الإمام الغزالي تُحاوره حواسه
ليس في حياتي أروع من ساعةٍ أقضيها مع عملاق من عمالقة الفكر، أقرأ له شيئًا مما كتب، لا قراءة مَن يتلقَّى ما يتلقاه، بعقلٍ شارد وذهن بليدٍ، بل قراءة مَن يتأمل في أناة، حتى ليكاد يدخل بكل كيانه في جوف الكلمات، ليرى خبيئَها إن كان لها خبيءٌ، كما قد عرفت ظاهرها البادي على سطحها، فهؤلاء العمالقة حين يكتبون، يتدبرون ما يكتبونه كلمة كلمة، وكدت أقول حرفًا حرفًا، ولا يقذفون اللفظ على الصحائف قذفًا غير مسئولٍ؛ وذلك لأنهم إذ هم يعالجون فكرة عظيمة — والعظماء لا تشغلهم من الأفكار إلا عظائمها — يشعرون كأنه واجبٌ عقليٌّ محتوم، أن تجيءَ عبارتهم في دقة أفكارهم حتى إذا ما قرأها قارئ، أحسَّ بأنه لا يُطالع لفظًا على ورق، وإنما هو في حقيقة أمره، يجلس بين يدي المتحدث الحي، يسمع صوته الملتزم المتزن الوقور، فيُصغي إليه بأُذُنَيه، وإن الفوارق في مثل هذه القراءة المستغرقة فيما تقرؤه، لتنحى، فلا يشعر القارئ أهي كلماتٌ مطبوعة على ورقٍ وتطالعها عيناه، أم هي تلك الأصوات الملتزمة المتزنة الوقورة؟ ينطلق بها العظيم صاحب الفكرة العظيمة، فتسمعها الآذان؟
ومثل تلك القراءة لا يبلغ غاية مداه، إذا جلس القارئ من محدِّثه جلسةَ مَن يستمع ليقول آخر الأمر لمن صبَّ في أُذُنَيه فكرتَه: آمين! لقد سمعت مصدقًا! أقول إن تلك القراءة التي يستسلم بها القارئ لما يتلقاه استسلامًا يُلغي به ذاته إلغاءً، وكأن وجوده لم يَزِد على أن يكون شريطًا من شرائط التسجيل الصوتي، هي قراءة لا يبلغ قارئها إلى أكثر من نصف الطريق، وأما النصف الثاني فهو مشاركة القارئ بالحوار الصامت مع ما يقرؤه، شريطة أن يكون هذا القارئ قد بلغ من النضج ومن التحصيل، درجة يتكافأ بها مع مثل ذلك الحوار مع عمالقة الفكر، وإن ساعةً واحدة تقضيها على هذا النحو الحي الفعال مع مفكرٍ عظيم لأكثر بركة عليك وعلى ثقافتك من مائة ساعة تقضيها قارئًا يتلقَّى في خمولٍ راكد، ثم هي أكثر بركةً من ألف ساعة، تقرأ فيها ما يُقال لك عن ذلك العظيم وفكرته؛ فاللقاء المباشر مع مبدعٍ فيما أبدعه، هو الوسيلة التي لا تعادلها، أو تقترب منها وسيلة أخرى. ومن هنا نُدرك سرًّا من أسرار الهزال العلمي، الذي يخرج به شبابنا من جامعاتهم، فهم — على الأغلب والأعم — يتلقون الأفكار الكبرى، في موادهم العلمية، لا باللقاء المباشر مع أصحاب تلك الأفكار، في المراجع الأصلية التي تضم طالب العلم مع مَن أنتج ذلك العلم وجهًا لوجه — كما يقولون — لو غيبًا لنصٍّ مقروء، وإذن لصوت يتخيل أنه صوت صاحب النص الأصلي، وكأنه يتحدث فيسمعه مَن سعى إليه يطلب منه العلم، بل إن طلابنا يكتفون بما يقدِّمه إليهم أساتذتهم من «مذكرات» يلخصون لهم فيها ما قاله روادُ العلم، وبذلك الصدى الخافت، يفوتهم الأثر السحري الذي يتركه اللقاء المباشر بين الرجل العظيم، ومَن جاءه يسعى لتحصيل شيء من عمله.
