الشجرة المباركة
الصلة بين «العلم» و«النور» شيءٌ معروف مألوف، حتى لنسمع عبارة «العلم نور» شائعةً على الألسنة بين عامة الناس فضلًا عن خاصتهم، وإنه لقولٌ صادق إلى آخر حدود الصدق برغم ما فيه من «مجاز»؛ فالنور يقشع الظلام عن الأشياء فتراها الأبصار بعد أن لم تكن رأتْها وهي ملتفة بظلامها، وكذلك يفعل «العلم» بشيء ما لأنه يُتيح لصاحبه أن يرى من تفصيلات ذلك الشيء ومن حقائق طبيعته، ما يُتيح له أن يستخدمه وهو آمن فلا فرق — إذن — بين «نورٍ» يبيِّن معالم الطريق و«علم» يبيِّن معالم الأشياء، فنطوعها كيف شئنا.
وبرغم هذا الوضوح الشديد في وجه الشبه بين «العلم» و«النور»، وبرغم دوران هذا الشبه على ألسنة الناس عامتهم وخاصتهم على السواء، فقد فوجئتُ بتلك العلاقة بين «النور» و«العلم»، كأنما وجدتني أمام فكرة جديدة لا عهدَ لي بها، بل ولا عهد لأحدٍ من الناس بها حين قرأت — لأول مرة — كتابَ الإمام أبي حامد الغزالي «مشكاة الأنوار»، وكان ذلك نحو سنة ١٩٦٠م «فيما أذكر»، حين صدر محققًا ومقدمًا له بمقدمةٍ طويلة للمرحوم الأستاذ الدكتور «أبو العلا عفيفي»، وهو كتابٌ صغير لم يكمل مائة صفحة من القطع الكبير، بما في ذلك مقدمة تحليلية مستفيضة لمحقق النص الدكتور أبي العلا عفيفي، وموضوع الكتاب هو شرح آية النور، ولقد كانت المفاجأة الكبرى التي أيقظتني وفتحتْ أمامي أفقًا واسعًا، ما زال يزداد معي اتساعًا إلى يومي هذا، هي أن رأيت شرح الغزالي للآية الكريمة قائمًا كله على أساس أن «النور» الذي تدور حوله الآية الكريمة هو «الإدراك»، أو قُل إنه هو «العلم»، ولما كانت عملية «الإدراك» هذه قد قال فيها علم النفس الحديث والمعاصر وأفاض، كما قالت فيها الفلسفة الحديثة والمعاصرة وأفاضت؛ وذلك لاهتمام الباحثين اهتمامًا متزايدًا بتحليل العلاقة بين الذات المدركة من ناحية والموضوع المدرك من ناحية أخرى، أقول إنه لما كانت عملية «الإدراك» قد انصبَّت عليها أضواء شديدة، فقد أصبح متاحًا للدارسين منَّا أن يتوسعوا في الأساس الذي أقام عليه الغزالي شرحَه لآية النور، وإن كاتب هذه السطور ليقول صدقًا إذا قال إنه كثير العودة إلى هذه الآية الكريمة، وكأنه يجد في كل مرة معنًى مضافًا إلى ما كان قد انتهى إليه، فمَعينُها لا ينضب بعد أن أمسكنا بالمفتاح الذي قدَّمه إلينا الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار»، إلا أنه إذا كان الغزالي قد فتح من الباب مصراعًا فقد فتحنا منه مصراعَين، والفضل كل الفضل لمن شقَّ الطريق ليسير وراءه التابعون، وها هي ذي صورة متكاملة — في إيجازٍ شديد — لما خرج به كاتب هذه السطور من آية النور مهتديًا بهدْي الإمام.
تقول الآية الكريمة: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ صدق الله العظيم.
