظر، وفي الوقت نفسه كم يتفق النسب العربي في كلٍّ منهما على سواء. ونقول ما هو أكثر من ذلك في حالة النثر الفني، فبينما العصر الجاهلي كاد يقصر نثرَه الفني على مقطعاتٍ حكمية، تجيء في وقْعها وإيقاعها وكأنها إلهاماتٌ نطق بها عرَّافون في المعابد، ترى النثر الفني فيما بعد ظهور الإسلام، وقد تدفق أنهارًا محملةً بكنوز الفكر والبصيرة النافذة، فإلى جانب النثر العلمي عند الفقهاء وعلماء اللغة، هناك نثر الجاحظ والتوحيدي، متميزًا بقوته لفظًا ومعنًى، وهكذا تستطيع أن تجد نموذجًا حيًّا يصور لك كيف يرتبط الخلف بالسلف في مسلسلٍ واحد، دون أن يتنازل أحدٌ منهما عن طابعه المميز، إن الجاحظ والتوحيدي — مثلًا — بينما اختلف النثر على أيديهما أشد ما يكون الاختلاف عما عرفناه في نثر الجاهلية، فلم يخطر لأحدهما قط أن يجعل ما يميزه عن سلفه خروجًا على اللغة العربية في أصح صحيحها، أو استهتارًا باللفظ العربي يمزج لغة الأدب بلغة العامة في مباذلها.
وانتقل من الأدب شعرًا ونثرًا، إلى مجالٍ آخر كمجال الفقه الإسلامي، فها هنا كذلك نطلب منك أن تتعقب مراحل التاريخ في فقه الفقهاء، فبالطبع أنت واجدٌ بينهم درجات متفاوتة في القدرة، لكنك كذلك ستجد الحلقات التاريخية بينهم موصولة لاحقًا بسابق، بمعنى أنه لا يُعدُّ فقيهًا ذا وزن، مَن يُقبل على عمله الفقهي غاضًّا بصرَه عمن سبقه في مجاله، فهو مطالبٌ بأن يلمَّ بالسابقين إلمامًا كاملًا، ثم يمارس حقَّه الإنساني والعلمي في أن يعدل ويحذف ويضيف، فمَن ذا يُنكر بعد ذلك وجوبَ استرجاع الماضي إلى الحاضر ليتفاعلَا؟ وفي الوقت نفسه، مَن ذا يحرم الحاضر من ممارسة حقه في التفكير؟ ولولا أن الماضي والحاضر موصولان على نحوٍ ما، لما استطاع مؤرخٌ أن يُؤرخ للشعر العربي في تاريخٍ واحد، أو أن يؤرخ للفقه الديني في تاريخٍ واحد.
وهكذا تستطيع الانتقال من فرعٍ إلى فرع من فروع النهر الثقافي في حياة الأمة، لتعلم في وضوحٍ حيٍّ، كيف تكون العلاقة بين ماضٍ وحاضر، وهي صورة تصدق أيضًا على كثيرٍ جدًّا من أوضاع الحياة العملية، من ثيابٍ وطعامٍ ومواسم وتقاليد الضيافة إلخ إلخ مما يخلع على الشعب المعين طابعًا خاصًّا يُميزه.
والأمر يختلف في مجال «العلوم» سواء منها العلوم الرياضية أم العلوم الطبيعية؛ فرجال هذه العلوم لا يُقيمون حاضرهم العلمي على أساس ماضيهم العلمي، كما يفعل الشعراء أو الفقهاء؛ وذلك لأن تلك العلوم لا تقصر نسبها إلى وطنها وشعبها، بل تنتسب إلى «العلم» في ذاته أينما ظهرت نتائجه في أي رجيٍّ من أرجاء الدنيا، فعالم الرياضة منتسبٌ إلى العلم الرياضي في عمومه — لا إلى العلم الرياضي كما ظهر عند أسلافه العرب — وعالم الكيمياء وغير الكيمياء من علوم الطبيعة، إنما ينتمي إلى تاريخ ذلك العلم في عمومه، ولا يقصر نفسه على سلفه من أبناء أمته. لكن هذا الفرق بين تعميمٍ وتخصيص، لا ينفي عن «العلوم» مأخوذة في نسبها إلى الإنسانية كلها، أن يكون لها نهرها التاريخي الذي يجيء حاضره مؤسسًا على ما قد سبقه، مبقيًا على الصواب منه، مصححًا ما قد ثبت فيه الخطأ، فإذا طالبنا علماءَنا بالاطلاع على تاريخ علومهم عند أسلافهم العرب، كانت الغاية المرجوة من ذلك، هي شعور هؤلاء العلماء بالعزة القومية وبالثقة في أنفسهم، من جهة، وفي إيجاد الصلة بينهم وبين أسلافهم في مصطلحاتهم العلمية إلى آخر حدٍّ مستطاع.