نعم، ليس في حياتي أروع من ساعةٍ أقضيها مع عملاقٍ من عمالقة الفكر، وقد كانت تلك الساعة، التي أكتب الآن لأروي لك نبأها، ساعةً قضيتها مع الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه «المنقذ من الضلال»، معاودًا لقراءة بعض صفحاته، وهنا وقفت مع الإمام العظيم، فيما قال عن مصادر المعرفة ودرجاتها المتصاعدة نحو اليقين، وفي ظني أن هذه القراءة الأخيرة، قد حركت عندي أفكارًا، لا أحسبها قد وردت إلى ذهني في القراءات السابقة جميعًا، فبعد أن يبيِّن الغزالي لقارئه أن أضعف مصادر المعرفة، هو الأخذ عما يتناقله الناس عن شيءٍ معين، دون أن يكون السامع قد رأى هو ذلك الشيء بعينه، إذا كان مرئيًّا أو أن يسمع هو بأُذُنَيه، إذا كان الأمر متعلقًا بصوتٍ مسموع، أقول إن الإمام الغزالي، بعد أن يضع مصدر «التواتر» في مكانه، ومكانه هو الدرجة الدنيا من درجات السلَّم المعرفي، ينتقل إلى الدرجة التي تعلوها، وهي الحواس، من بصرٍ وسمعٍ وغيرهما، حيث يشاهد المتلقي ما كان قد سمع عنه فيما يتناوله الناس، بحيث يرى هو، أو يسمع هو، ليأخذ علمه من ينبوعه مباشرة، لا منقولًا عن رواياتٍ يرويها عنه الآخرون، ثم ينتقل الغزالي بعد ذلك إلى الدرجة الأعلى بعد الحواس، وهي «العقل» في استدلالاته وبراهينه، ثم يلجأ بعد العقل إلى «النور» الذي يقذفه الله في القلوب.
ولكي أضع قارئي معي، في مطالعتي هذه المرة، لما كتبه الغزالي عن «تلك الدرجات الثلاث الحواس والعقل والقلب» سأضع بين يدَيه قول الغزالي بنصِّه، مع الأفكار التي أثارها في نفسي ذلك النص هذه المرة: ولماذا أحرص على هذه المشاركة بيني وبين قارئي؟ وذلك لأني سأقيم على هذه القراءة الجديدة نتيجة تمسُّ حياتنا الثقافية الحاضرة، في جانبٍ هامٍّ من جوانبها، وهاك قول الغزالي، وسأبدأ من الموضع الذي انتقل من عنده من غصن التواتر؛ إذ جعله الناس مصدرًا للعلم الصحيح إلى بحثه في صلاحية «الحواس» أن تكون مصدرًا موثوقًا به، فوجد أن الاعتماد على الحواس غير مأمون الصواب؛ لأنها قد تضلل، فتقدم لنا صور الأشياء غير حقيقتها، ومن هنا انتقل إلى مرحلة المعرفة العقلية، التي يُشير إليها بكلمة «الضروريات» فقال:
«… فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم، بحقائق الأمور، فلا بدَّ من طلب حقيقة العلم ما هي؟»
فأقبلت بجدٍّ بليغٍ أتأمل في المحسوسات، والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طولُ التشكك، إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا، وأخذ يتسع هذا الشك فيها، وبقوله …
فمن أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل، فتراه واقفًا غير متحركٍ، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، وبعد ساعة تعرف أنه تحرك وأنه لم يتحرَّك دفعة بغتة، بل على التدرج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية، تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار.
هذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخوِّنه (بتشديد الواو) تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضًا، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات، التي هي من الأوليات؛ كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثًا وقديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالًا.