-
(١)
أما «المشكاة» التي هي كوَّة في الجدار، فترمز هنا إلى الحواس الخمس: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس — هذا ما يذكره الغزالي — فنضيف إليها الحواس التي حددتها الأبحاث العلمية في هذا المجال؛ كحاسة الاتجاه التي يُدرك بها الحاس في أيِّ اتجاهٍ يسير، حتى ولو أغمض عينَيه وسدَّ أُذُنَيه، وكالحاسة العضلية التي يُدرك بها الحاس وزنَ الأجسام التي توضع على جزءٍ من جسده، فيميز بينها — على التقريب — خفةً وثقلًا، وهكذا بل وقد نضيف إلى هذه الحواس «الظاهرة» حواسَّ أخرى «باطنة»، وجميع هذه الحواس هي الخطوة الأولى من أية عمليةٍ إدراكية؛ إذ هي حلقة الوصل بين الكائن الحاس وما يحيط به من أشياء، وواضحٌ أن النبات والحيوان يشارك الإنسان في هذه الخطوة الإدراكية الأولى؛ إذ هي التي تكفل للكائن الحي إقامة حياته بما شاء له الله سبحانه وتعالى أن يُقيم؛ فالنبات وإن لم يكن له تلك الحواس التي ذكرناها للإنسان، فله وسائله التي يتحسس بها تربة الأرض ليمتصَّ غذاءَه، ويتحسس الهواء ليأخذ منه شهيقًا ويرد إليه زفيرًا، ويتحسس أشعة الشمس والماء ليرتويَ، وهذا كله ضربٌ من «الإدراك» لما يحيط به، وأما الحيوان فمشاركته للإنسان في هذه المرحلة الأولى أوضح من أن يشار إليها؛ لأنه — كالإنسان — ذو بصرٍ وسمع … إلخ. ففي «المشكاة» إذن تتجمع المؤثرات الوافدة إلى الكائن الحي — إنسانًا وغير إنسان — لتكون وسيلته إلى إدراك ما حوله.
-
(٢)
وفي المشكاة «مصباح» وقد يكون من الأوضح لنا أن نتخيل هذا المصباح شعلة النار التي تكون في السراج، والفرق الجوهري بين هذه المرحلة الثانية والمرحلة السابقة، هو أنه بينما يكون الكائن الحاس في المرحلة الأولى «مرحلة المشكاة»، على صلةٍ مباشرة بالمؤثر الخارجي بحواسه، حتى وإن غاب عنه المؤثر الخارجي؛ فمثلًا إذا رأى الرائي كرةً صفراء حين تكون هناك برتقالة موضوعة أمامه، فتلك هي المرحلة المشكاوية، وأما إذا غابت عنه البرتقالة وظلت صورتها مدركة بخياله، فتلك هي المرحلة المصباحية، ومعلومٌ لنا أن النبات لا يشارك الإنسان في هذه الخطوة التخيلية، وقد تكون لبعض الحيوان قدرة الاحتفاظ بالصورة بعد غياب مصدرها، بدليل تعرُّف الحيوان على صاحبه إذا ظهر له بعد غياب. ولنلحظ أن هاتين المرحلتين: المشكاة والمصباح خاصتان بالحواس فلم نجاوزها بعدُ إلى «العقل»، إلَّا أن المرحلة الأولى منهما هي مجرد «إحساس»، في حين أن الثانية تنقلنا إلى «الإدراك الحسي».
-
(٣)
وأما «الزجاجة» التي يكون المصباح فيها «المصباح في زجاجة»، فلعلنا نذكر جميعًا كيف كانت شعلة النار في السراج تظل مضطربة الحركة بفعل الهواء، ويميل لونُها إلى الاحمرار مما يُضعف نورها، حتى إذا ما ركبنا على السراج زجاجته، انضبطت الشعلة وسكنت ومال لونُها إلى البياض، مما يزيد من نورها قوةً ووضوحًا، وتلك هي المرحلة التي تمثِّل لنا «المدرك العقلي» وكيف يتكون، وهي مرحلة ينفرد بها الإنسان وحده دون أيِّ كائنٍ حيٍّ آخر، ولتوضيح ما يحدث في هذه المرحلة من الإدراك «العقلي»، أقول: إن مرحلتَي «الإحساس» و«الإدراك» الحسي، «ويرمز إليهما المشكاة والمصباح على التوالي»، لا تُعطيان إلى الإنسان المدرك إلا صورًا لأشياء فردية معينة محددة الإدراكية بمكانها وزمانها؛ فمثلًا يرى الطفل في أوائل حياته شخصًا معينًا وشخصًا آخر وشخصًا ثالثًا، وهلمَّ جرًّا ومع مرِّ الزمن وتعاقب الأمثلة الفردية في خبرته، يُدرك أجه التشابه — مع أوجه الاختلاف — في هؤلاء الأفراد، فينتقل إلى مرحلة جديدة يُدرك فيها «الإنسان» المتمثل في أولئك الأشخاص الذين كان رآهم أفرادًا، وتلك المرحلة في أول «العقل» ورمزها في الآية الكريمة هو «الزجاجة».
