وماذا عن عجوز البَر؟
كان الوقت أواخر عام ١٩٥٤م، أو أوائل ١٩٥٥م (لم أَعُد أذكر) عندما أُعلن في الصحف أن «إرنست همنجواي» قد ظفر بجائزة نوبل في الأدب، عن روايته «عجوز البحر» وكنت عندئذٍ ما أزال في بيتي مرتديًا ثيابَ الصباح، وكان ذلك كله في فترةٍ قضيتها في مطارح الغربة عن أرض الوطن، فارتديت من فوري ثيابَ الخروج، وقصدت إلى مكتبة قريبة، واشتريت رواية «عجوز البحر» التي فازت بالجائزة، وعدتُ إلى مسكني لأجعل «عجوز البحر» قراءتي في ذلك اليوم، والرواية صغيرة الحجم، لا ينتهي النهار إلا وقد فرغت من قراءتها، ومضمون الرواية — فيما أظن — معروفٌ للقارئ العربي؛ لأن مَن لم يقرأها، فقد قرأ الإشارات الكثيرة إليها في كتابات النقاد، ومَن لم يقرأ لا هذه ولا تلك، فقد شاهد الفيلم السينمائي الذي أُقيم عليها، والمضمون في إطاره العام أبسط من البساطة؛ لأنه يكاد يدور كله حول رجلٍ واحد، وهو يكافح لإنجاز عملية واحدة، فهو صيادٌ في البحر تقدمت به السن، وأصابه مرض أقعده في كوخه فترةً ربما طالت عليه بعض الشيء فلما استردَّ بعضَ عافيته، وأدرك أنه قد أوشك على نهاية العمر — دون أن يُنجز إنجازًا واحدًا عظيمًا — جمع أطراف قوته وعزيمته، وركب قاربه الصغير الذي لم يكن مفروضًا فيه أن يُبعد عن الشاطئ أكثر من مسافةٍ محدودة، لكن الصياد العجوز هذه المرة، أبى إلَّا أن يُوغلَ بقاربه في المحيط؛ لأن الصيد الكبير لا يكون قرب الشواطئ: لا يعبأ بجبال الموج ترفع قاربه الصغير وتخفضه! وما هو إلا أن وقع له الصيد في الشبكة، فأخذ يجذب الحبال ليُخرج الشبكة بصيدها، لكنه أحسَّ وكأنه يريد بكل قوته أن يُزحزح جبلًا فلا يتزحزح، إنه لم يألف قط في حياته الماضية كلها أن ثقلت على ساعدَيه الشبكة بمثل ما ثقلت به اليوم! فبذل من الجهد المحموم ما بذل، حتى طفت الشبكة على مقربةٍ من سطح الماء، وظهر الصيد الضخم في محاولته العنيفة اليائسة أن يتخلص مما وقع فيه، فهو سمكة أذهلت عجوز البحر بضخامتها! يزيد حجمها على حجم قاربه، فأين يضعها حتى لو تمكن منها … أتقول: «لو تمكن منها»؟ إنك لا تعرف قدر العزيمة التي دبَّت في العجوز من رأسه إلى قدميه! لقد أصبح العجوز كله عزيمة لم يَعُد في كيانه إلا إرادة للفوز: ولكن أين يضع السمكة وهي أكبر من القارب؟ ليس أمامه إلا أن يشدَّها بالحبال إلى جنب القارب من الخارج، وبدأ المحاولة، ونجح بعد أن عرف بدنه كيف يكون الجهد الجهيد الذي يهد رواسخ الصخر! وما إن فرغ من جهاده حتى جاءت أسماك القرش المفترسة تنهش السمكة نهشًا، وبدأت معركة بين العجوز وسمك القرش، يضربه بكل ما لديه من أدوات ليصرفه عن صيده لكن هيهات، إنه كلما طالت بينهما المعركة، تكاثر القرش وازداد شراسةً، وها هو ذا العجوز لا يبقى من أدوات قاربه أداة إلا استخدمها؛ فالمجاديف قد تحطمت، وساريات القلاع والدفة، كلها تحطمت في ضرب أسماك القرش المهاجمة، لكن تلك الأسماك الضروس صمدت ناهشةً لصيد العجوز، واقترب القارب من الشاطئ، وانصرف القرش، وذهبت السمكة الضخمة كلها إلى جوف القرش! ونزل عجوز البحر من قاربه ولم يكن المشدود بالحبال إلى جنب القارب إلا الهيكل العظمي للصيد الذي كان.