وماذا تعني «الهوية» في الفرد الواحد، وفي الشعب الواحد أو الأمة الواحدة، إلا هذا الحبل الموصول من ماضٍ إلى حاضر؟ خذ الفرد الواحد — أولًا — وانظر ماذا يجعل الواحد واحدًا؟ إنك أنت هو أنت، فلان الفلاني، مهما طالت بك السنون، ولكن كيف زعمنا لك هذه الواحدية الممتدة على الأيام مع أنك في كل يومٍ، بل في كل لحظةٍ طائرة، تتميز بشيءٍ ولو طفيفًا، عما كنت عليه في اللحظة السابقة، وعما سوف تكون عليه في اللحظة الآتية؟ ألم تكن ذات يوم وليدًا رضيعًا، فطفلًا يحبو، فطفلًا يمشي على رجلَيه ويتكلم مع الآخرين لغةً مشتركة، فغلامًا، فمراهقًا، فشابًّا، فرجلًا؟ إنها صورٌ متباينةٌ أشد التباين، ومع ذلك تُصرُّ أنت، ويصرُّ معك الناس، على أنك في مرحلة شيخوختك وفي كل مرحلةٍ سبقتْها من مراحل عمرك هو ذلك الوليد الرضيع ابن اليوم الواحد واليومين، فعلى أيِّ أساسٍ نُقيم هذا الحكم؟ إننا نقيمه على أساس «الهوية» الواحدة، والتي تظل واحدةً مهما تغيَّر في جسدك وحالاته، وفي ظروف عيشك وتقلباتها، وجوهر الواحدية التي ننسبها إلى الشخص المعين، كامنٌ في التواصل المستمر بين حاضره وماضيه، لا بمعنى أن الموجود الكائن في هذه اللحظة الحاضرة من حياته، هو هو نفسه بكل حذافيره وتفصيلاته، ما قد كان منه في أمسه القريب، ودعْ عنك أمسه البعيد، بل بمعنى أن كل لحظة حاضرة تأخذ شيئًا مما سبقتها، وتستغني عن شيء، لتُنشئَ بدلَه شيئًا جديدًا، وهكذا تكون الصلة وثيقة دائمًا بين حاضر الوجود وماضيه وما نقوله عن الفرد الواحد، نقول مثله تمامًا على الشعب الواحد والأمة الواحدة.
وإذا كانت هذه الصلة الوثيقة — بالنسبة إلى الأمة العربية — قد كانت قائمة بالفعل في كل حلقةٍ من حلقات تاريخها، فالأمة العربية الآن أحوج إليها اليوم أشد مما كانت في أي عصرٍ سابق من عصور حياتها، ولستُ بذلك أقول إن الأمة العربية كانت دائمًا على سلامٍ ووئامٍ بين أطرافها، لا، فالتنافس والتقاتل لم ينقطع لهما وجودٌ، لكن ذلك شيءٌ وكونها أمةً عربية موصولة حاضرها بماضيها، في سلامها أو في حربها، شيءٌ آخر، وماذا في عصرنا هذا يوجب على الأمة العربية أن تحكم العُرَى بين أقطارها، لتشتدَّ الواحدية في هويتها الواحدة، أكثر مما فعلت في أي عصرٍ مضى؟ إنه هذا العصر العجيب بمتناقضاته الأعجب، فهو عصرٌ قد أقام من مؤسساتٍ ومنظمات يُعلن بها أملَه في الوحدة الدولية، ما لم يحلم به عصرٌ مضى، ومع ذلك فهو هو نفسه العصر الذي تشتعل فيه النزعة الوطنية في كل مجموعة من الناس، ترى بين أفرادها تشابهًا يميزها عن سواها، على صورةٍ لم يشهد لها مثيلًا أيُّ عصر مضى، فحتى لو كانت مجموعة الناس المتجانسة دينًا، أو عرقًا، أو تاريخًا، لا تزيد على بضعة آلاف، فهي اليوم لا تطيق أن تنضويَ مع غيرها تحت لواءٍ وطنيٍّ واحد، وتريد أن تستقلَّ وحدها بسيادةٍ وطنية قائمة برأسها، وهكذا يرى الرائي على مسرح العصر نزعةً تُوحِّد الأمم، ونزعة تُفرِّقها، في نفسٍ واحد.