-
(٤)
«الزجاجة كأنها كوكبٌ دري»، ولا بد هنا أن نلحظ كلمة «كأنها»؛ إذ سنبيِّن لك أن «المدرك العقلي» الذي انتهينا إليه في المراحل الإدراكية المذكورة، وإن يكن قد استند إلى ما كانت الحواس قد جاءت به في المرحلتين الأولى والثانية، إلَّا أنه يختلف عنهما اختلافًا كيفيًّا؛ إذ بينهما نراهما يكتسبان كلَّ وجودهما من مددٍ خارجيٍّ، نجد «المدرك العقلي» قد تميز دونهما باعتماده على مددٍ داخليٍّ منبثق من ذاته، وفي هذا الجانب يُشبه «الكوكب الدري»، أي الكوكب الذي يبعث النور من طبيعته هو، ولا يستمده من مصدرٍ آخر خارجيٍّ، كالقمر — مثلًا — فهو ليس كوكبًا دريًّا؛ لأن ضوءَه مأخوذ من الشمس وكذلك الكوكب الأرضي، ومن هنا نفهم المعنى الذي تؤديه كلمة «كأنها» في قوله تعالى عن «الزجاجة» «وهي التي ترمز إلى المدرك العقلي» «كأنها» كوكبٌ دريٌّ؛ إذ هي بأحد جانبها الآخر فهي تستقل بذاتها وتغترف العلم من صميم كيانها ولكن كيف؟ ذلك هو ما تجيب عنه المرحلة الآتية.
-
(٥)
«يوقد من شجرةٍ مباركة»؛ فالكوكب الدري برغم انبثاق ضوئه من ذاته، إلا أنه — عندما يشير إلى عملية الإدراك العقلي — لا بد له من وقودٍ يحركه ليفعل فعله، ولنحصر انتباهنا الآن في أية عمليةٍ إدراكية يؤديها «العقل»؛ لنرى ما هو نوع الوقود الذي لا بد منه لكي يسير العقل في فاعليته وفعله. خذ مثلًا بسيطًا من الرياضة — والرياضة نموذجٌ واضح للعقل وكيف يعمل — فإذا قلنا: «إن الأربعة نصفُ الثمانية»، فلاحِظْ جيدًا أن هذا القول لم يستمدَّ مضمونه من أيِّ مصدرٍ خارجي عنه، بل يكفينا أن ننظر في تعريف «أربعة» وفي تعريف ثمانية وفي تعريف «نصف»، وإذا بنا أمام عملية استدلالية صحيحة نبعَتْ كلها من داخل الجملة الرياضية ذاتها؛ فكأننا قلنا: إنه إذا كانت ثمانية تعني كذا، وكانت أربعة تعني كذا، وكانت علاقة النصف تعني كذا، إذن تكون الأربعة نصف الثمانية، غير أن الذي ساعدنا على إقامة هذا الاستدلال الصحيح هو شيء من مبادئ «المنطق» وقواعده، وليست هي مبادئ وقواعد مفروضة على العقل فرضًا يلوي طبيعته عن ذاتها، بل هي هي «العقل» نفسه، وكل ما في الأمر أنه يحتاج إلى مَن يُشعل فيه الجذوة لينشط، وتلك هي «الشجرة المباركة» التي «توقد زجاجة» العقل، ومن المهم — لكي نزداد وضوحًا بدور «الزجاجة» التي هي «العقل» — أن نسأل: ولماذا هي «شجرة» تلك التي توقد الزجاجة العقلية لتفعل فعلها؟ فيأتيك الجواب من طبيعة الشجرة ذاتها؛ ففي الشجرة فروعٌ تتشابك، الفرع منها ينقسم فرعين، وكل فرع من الفرعين ينقسم بدوره فرعين وهلمَّ جرًّا، ومثل ذلك الانقسام المتتابع يمثل عملية من أهم ما يميز فعل العقل، وهو ما يسمونه في علم المنطق «بالقسمة المنطقية»، وفيها كثيرٌ جدًّا من أصول «المنهج العلمي»، وحسبي أن أذكر شرطًا واحدًا جوهريًّا من شروط التفكير العلمي، وهو شرط الوضوح والتميز، فلكي توقن بصحة علمك عن شيءٍ ما، يجب أن تعرف خصائصه هو ثم تعرف ما الذي لا يختص به، في الشطر الأول يتحقق لك وضوح الحقيقة الماثلة أمامك، وفي الشطر الثاني تعلم ما الذي ينبغي ألا نُدخلَه في تلك الحقيقة الماثلة، وفي قولنا عن شيءٍ ما: إنه كذا وليس كذا شكل من أشكال التفريع إلى فرعين، مما تستمده «زجاجة» العقل من «الشجرة الطيبة»، ولنا أن نُضيفَ إلى خصائص أخرى للشجرة توقد بها زجاجة العقل، فنقول: «الحياة» و«النمو» و«الثمار» إشارة إلى حيوية الفاعلية العقلية ونموها، وما تُثمره آخر الأمر من نتائج لا حياة لإنسان بغيرها.