فقالت المحسوسات: بمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذَّبني، ولولا حاكم العقل، لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تجلَّى كذَّب العقل (بتشديد الذال) في حكمه كما تجلَّى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه وعدم تجلِّي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلًا وأيَّدت أشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورًا، وتتخيل أحوالًا، وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا … لا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصلٌ وطائل، فبمَ تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحسٍّ أو بعقل، هو حقٌّ بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، وإذا وردت تلك الحالة تقينت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، ولعل تلك الحالة ما يدَّعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم — التي لهم إذا غاضوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم — أحوالًا لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي الموت؛ إذ قال رسول الله ﷺ: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، فلعل الحياة الدنيا نومٌ بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
فلما خطرتْ لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولتُ لذلك علاجًا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصبُ دليل إلا من تركيب العلوم الأولية؛ فإذا لم تكن مسلمة، لم يكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء، ودام قريبًا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى شفى الله تعالى من هذا المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات الفعلية مقبولة موثوقًا بها على أمنٍ ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلامٍ، بل بنورٍ قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمَن ظنَّ أن الكشف موقوفٌ على الأدلة المحررة، فقد ضيَّق رحمة الله تعالى الواسعة (انتهى كلام الغزالي).
لن أعتذر للقارئ على طول النص الذي اخترتُه مما أورد الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، فقد أردت للقارئ أن يواجه المفكر الإسلامي العظيم في كلماته مواجهة مباشرة؛ إذ هي كلمات بلغت الغاية في الغزارة والغنى لمن أراد صورةً متكاملة لوسائل المعرفة ودرجاتها ونسبة بعضها إلى بعض، حتى يجعل لكل وسيلةٍ منا قيمتها الحقيقية، لا يضيف إليها من عنده ما ليس منها، ولا يحذف منها جانبًا مما يكون جزءًا من أجزائها، وتلك الوسائل عنده أربع، تتدرج صعودًا، فلقد أسلفنا لك القول بأن أدناها درجةً، برغم كونها أشيعها بين الجماهير، هي الأخذ بما يدور على ألسنة الناس، على أنه هو الحق، ويتلوها صعودًا وسيلة الحواس وما تدركه، بحيث يعتمد الإنسان في معرفته على ما يراه بعينَيه وما يسمعه بأُذُنَيه، وما يحسُّه إحساسًا مباشرًا، بحاسةٍ من حواسه الأخرى، ثم تعلوها درجةُ الإدراك بالعقل؛ فإذا كانت الحواس مقصورةً — بالطبع — على ما تتلقاه من انطباعاتٍ تنطبع بها رؤيةً — أو سمعًا — أو غير ذلك من ضروب المحسوسات، فإن «العقل» أرحبُ مجالًا، وأدقُّ علمًا بما يحيط به؛ إذ هو إلى جانب التصورات الذهنية التي يستخلصها مما قد انطبعت به الحواس وما قد تراه أو تسمعه، نقلًا عن المصادر الخارجية، يقيم علمًا مشتقًّا من «أوليات» فُطرت في جبلةٍ لا حاجة فيها إلى الحواس، ليعلم أن الإثبات والنفي لا يجتمعان معًا في الشيء الواحد؛ فالنقل بما زوَّده به خالقه من «أوليات» يرفض أن يقال له — مثلًا — إن العشرة أكثر من الثلاثة، وهي في الوقت نفسه أكثر من الثلاثة، والعقل يرفض كذلك — بحكم أولياته الفطرية — أن يكون الشيء الواحد المعين موجودًا ومعدومًا في آنٍ واحد، ويرفض أن يُقال له عن فكرةٍ معينة بأنها مقطوع بيقينها، ومقطوع ببطلانها في وقتٍ واحد، وهكذا وهكذا، فما جاء العقل مزودًا به من مبادئ التفكير الصحيح دون طبائع الأشياء، فتلك — إذن — ثلاث درجات في وسائل المعرفة، وأما الرابعة فأُرجئ ذكْرَها والحديث عنها حين يحين حينُها فيما هو آتٍ من هذا الحديث.