ذلك هو مضمون القصة، فليس فيها حبٌّ وغرام، وليس فيها مطاردة لمهربي المخدرات، وليس فيها تاريخٌ سياسي وتظاهرات، لا، ليس فيها شيءٌ مما ألفناه في الروايات، إنما الذي فيها هو رجل واحد وعزيمته! رجلٌ واحد وطموحه نحو الأكبر والأعظم والأضخم والأصعب، رجلٌ واحد يقاتل العدو بما لديه، نجح بعد ذلك أو فشل! وكل الرواية من أولها إلى آخرها، هو تجسيد لتلك الإرادة القوية، كي نراها — نحن قرَّاءها — رؤية العين، ماثلة أمامنا في كفاحٍ مجسمٍ مشهود.
ولم تكن متعة الفن الأدبي لتقل عندي — هكذا مضى الراوي في روايته إلى هواء غرفته — إذا وقفت تلك المتعة عند نشوة الفنِّ الجيد لذاته، لقد رأيت «روحًا» في الجمل القصيرة المتتابعة التي حكى بها الروائي حكايةَ عجوز البحر، لكن مع ذلك — لم أكد أفرغ من قراءتي — حتى بدأت أتأمل ما قرأت! فماذا فيها مما يعكس روح الحياة في العالم الجديد؟ فيها إرادة الإنجاز، فيها الجلد الصامد، فيها المغامرة والمخاطرة في سبيل الهدف البعيد، فيها قهر الطبيعة، ولم تكن الرغبة في قهرها لتعني شيئًا، لو كانت تلك الطبيعة واهية القوى، مستسلمة في يسرٍ إلى قاهرها، لكنها جبارة في قوتها، ضنينة بأسرارها، كتومٌ على كنوزها، ولا يفلُّ حديدَها إلا حديدُ بشرٍ مكافح مريد طموح.
ومضى الراوي يقول لهواء غرفته: إنني كعادتي دائمًا، لا أسهو لحظةً عن بلدي وقومي، فإذا رأيت قوة أينما كنت، أسائل نفسي: أين قوتي؟ إذا رأيت علمًا سألت أين علمي؟ إذا شهدت مغامرةً ومخاطرة تتبقى مجدًا، قلت: أين عندي مَن يُقامر ويخاطر؟ ومثل هذا التساؤل هو ما حدث لي بعد أن فرغت من قراءة «العجوز والبحر»، إلَّا أني تريثت هذه المرة حتى أوازن وأقارن؛ فمسرح الأحداث في مصر ليس كمسرح الأحداث في أمريكا، هنالك فروقٌ شاسعة بين الموقفين، لا بد لها أن تُحدث اختلافًا في تشكيل الصورة هنا والصورة هناك: فهنا مكان ضيق الحدود، مع زمانٍ طويل التاريخ: فما معنى هذا الفارق بين الحالتين، وما مغزاه؟ معناه هو أن الأمريكي تحلَّل من قيدَين: قيد المكان وقيد الزمان؛ أما المكان عنده فذو سعةٍ واسعة، فإذا ضاقت به سبل العيش في الجانب الشرقي لبلاده، سعى غربًا، فغربًا، إلى أن يجد سعة العيش.