-
(٦)
عندما تحدثنا عن الشجرة المباركة من حيث هي موقدة لزجاجة العقل، ونظرنا في الخصائص الشجرية التي يمكن أن تساعدنا على فهْم الكيفية التي توقد الشجرة المباركة فاعلية العقل لتشتعل، كان الحديث منصبًّا على شجرةٍ لم يتحدد نوعها بعد الآية الكريمة، فكلُّ شجرة فيها حياة وفيها نمو وفيها تفريع للفروع وفيها أثمار، وفي حدود هذه الخصائص يتحقق ما يراد للعقل أن يفعلَه لينتج علمًا بالوجود، لكن الآية الكريمة بعد أن قالت عن الكوكب الدري «وهو رمز للعقل» إنه يوقد من شجرةٍ مباركة، انتقلت بنا إلى إضافةٍ تُحدِّد نوعًا معينًا من الشجر، لنضيف تبعًا لذلك مرحلة جديدة من مراحل الإدراك إذ قالت: «زيتونة لا شرقية ولا غربية»، فوجب هنا على مَن أراد الفهم أن ينظر في خصائص الزيتونة وما يسري فيها من «زيت»، وما إن يبدأ في النظر حتى تسعفه الآية الكريمة بالجهة التي يجب أن يتجه إليها، وهو ينظر فيما توحي به الزيتونة وزيتها فيما يتعلق بسياق الكلام، فنقول عن الزيتونة «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار»، إذن فاتجاه الباحث ينبغي أن يكون نحو قدرة الزيت على الاشتعال الذي يُضيء، وهنا تستوقفنا كلمة «يكاد»؛ فالزيت المقصود «يقترب» من أن يُضيء بذاته، غير مستعين بنارٍ تأتيه من خارجه لتُشعله، فإذا كانت الشجرة المباركة منظورًا إليها على أنها مطلق شجرة، كانت رمزًا لما تحمله فطرة الإنسان التي فطرت فيه بمشيئة خالقه، من قوانين تنظم فعل العقل لينتج من العلم ما ينتجه، فإن تلك الشجرة المباركة نفسها — بعد أن يتعين نوعها «زيتونة» — تتجه بعونها نحو مرحلةٍ إدراكية فوق مرحلة العقل وهي مرحلة «الحدس»، «والحدس مصطلح أظن أن الإمام الغزالي هو أول مَن استخدمه ليدل على البصيرة التي تُدرك ما تدركه إدراكًا مباشرًا، ولنتذكر هنا أن العقل إدراكه غير مباشر»، لقد كان العقل في إدراكه مقيدًا بما يفرض عليه من معطيات؛ إذ ما على العقل إلا أن «يستدل» من المعطيات نتائجها، وبهذا تنتهي مهمة العقل لكن الحاجة إلى مزيدٍ من «النور» لا تنتهي، فكثيرة جدًّا هي «الأنوار» المطلوبة ليكتمل العلم بالوجود، مما يجاوز حدود العقل المقيد بما يعطى إليه من المقدمات، فالغايات — مثلًا — التي يتغياها الإنسان ليست من عمل العقل، ليبحث عن الوسائل التي بها يوصل إلى تلك الغايات، ورؤية الشاعر ورؤية الفنان لا يمليهما «عقل» بل هما لمعات مباشرة، والشوق الذي يملأ قلب المتصوف فيدفعه نحو التماس طريقه إلى الله سبحانه ليس من صنع «العقل»، ولكنه نورٌ يقذف في قلبه وهكذا، ومعنى هذا كله أن «الكوكب الدري» «أي العقل» لم يكن نهاية الدرجات الصاعدة في طريق الإدراك نحو مزيدٍ من «النور»، بل إن هناك درجة تأتي بعد العقل، وهي الدرجة التي ترمز إليها «الزيتونة» بزيتها الذي يكاد يضيء بذاته ولو لم تمسسه نار، وهي درجة الإدراك «الحدسي» المباشر للحق، وعلى هذا الضوء نفهم لماذا كانت الزيتونة لا شرقية ولا غربية؛ لأن مثل ذلك الإدراك الروحاني المباشر لا تقيده ظروف مكانية خاصة كما كانت الحال مع الإدراك العقلي، فهذا الإدراك العقلي — كما رأينا — يتجه بأحد جانبَيه نحو ما يعطى إليه من مدركات الحس، ثم يتجه بالجانب الآخر نحو الشجرة المباركة ليستمدَّ منها قوانين فعله فيما أعطيه، وكل هذه الروابط يتجرد منها الإدراك «الحدسي» أو «الروحاني» المباشر، الذي هو في انبثاقه شبيه بالضوء ينبثق من الزيت انبثاقًا مباشرًا.