- فأولًا: لقد كان ما شدَّني شدًّا إلى كلام الإمام الغزالي عن المعرفة ووسائل تحصيلها، هو تلك الذروة العليا التي أطل منها إلى موضوعه، لينظر إليها نظرة الطائر، فيُتاح له أن يجمع أطراف الموضوع أولها بأوسطها وبآخرها، وبذلك تجيء اللقطة الإدراكية لموضوع «المعرفة» وافية شافية، لم يحذف من وسائل المعرفة وسيلة استهانة بها بل وضع كلَّ وسيلة في موضعها الصحيح من خريطة الحياة المعرفية عند الإنسان، وقارن ذلك بما نسمعه من بعض فقهائنا اليوم — ونذكر أن هذا اليوم إنما هو أواخر القرن العشرين — إذ يحذروننا من «العلم» (أي والله هم يحذروننا من العلم) بينما نرى الإمام الغزالي يبدأ كلامه الذي اقتبسناه، بقوله: «إن الهدف هو العلم» فمن واجبنا أن نحدد بدقةٍ ماذا يراد بكلمة «علم» هذه، وليس الذي يهمنا الآن هو اتفاقنا أو اختلافنا في هذا التحديد، لكن المهم هو أن نقف مثل هذه الوقفة الصحيحة من حيث منهج النظر، وهي أن نقول في عصرنا هذا مثل ما قاله الغزالي في عصره، فنقول: إن الهدف هو العلم، وعلينا أن نحدد لأنفسنا ماذا يراد بهذه الكلمة.
- وثانيًا: إننا لو اتبعنا الإمام الغزالي في نظرته إلى المعرفة التي تأتي إلى صاحبها نقلًا عما تواتر على ألسنة الرواة، وهي أنها معرفة لا تعلو، على أن تكون لها أدنى درجات السلَّم، لكان هذا الدرس المنهجي وحده كفيلًا لنا في عصرنا هذا بأن نضعَ عنا أثقالًا أنقضت ظهورنا، فنحن لا نبتغي حذْفَ التواتر من حيث هو مصدر من مصادر المعرفة، بل نريد أن نضعه بالنسبة إلى المصادر الأخرى في موضعه الصحيح.
- وثالثًا: إن وجه النقص الذي أخذه الإمام على «الحواس» من حيث هي إحدى وسائلنا نحن
البشر إلى معرفة حقائق الأشياء، يحتاج إلى وقفة قصيرة متسائلة؛ فالغزالي
يشارك كثيرين ممن ظهروا قبله، وكثيرين ممن جاءوا بعده، في موقف الشك من
المعرفة المكسوبة عن طريق الحواس، وذلك على أساس أن الحواس قد تخدعنا فيما
تقدمه إلينا على أنه هو حقائق الأشياء في حين تكون حقائق الأشياء بعيدًا
عما نقلتْه إلينا حواسُّنا عنها؟ ويضرب الغزالي أمثلةً لذلك، فيقول: إن العين
تُطيل النظر إلى «الظل» فلا تراه إلا ساكنًا لا يتحرك فإذا انتظرنا ساعةً
بعد ذلك، ثم وجهنا البصر إلى ذلك الظل الذي حسبناه ساكنًا، وجدنا أنه قد
تحرك عن موضعه الذي كنا رأيناه عليه! ومعنى ذلك أن العين رأتْ ما ظنته
سكونًا وإذا هو حركة، ويسوق الغزالي مثلًا آخر، هو أن الحواس متمثلة في
حاسة البصر التي هي أقواها ترى الكوكب من كواكب السماء فتحسبه في مقدار
الدينار، وإذا بالاستدلالات الهندسية يتبين أنه أكبر من الأرض
حجمًا.