وبهذه المناسبة أذكر أني حين مررت بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة، وعلمت فيما علمته، أن نسبة المنتحرين في تلك المدينة، تفوق نسبتَهم في أيِّ مكانٍ آخر سألت لماذا؟ فكان الجواب هو أن الأمريكي الطامح، إذا لم يجد في الشرق (شرق الولايات المتحدة) ما يحقق طموحه، رحل غربًا — ويظل يرحل غربًا — حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» ولم يجد بغيتَه، لم يبقَ أمامه سوى أن ينتحر! هذا من ناحيةِ المكان وسعتِه، وأما الزمان وقِصَر تاريخه هناك، فشرحه أن المهاجرين إلى العالم الجديد، بدءوا هجرتهم إليها في القرن السابع عشر، أي أن تاريخ ما قد أصبح يُعرف «بالولايات المتحدة» عمره ثلاثة قرون، ومغزى هذه الحقيقة هو أن حمل التقاليد خفيفٌ على ظهورهم، اللهم إلا مَن بقيت معهم تقاليد بلادهم الأصلية التي هاجروا منها، ومع ذلك فلا بد من الإشارة هنا إلى أن الروح الوطنية الوليدة في الولايات المتحدة تعمل جاهدةً على أن «يتأمرك» الأمريكي، منسلخًا بالتدريج عن روابطه بوطنه السابق، وإلا فلو ظلت لكل فردٍ رواسب ماضيه، لما نشأت أمةٌ جديدة تربطها روابط الأمة، ومن هنا نلاحظ فيما يكتبه كتابهم، إلحاحًا شديدًا على ضرورة «التأمرك» لينصهر المواطنون جميعًا في روحٍ وطني واحد، وخلاصة القول — إذن — هي أن الأمريكي بهذا قد تحرر من القيود مرتين: مرةً حين وجد المكان من السعة بحيث يمرح باحثًا عن المجد، ومرة ثانية حين وجد التاريخ الأمريكي قصيرًا وراءه، فلم تقيِّده رواسب تقاليده إلا بما هو أقل من القليل، فما عليه إلا أن «يريد» فلا يجد أمامه ما يحول دون تنفيذه لإرادته، ما وسعتْه قدرته، وما أذنت له قوى الطبيعة، استسلامًا له، أو تأبيًا عليه.
وننتقل إلى المصري في ظروف وطنه، مكانًا وتاريخًا، وليس الهدف مما سوف أقوله في هذا الصدد هو أن يتحلل المصري من قيد ظروفه، بل هو أن نرى ماذا في مستطاعه أن يفعل، وهو كما يحيا في إطارٍ معين من مكان، وفي امتدادٍ معين من التاريخ، أما المكان المعمور حتى الآن فهو — كما نعرف — منحصرٌ تقريبًا في الوادي الضيق! وأما التاريخ فقد امتدَّ به عبر أربع حضارات — وهو الآن يخوض الخامسة — التي هي حضارة هذا العصر، وهكذا أخذت التقاليد تتراكم على كتفَيه حضارة بعد حضارة حتى أصبحنا أمام مصري (لو أخذنا المصري على نقائه في الريف) له في كل خطوةٍ يخطوها قيدٌ يحدُّ من حركته، فهنا تقليد يأمره بأن يراعيَ كذا، وهناك تقليد يأمره بأن يراعيَ كيت.