لكننا مضطرون هنا إلى العودة بأنظارنا نحو كلمة «يكاد» في قوله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فنشعر بما يرجح لنا أن «الزيت» يرمز إلى «الموهبة» التي يهبها الله تعالى لمن يشاء، والموهبة عند الموهوب لا تكفي وحدها، برغم أن طبيعتها «تكاد» تنطق بما وهبت لتنطق به، إلا أن فعلها على الوجه الأكمل لا يتحقق إلا بنارٍ توقدها وتحركها، وقد تكون تلك النار وحيًا يوحَى إلى الموهوب، فيهديه إلى أداء ما يؤديه. -
(٧)
إن هذه الدرجات الإدراكية المتتابعة في تصاعدٍ من عملية الإحساس البسيط، الذي هو مجرد تأثُّر الحواس بما يؤثر فيها من مؤثرات كالأضواء والأصوات وغيرها، تعقبها مرحلة داخلية تجعل التخيل قادرًا على أن يحتفظ بما كان قد تلقاه من تأثراتٍ حسية حتى بعد زوال مؤثراتها، وبعد ذلك تأتي مرحلة المدركات العقلية آخذة من الحصيلة الحسية مادتها، ومستعينة بما تعينها به «الشجرة المباركة» من قوانين التعقل، ثم تأتي آخر الأمر مرحلة تجاوز نطاق المحسوس والمعقول معًا، إلى ضربٍ من الإدراك الروحاني المباشر وهي مرحلة يندرج فيها «الإبداع» بكل ضروبه، أقول: إن هذه الدرجات المتتابعة والمتصاعدة هي التي قد يعنيها قوله تعالى: نُورٌ عَلَى نُورٍ، ففي كل مرحلةٍ قدر من النور، تأتي المرحلة التي تليها لتُضيفَ إلى نور سابقتها نورًا أقوى، ولعل هذا هو أيضًا ما جعل الغزالي يُعنوِن كتابه «مشكاة الأنوار»؛ إذ هي عدة أنوار يجيء النور الواحد فيها على النور الأسبق فيشتدُّ الوهج.
-
(٨)
بقيت ملاحظتان جديرتان بالذكر: الأولى هي أن نلتفت إلى قوله تعالى في أول الآية الكريمة: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وإلى قوله تعالى في آخر الآية الكريمة: وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، مما يرجح أن يكون «نور السموات والأرض» هو «العلم بكل شيءٍ»، أي أن «النور» هو «العلم»، وأما النقطة الثانية التي نوجه إليها النظر فهي أن أول الآية الكريمة وآخرها معًا يشيران إلى النور «الإلهي» أو العلم «الإلهي»، في حين أن كل ما أوردناه في حديثنا من مراحل الإدراك، كان يشير إلى النور أو العلم في حياة «البشر»، وهنا قد يقف قارئ ليسأل: أليس في هذا نقلة بالحديث من فلكٍ إلى فلك، أو هو — بعبارة أصرح — خلطٌ بين موضوع وموضوع؟ لكن الجواب عن سؤالٍ كهذا قائمٌ في نص الآية الكريمة ذاته في أولها وفي آخرها معًا؛ ففي أولها إشارة إلى أن ما تقدمه الآية الكريمة من مراحل الإدراك، إن هو إلا «مثل» يوضح للإنسان معنى «النور» الإلهي، الذي هو نفسه «العلم» الإلهي، وفي آخرها تنبيهٌ يقول «ويضرب الله الأمثال للناس»، فلا تناقض — إذن — ولا خلطَ بين ما هو «مثال» وما هو «مثل»؛ فالنور أو العلم حين يكون لله سبحانه وتعالى هو «مثال» يأتينا عنه النبأ، لكننا لا ندركه ولا نتصوره إلا من خلال «المثل» الذي يُساق لنا على مستوى البشر وحياتهم كما يحيونها.