وفي هذا الإطار الذي يعيش فيه أبناء هذا العصر، وهم حيرى بين رغبة في اعتزال الجماعة المتميزة عن غيرها، من جهة، وخوف من العزلة من جهةٍ أخرى، نرى الآراء عند رجال الفكر شتيتًا بين النزعة الوطنية الضيقة، والنزعة الدولية الواسعة، أقول: إنه في هذا الإطار تتفرق الشعوب بعضها عن بعض، وتتكتل بعضها مع بعضٍ في آنٍ واحد، فتسمع عن حلفَي شمالي الأطلنطي، ووارسو، وتسمع عن منظمات الوحدة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرقي آسيا، وهكذا، وفي هذا المناخ الذي لا تعرف أهو أميل إلى تفكك الشعوب، أم هو أقرب إلى توحدها، تحت مظلةٍ واسعة فيها هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها، وفيها كذلك انقسامٌ خطير في بلاد الغرب ذاتها، بين ما يسمونه شرقًا «الاتحاد السوفيتي وتوابعه» وغربًا «الولايات المتحدة وحلفاؤها» — في هذا المناخ تقوم جامعةٌ عربية لتجمع أقطار الوطن العربي على كلمةٍ واحدة، لكن تلك الأقطار نفسها في حالةٍ من التنافر بعضها إزاء بعض — لا أظن أن الوطن العربي قد شهد لها مثيلًا في تاريخه الماضي، ومن أجل هذا كله، أسلفت لك القول بأن الأمة العربية أحوج في يومها هذا إلى التوحد منها في أي وقتٍ مضى؛ لأن عوامل التفرقة في أرجاء العالم تضرب بفئوسها هنا وهناك، ومن لم يحصِّن نفسه بحصنٍ من فولاذ، لن يلبث أن يجد نفسه قد تناثرت أجزاؤه في الهواء كأنها هباءٌ.
لسنا في عصرٍ كسائر العصور التي شهدها التاريخ من قبل، فبالرغم مما قد شهده فيما مضى من حضاراتٍ، وعلوم، وحروب، فهو لا يُقاس إلى «ذرة» من القوى الكامنة في هذا العصر، ظهر فيها أقلها، وأما أكثرها فقد فُتح له الباب عندما خطَا «أرمسترونج» خطوته التاريخية على تراب القمر وصخوره، ناطقًا بعبارته التي ستضاف بغير شكٍّ إلى أخواتها من كلماتٍ كُتب لها الخلود؛ إذ قال إنها خطوة واحدة يخطوها إنسان، لكنها للإنسانية وثبة جبارة. فأنواع «العلوم» التي انتهت بالإنسان إلى هذه الوثبة، ليست كغيرها من العلوم التي عرفها الإنسان ويعرفها، بل هي علوم «نووية» جبارة فيما تبنيه، جبارة فيما تدمره، عليها يقوم «سلام» قائم على أعاجيب الأجهزة العلمية، التي لو ذُكر عنها للأسبقين جميعًا، جزءٌ من ألف ألف جزء من حقيقتها، لأخذهم الذعر وقالوا: بل إن ذلك من المعجزات، وعليها — كذلك — تقوم «حرب» قد تمحو الحياة من هذا العالم الأرضي محوًا لا يُبقي ولا يذَر.
فهل بقيتْ لنا — نحن أبناء الأمة العربية — حيلةٌ، إلا أن نُعدَّ عُدَّتنا للدخول في هذا العالم الجديد، الذي هو الآن عند عتبة الباب؟ وأول ما نُعدُّه لأنفسنا، هو الإسراع في غير تردُّدٍ إلى تصورٍ جديد، نُثبته في أذهان أبنائنا عن الاستمرارية التاريخية التي يجب أن تربط ماضينا بحاضرنا، كيف تكون؟