ومضى الراوي في خطابه إلى هواء غرفته، فقال: كان أول ما خطر لي من خواطر، بعد أن تحفظتُ بالمقارنة التي أجريتُها، بين الظروف المحيطة بالأمريكي الذي يمكن اعتباره مؤشرًا يشير إلى إنسان العصر الجديد، والذي انعكست صورته — بغير شكٍّ — في عجوز البحر عند «همنجواي»، وبين الظروف التي تحيط بالمصري، الذي يمكن بدوره، أن يؤخذ ممثلًا للشعب العريق الذي يحمل في عروقه تاريخًا طويلًا، وما لا بد أن يُحدثَه ذلك التاريخ من تقيدٍ بتقاليد الآباء والأجداد إلى حدٍّ بعيد أو إلى حدٍّ قريب، أقول إن أول خاطر خطر لي بعد تلك المقارنة السريعة، هو أن أتخيل «عجوزًا آخر» أختاره من الحياة المصرية، أو من الحياة العربية على إطلاقها، يُشبه «عجوز» همنجواي في تقدُّم السن من جهة، وفي الرغبة في الإنجاز قبل أن يأتيَ الأجل القريب من جهةٍ أخرى؛ لأرى ماذا تكون الفوارق الأساسية بين العجوزَين، ومن خلال ذلك ألمح الفوارق بين الحياتَين! فكان أول ما لمع في الخيال، هو أن يكون عجوزنا المختار، عجوزَ «بر» لا عجوز «بحر»، نعم نحن نملك الإطلال الطويل على بحرَين، إلا أن مسارح نشاطنا يغلب أن تكون في البر لا في البحر، إذن فليكن عجوزنا عجوزًا بريًّا، ومن هذه البداية كدت بادئ ذي بدء، أن أقول: إن الدافع القوي يبدأ في صورة «العجوز والبحر» في رواية همنجواي، بالرغبة القوية في إنجازٍ كبير، وإن مثل هذه الرغبة لا يظهر واضحًا عندنا، لا في العجوز ولا في الكثرة الغالبة من الشباب، لكني سرعان ما أمسكتُ قائلًا لنفسي: أدِرْ بصرك فيما عرفت من مواطنيك، تجدْ ضروبًا لا تُحصى ولا تُعدُّ من الطامحين في إنجاز شيءٍ مذكور: فكم من أصحاب الملايين، إذا ما رويت روايات حياتهم، قيل لنا إن فلانًا بدأ عاملًا بأجرٍ يومي ضئيل، وإن فلانًا تحوَّل من حالة الفقر إلى حالة الغنى بسرعةٍ كأنما سحره ساحر! وكم من أصحاب المناصب العليا قد أمسكوا بصولجان القوة وهم بعدُ في مرحلة الشباب، وفي مجال التعليم ترى العجب إذ ترى وليَّ الأمر لا يملك قوت يومه، ويُصرُّ على أن يتعلم ولدُه حتى يبلغ من درجات العلم والشهادات أعلاها، لا يصرفُه عن هدفه هذا أن يُقال له — بل وأن يرى بعيني رأسه — إن حامل تلك الشهادات قد لا يظفر في ميادين الحياة العملية بأكثر من شظف العيش! وأمثلة المجاهدين في كل جوانب الحياة كثيرةٌ، وأمثلة «الإرادة» القوية المصممة بين مواطنينا ظاهرة لمن شاء أن يرى، أفلا يكون في كل واحدٍ من هؤلاء «عجوز برٍّ» يقابل عجوز البحر عند همنجواي؟
ولأمرٍ ما أمدَّني الخيال بصورة، وأريد ألا أختم هذه المرحلة من حديثي إلا بذكرها؛ لأنها صورة — هكذا أوحى إليَّ خيالي — قد تحمل من الخصائص ما يفتح أعيننا على شيءٍ ذي بالٍ في طبيعة حياتنا، برغم كل ما فيها من طموحاتٍ وعزائم، وأما الصورة فهي لعجوزٍ من عجائز البر، جعل من «العلم» هدفه الأول، وهدفه الأوسط، وهدفه الأخير، لقد تتعدد صنوف القوى بين الطامحين: فهناك مَن أراد قوة النفوذ، ومَن أراد قوة المال، ومَن أراد قوة الشهرة، ومَن أراد، ومن أراد، أما صاحبنا فلم يُردْ إلا أن يعلم ويعلم، وأن يعرف، ويعرف، وشاء له ربُّه أن يجعل له ميدان العلم والمعرفة مصدر رزقه، فنَعِم بنعمة الله عليه، نعيمًا ما فتئ له حامدًا؛ إذ وجد عمله هو هوايته، وهوايته هي عمله، وتلك سعادة لا يعرفها إلا مَن عاشها! فلعل أشقى ما يشقى به بنو آدم في هذه الدنيا، هو محنة العمل الذي يُجبر عليه عامله، إما كسبًا للعيش، وإما تسخيرًا من مستبدٍّ ظالم، وجنة الحياة التي هي توحد الهواية والعمل لم تكتب إلا لنفرٍ قليل، ولا عجب أن رأينا مؤلفي «المدن الفاضلة» — كما يُطلق عليها — لا يفوتهم أن يجعلوا حقَّ العالم أن يختار عملًا يتفق مع هوايته، وبذلك يُصبح كلُّ عامل «فنانًا» في ميدانه، يسعد هو بحرية التعبير الفني فيما يؤديه، ويُسعد سائر الناس بما يُنتجه لهم.