والذي نعلق به على هذه النظرة إلى إدراك الحواس أمانةً أو خداعًا، هو أن مَن يتهمون الحواس بالتقصير والخطأ فيما تنقله إلينا حواسُّنا عن أشياء العالم الخارجي، يفوتهم أمران: أولهما أن الذي يصحح لنا ما حسبناه خطأ أوقعتْنا فيه إحدى الحواس، هو الحاسة نفسها التي اتهمناها، أو هو حاسة أخرى من حواسنا، وأما الأمر الثاني، فهو أن أصحاب هذه النظرة المتشككة في صدْق المعرفة الآتية إلينا عن طريق الحواس، يفوتهم أن ما قد ظنوه إدراكًا مكذوبًا من الحاسة، إنما هو في حقيقة أمره خطأ يقع فيها الإنسان بسبب تسرُّعه في عملية الاستدلال العقلية التي يُجريها على الصورة التي قدمتْها له الحاسة، وانظر إلى المثلَين اللذَين ذكرهما الغزالي بيانًا لما تكذب به الحواس علينا؛ فالمثل الأول هو أن العين ترى الظل فتحسبه ساكنًا مع أنه في حقيقته متحركٌ، فما الذي أنبأنا فيما بعدُ أن الظل قد أصبح في وضعٍ جديد غير ما قد كان عليه؟ إنه البصر أيضًا، ولقد فات البصر أن يرى حركة الظل أول مرة؛ لأنه أبطأ مما خلق البصر البشري ليراه، فمعلومٌ أن للبصر مجالًا يستطيع الرؤية في حدوده، فلا هو يرى ما أبطأ حركة، ولا هو يرى ما هو أشد سرعة، وإذن فقد كان البصر «صادقًا» حين أنبأ صاحبه أنه لا يرى حركة الظل؛ إذ هي حركة أبطأ من الحدود التي فُرضت عليه، وإنما مصدر الخطأ هنا هو التسرع في الاستدلال العقلي، فكأنما قال ذلك المتسرع لنفسه: إذا كانت العين لا ترى حركةً إذن فلا حركة، فها هنا انتزعنا نتيجةً بغير حق، من مقدمةٍ لا تنتجها؛ لأنه إذا كانت العين قد قصرت عن رؤية شيءٍ ما، فلا يكون ذلك دليلًا على أن ذلك الشيء معدوم، فقد تكون لإدراكه وسيلة أخرى، وقد لا تكون لدى الإنسان وسيلة لإدراكه على الإطلاق.
والمثل الثاني الذي نقلناه عن الغزالي في تشككه في معرفةٍ تجيء عن طريق الحواس هي رؤية العين للكوكب البعيد صغيرًا، وكأنه في مقدار الدينار، مع أن الاستدلال الهندسي يبيِّن أن ذلك الكوكب أكبر حجمًا من الأرض! فها هنا أيضًا كانت العين أمينة في الصورة الصغيرة التي قدمتها؛ لأن قوانين الضوء تحتم على العدسة المدركة لشيء بعيد أن تصغر صورته بقدرٍ معلوم كلما بعد، وإذا شئت فاستخدم آلة التصوير في التقاط صورة ذلك الكوكب، تجدْ قوانين الضوء قد قامت بفعلها في تحديد مقدار الصورة المنعكسة على عدستها، وإذن فمصدر الخطأ مرة أخرى، ليس هو اختراعًا أو كذبًا من حاسة البصر، بل هو تسرع الإنسان في عملية الاستدلال العقلية، التي يبنيها على ما تجيء إليه به الحواس، فكان يقول لنفسه: حجم الصورة التي تقدمها عدسة العين هي كذا، إذن يكون ذلك نفسه هو حجم الشيء الذي رأتْه، مع أن الصحيح هو أن يُضيف إلى الموقف قوانين الضوء، وفيها أننا لو تابعنا القائلين بالشك في قدرة الحواس على تصوير الواقع لما استطاع الإنسان أن يتقدم قيدَ شعرة في العلوم الطبيعية؛ لأن هذه العلوم تجمع معطياتها الأولى مما تقدِّمه إليها الحواس من مشاهدات، ثم تبدأ بعد ذلك العملية العلمية، من فرض الفروض، واستخدام النظريات وصياغة القوانين، ولقد رأينا بالفعل جميعَ مَن تشككوا في قدرة الحواس يحصرون أنفسهم فيما فطر عليه العقل من مبادئ ثم استدلال ما أمكن استدلاله من تلك المبادئ، وعند هذا الحد العقلاني الصرف يقف علمهم بالكون وبأنفسهم.