ومثل تلك الجنة الأرضية هي ما شاءها الله سبحانه وتعالى لصاحبنا «عجوز البر»، الذي أرادني خيالي إلا أن أحكيَ حكايته، فلئن كان البحر الهائج المائج هو ما اختاره همنجواي مسرحًا لعجوزه، فقد اختار القدر لعجوزنا مكتبته مسرحًا، فليس صيده الكبير المرتجى سمكةً ضخمة تنفغر لها أفواه المشاهدين دهشة، بل صيده الكبير المرتجى هو «أفكار» تُضيء له السبيل وللآخرين، ومع ذلك الفارق بين عجوزنا وعجوزهم — برًّا هنا وبحرًا هناك — فقد تشابهَا من وجهٍ وتباينَا من وجهٍ آخر، من حيث ما سلَّط على صيدهما من شرِّ الشياطين، فكانت أسماك القرش هي محنة العجوز في بحر همنجواي، وكانت مشانق الصمت هي محنة عجوزنا في البر، ولئن وجد العجوز هناك في نهاية رحلته هيكلًا عظميًّا أكلت القروش لحمَه نهشًا في الطريق، فلقد وجد عجوزنا في آخر رحلته أوراقه وكأنها أكفان الموت، على أن العجوزَين كانَا في الصمود ومضاء العزيمة أخوَين.
واستأنف الراوي حكايته التي يحكيها لسامعه الأوحد، الذي هو هواء غرفته، فقال … وبعد أن فرغت من المقارنة بين الحالتين، من حيث الظروف المحيطة التي من شأنها أن تشكِّل صور الكفاح، ومن حيث ما قد يصاب به العاملون من شر الشياطين، اتجهتُ إلى ما هو خير وأبقى، فاتجهت إلى مقارنةٍ أخرى قد تنفع الناس، وهي هذه المرة مقارنة بين «ملامح» الكفاح عند المكافحين هناك والمكافحين هنا؛ إذ لا بد أن يكون بينهما تباينٌ شديد في السمات والقسمات، وإلا فلماذا أدَّى بهم هناك كفاحهم في مجمل نتائجه، إلى طيرانٍ في السماء، وأدَّى بنا كفاحنا في مجمله إلى سيرٍ يُشبه القعود، حتى ليحق للسلاحف إزاءه أن تُباهيَ بسرعة جريها؟ نعم، لقد أردت هذه المرة أن أقارن بين ملامح وملامح، فوقع بصري على نقطتين، الأولى: وهي أهونهما خطرًا: هي أن طموح الطامحين هناك ينشد الإنجاز الكبير، الذي يفقأ بضخامته أعينَ الجاحدين، ولست أقول إن كلَّ ذي طموحٍ قد أنجز مثل ذلك الإنجاز العظيم الذي يجيء من أيدي صانعيه ليرسخ على صدر الزمن، ولكن شعبًا يسوده طموحٌ متوثب في أبنائه، مهما اختلفت فيه درجات النجاح، فلا بد أن يقع على نفرٍ من هؤلاء الأبناء، يقيمون له من العظائم ما يصنع له المجد في تاريخه، وإن لنا نحن من آيات المجد في تاريخنا، المصري والعربي، ألف شاهدٍ وشاهد، على صدْق هذه الحقيقة الحضارية، وهي أن مجد الأمة إنما هو حلقاتٌ متتابعة من «عظائم» المنجزات، تراها الأعين، وتمسها الأيدي، وليس مجد المجيد مكونًا من «فتافيت» يتركها الصغار، بل هو مركبٌ من منجزاتٍ كبرى تصمد للزمن، وما قد يراه الصغير عظيمًا يراه العظيم صغيرًا كما أشار المتنبي شاعر العرب بقوله:
كانت تلك هي النقطة الأولى، من نقطتين انتهت إليهما المقارنة التي أجريتُها، وهي أن حياتنا الراهنة، مهما يكن فيها من آثار الجهد المبذول، فهو جهدُ المقلِّ الذي يقنع بالقليل، ويريد للناس أن يقنعوا به: علماؤنا، يتلقون العلم من صانعيه ليدرسوه ويحفظوه، ولو أنهم أجادوا الدرس والحفظ، لكان ذلك خيرَ ما نرجوه ونتوقع، ومع ذلك نضحك على أنفسنا وعلى شبابنا، لنوهمهم بأننا كبارٌ مع الكبار، وذلك قد ينفع في بثِّ الروح الوطنية والعزة القومية، لكنه كذلك يُغرقنا في أوهامٍ تُميت ولا تُحيي، ولا غرابة أن ترانا عند المفاخرة والمباهاة، نستمدُّ الشواهد من آباءٍ لنا وأجداد؛ لأننا لا نجد بين أيدينا ما يُبيح لنا أن نقول لمن نُباهيه: ها أنا ذا؟ وقديمًا قال الشاعر العربي:
وأما النقطة الثانية التي أبرزتْها المقارنة بين الحالتين، وهي الأهم والأفدح خطرًا، فهي «المجال» الذي يتحرك فيه طموحُ الطامحين، فبينما تغلب علينا أن نتجه بجهودنا، وأعني جهود أسلافنا وعظمائنا، الذين هم من كتاب حياتنا عنوانه، أقول: يغلب على تلك الجهود أن تتجه إلى ما هو موجودٌ بالفعل، مكتشف بالفعل، معلومٌ للناس بالفعل؛ كأن تتجه جهود العلماء الباحثين نحو ما هو مسطورٌ فعلًا في مؤلفات مبدعيها، وذلك نفسه يصدق على كل ميدان من الميادين العملية: هندسة، وطبًّا وصناعة، وزراعة وما إلى ذلك، فالنماذج المحتذاة قائمةٌ هناك، وما علينا إلا حسن المحاكاة، فإذا أفلحنا حسبنا — وهمًا — أننا مع مبدعي تلك النماذج قد أصبحنا سواء، مع أن الفرق بين الحالتين أوسع من المحيط، فهناك إبداع وهنا منسوخٌ كربونيٌّ من ذلك الإبداع، ومن أين جاء هذا الفارق الواسع؟ أهو تفاوت القدرات في فطرتها؟ كلَّا وألف مرة كلَّا، فآباؤنا وأجدادنا شهودٌ على تلك الفطرة، إنما هو «المجال» الصحيح يتجهون إليه هم ولا نتَّجه إليه، فبينما هم يواجهون «الطبيعة» مباشرة، يُرغمونها على البوح بأسرارها، نكتفي نحن بالاطلاع على ما قد كشفوا عنه هم الحجاب، فصاغوه، فأثبتوه في مؤلفاتٍ أو في منجزاتٍ مجسدة، فنشتري نحن مؤلفاتهم لنصبح بها «علماء»، كما نشتري منجزاتهم لنكون بفضلها متحضرين.