- ورابعًا: إن الطريقة التي عرض بها الإمام الغزالي ثقتَه بالعقل وما يؤدي بنا إلى
العلم اليقيني، قد جعلتْني أتمنى أن أجد وسيلةً تنشرها في الناس اليوم
لعلهم يستيقظون من سُباتهم الفكري، فهو بعد أن يؤكد لنا أن العلم الذي هو
مطلبنا، إنما هو العلم اليقيني يضرب له مثلًا: العشرة أكثر من الثلاثة، ثم
يقول عنه: إنه إذا قال لي قائل: انظر إنني قادرٌ على تحويل هذا الحجر ليصير
ذهبًا بلمسةٍ من أصابعه أو قائل يقول انظر إنني قادرٌ على أن أحوِّل هذه
العصا ثعبانًا! ومن قدرتي هذه أقول لك إن العشرة ليست أكثر من الثلاثة، بل
الثلاثة أكثر من العشرة، فهنا أتمسك بصدق الحقيقة العقلية، ثم به لا
يمنعني ذلك عن التعجب من قدرة مَن حوَّل الحجر ذهبًا أو جعل العصا ثعبانًا،
فهذه القدرة السحرية تحتاج إلى بحثٍ في حقيقتها، ولكنها لا تستطيع أن
تُشككنا في صدْق أن العشرة أكثر من الثلاثة! (أورد الغزالي مثل هذا الحوار،
إلا أن المجال هنا لم يتسع لذكر النص) وانطلاقًا من هذا الدرس الغزالي
العظيم نقول: إنه لا يجوز لنا أن نصمَّ آذاننا عن الحقيقة العلمية
الثابتة — كما نفعل اليوم — كلما تعرض لنا مَن خلب أبصارنا بقدرته السحرية!
وواجبنا هو أن نفرق — كما فرق الإمام الغزالي — بين شيئين مختلفين، فبينما
نتمسك بما قد أثبته العلم يحق لنا أن ندهش للعجائب التي يعرضها علينا
أصحاب الخوارق.
على أننا لا بد، من أجل الأمانة العلمية، أن نقول إن الغزالي يقصر اليقين على ما يسميه «بالأولويات» العقلية، وما يستبدل منها (وشاركه ديكارت في ذلك، بعده بنحو ستة قرون) وله الحق في ذلك، إلا أننا نوسع مجال الثقة العلمية هذه لتشمل كذلك العلوم التي وإن لم تكن متولدة من «أوليات» عقلية، فهي مقامة على أساس المعطيات الحسية، التي يوضع لضبطها وضمان صدْقها مناهج خاصة، وإلا فإذا نحن اقتصرنا على أوليات العقل المجبولة في فطرة الإنسان، وأبعدنا الحواس وما تقدمه إلينا ضاعت علينا العلوم الطبيعية بقضِّها وقضيضها.
- وخامسًا وأخيرًا: نذكر ذلك الحوار الذي أجراه الغزالي، وكأنما قد بادرتْه به حواسُّه؛ إذ جعلها تُعاتبه سائلةً: لقد شككت في صدْق ما قدمته إليك بحجة أنك حين عرضته على حاكم العقل، قرر لك أن ما قدمه إليك العقل، من معرفةٍ قبلتها وكأنه يقينٌ لا يأتيه باطلٌ، ألا يجوز أن تحتكم إلى ما هو فوق العقل فيحكم لك على العلوم العقلية أنها هي الأخرى باطلةٌ؟ وها هنا يروي لنا الإمام الغزالي كيف أوقعْته محاجة الحواس هذه في حيرةٍ اشتدت به حتى أنزلت به المرض، ولقد دام معه ذلك المرض — فيما ينبئنا شهرين — ولبُّ الأزمة التي وقع فيها، بناء على ما تخيل أن حواسه قد اعترضت به عليه، هي أنه إذا زعم قيام مبدأ أعلى من العقل، على أساسه ينظر في الحقائق العقلية أَقابلة للشك هي أم هي فوق الشك؟ فلا بد له من إقامة دليل على زعمه ذاك، لكن كل دليل يتحتم عليه أن يقام على أوليات العقل، فكأننا ندور في دائرة مفرغة لأننا بمثابة مَن يريد إقامة الدليل بالعقل على بطلان العقل! تلك كانت أزمته حتى شفاه الله، فهداه إلى أن من الحقائق ما لا يُقام على دليل، بل يجيء يقينه «بنورٍ يقذفه الله» تعالى في الصدر. وبهذا المصدر الرابع اكتملت للغزالي وسائلُ المعرفة جميعًا أدناها معرفة مصدرها رواية الرواة، وأعلاها علم مباشر يجيء بنورٍ يهتدي به العارف، وتلك هي معرفة المتصوفة، وبين الطرفين تقع العلوم العقلية سواء منها ما بُني على معطيات الحواس، على سبيل الاحتمال، وما بُني منها على أوليات العقل على سبيل اليقين.