إنهما مرحلتان متميزتان عرفناهما في تاريخ الإنسان «القومي»، وفي أيِّ اتجاهٍ يضرب بقوته؛ ففي الأولى كان يبطش بالبشر بغيًا وطغيانًا، وفي الثانية يهتك أستار الطبيعة أو يحاول، فلماذا يتحكم في رقاب البشر، وبين يديه وعرٌ يتسلقه، وبحر عميق الأغوار يغوص إلى أعماقه؟ لماذا يفتك بأخيه، وأمامه «درة» تستنفد جهده ليشطرها، فإذا هي قوة المارد قد فكَّ عقالها! فلما تنبَّه الإنسان الحديث إلى «المجال» الصحيح، الذي يستحق الجهد في تطويعه، وهو مجال هذا العالم الفسيح الذي نعيش فيه، ولا نعرف عن مكنونه إلا النذرَ اليسير، نشأت له «العلوم الطبيعية» وكأنها ولدت للإنسان لأول مرة في تاريخه، نعم، لا جدال في أن العصور السابقة قد شهدت من علماء الطبيعة أفرادًا تناثروا هنا وهناك، إما أن تسود العلوم الطبيعية هذه السيادة كلها، وأن تنقل نفسها من منهج إلى منهج، ومن «مجرد النظر» إلى التطبيق على النطاق الواسع، الذي يجعل منتجاته من آلاتٍ وأجهزة تجد لها مكانًا في كل كوخٍ على أيِّ معمورٍ من كوكب الأرض، فذلك شيءٌ لم يعرف عنه التاريخ الماضي كلُّه إلا حجم قطرة الماء من البحر المحيط.
ولقد كانت لنا البراعة كل البراعة بالقياس إلى غيرنا، عندما كانت الدنيا في مرحلة ما قبل العلم الطبيعي وولادته؛ إذ كان العلم صاحب السيادة عندئذٍ هو «الرياضة» وما يدور مدارها، مما يمكن دراسته — والدارس بين جدران بيته، لا تصله بظواهر الطبيعة صلةٌ مباشرة — إلا على نحوٍ باهت ضعيف، فلما أضافت الدنيا علومًا إلى علوم، ومنهجًا جديدًا إلى منهجٍ قديم، كان التاريخ قد حكم علينا بالوقوف، فسارت الدنيا الجديدة وظللنا حيث كنا واقفين، وعندئذٍ تبدلت حياتنا حالًا بعد حال: كانت لنا الريادة وغيرنا الاتباع فأصبحت الريادة لغيرنا ونحن التابعون.
ودخل الراوي الذي يوجِّه حديثه إلى هواء غرفته، في صمتٍ طال معه بضع دقائق، ثم عاد ليقول للهواء وفي الهواء: لست أدري لمَن أتوجه بالمعذرة، وليس أمامي أحدٌ يسمع، فقد أردت أن أُعلن أسفي على هذا الخوض فيما لا ينبغي أن يُخاض فيه بالكلمات، ومتى أفلحتِ الكلمات وحدها في زحزحة حصاة من حصوات الأرض عن مكانها؟ اللهم إلا أن يلتقطَها ملتقطٌ قادر على التغيير، وليس في هواء الغرفة مَن يسمع ليُجيبَ ويستجيب، ولو أجاب واستجاب لأمكن التغلب على القيدَين اللذَين يُمسكان بأقدامنا فلا نسير، وهما — كما ذكرنا في أوائل الحديث — مكانٌ ضيقٌ لا يسمح لنا بالحركة المغامرة، وتاريخ طويل أثقلنا برواسب التقاليد، فأما فسحة المكان فهذه الصحراء الواسعة تتحدانا أن نعمرَها! وإنَّا لنستطيع تعميرها لو انتقلنا من عالم «الورق» إلى عالم الطبيعة، تغزوه مصر بالعلم وتقهره بالإرادة، وأما رواسب التقاليد التي أنقضت ظهورنا، لأننا أخذنا منها ما يُحدث الكساح، وتركنا ما يُشعل النار، وليس استبدالُنا وضعًا بوضعٍ أمرًا عسيرًا إذا صحت منا العزيمة.
كان عجوز البحر قد انتهى به جهدُه إلى فقراتٍ من عظام، وكأنما أراد القدر أن يقول: ليست العبرة بسمكةٍ تُصطاد فتبقى أو تذهب، وإنما العبرة بإرادة تُصمم ولا يأخذها وهنٌ، فيكون لها في آخر المطاف العظائم التي تصنع للأمة مجدها، وأصغَى عجوزُ البر إلى الدرس ووعاه، ثم همس لنفسه: إنه يا مولانا درسٌ معادٌ تُلقيه علينا صحائفُ تاريخنا، لو كان فينا آذانٌ تسمع ما يصرح به التاريخ.