المثال الإلهي هو «النور» ويعادل ذلك أن يكون هو «العلم بكل شيء»، وأما المثل البشري فهو «التنوير» وبالتالي فهو العلم بشيءٍ دون أشياء وأشياء، فمعنى «التنوير» هو أن يسير نحو النور سيرًا يستهدف المثل الأعلى دون أن يبلغَه، وهو سيرٌ تتحرك فيه إلى أمام وإلى أعلى تلك المراحل الثلاث التي رسمتْها آية النور، وهي مرحلة الحس والإدراك الحسي «وهما المشكاة والمصباح»، فمرحلة الإدراك العقلي «التي هي الزجاجة أو الكوكب الدري»، ثم مرحلة أخيرة تجاوز حدود الحس والعقل معًا، وأعني بها مرحلة الإدراك «الحدسي» المباشر، وإن شئت فقُل عنه إنه إدراكٌ روحانيٌّ أو إدراكٌ بالقلب، فلا هو يتوسل بوسائل الحواس وحدها، ولا هو يعتمد على العقل وحده، وإنما هو إدراكٌ يجاوز حدود الحس والعقل ليخترق الحجب فيرى من جوانب الحق ما لا يراه حس، ولا هو مما ينخرط في قوالب المنطق العقلي بمبادئها وقوانينها الحادة الصارمة، فإذا شئنا عبارة مختصرة تصف عملية «التنوير» قلنا إنه هو الارتفاع بالإنسان درجة درجة في استخدامه لحواسه، لتصبح له مصدرًا لمعرفة دنياه، ثم الارتفاع به في استخدامه لعقله استخدامًا يتيح له الركون إليه، فلا يجعل من نفسه تابعًا لغيره فيما هو صحيح وما هو باطل، وأخيرًا الارتفاع به في قدرته على الإبداع؛ لأنها هي نفسها القدرة على أن يجاوز حدود «الواقع» إلى ما هو أسمى منه وأرفع: تراها في إيمان المؤمن، وفي لمعة الشاعر، وفي لمحة الفنان، بل إنك لتراها كذلك في رجل العلم بعد أن يجمع معلوماته الأولية عن موضوع بحثه؛ ليضعها بين يدَيه محاولًا أن يجد لها «النظرية» التي تضمها معًا تحت تفسيرٍ واحد، ففي اللحظة التي يُشرق له في ذهنه «فرض» يفرضه لعله يصح في التفسير المطلوب، تلمع في ذهنه الفكرة وكأنها إلهامٌ هبط عليه من السماء.
ولقد شهد التاريخ عصورًا تميزت عما سواها بوهج «التنوير» في حياة الناس الإدراكية: من تزايدٍ في محصول المعرفة بالعالم، ومن كشفٍ وراء كشف للقوانين العلمية التي تجري على منوالها ظواهرُ الكون. ومن إرهاف البصيرة المبدعة إيمانًا وأدبًا وفنًّا، وفي كل عصر من عصور التنوير تستطيع أن ترى كيف أخذت معارف الناس تزداد على مدى فترة من الزمن تطول قرونًا أو تقصر عقودًا من السنين، حتى إذا ما بلغت تلك الزيادة في محصول المعرفة حدًّا معينًا تفجرت ينابيع الإبداع.
ففي تاريخ الفكر الإسلامي لم يكَدْ يمضي على الرسالة الدينية الجديدة قرنٌ واحد، حتى نشطت حركةُ التجميع لأطراف المعارف ومعها حركة التقنين العلمي، وكان ذلك ملحوظًا في علوم اللغة وفي الفقه ثم في نقل ثقافات الآخرين، فلما أن جاء القرن العاشر وامتداده في الحادي عشر «الرابع الهجري والخامس»، بلغ «التنوير» ذروته، فكانت رسائل «إخوان الصفا» بمثابة دائرة المعارف، التي هي عادة رمزٌ يشير إلى التنوير من ناحية جمع المعلومات، وكانت الفلسفة قد بلغت ذروتها عند الفارابي وابن سينا مما يشير إلى سلطان العقل، وكان مع الفلسفة في تلك الإشارة إلى سلطان العقل حركة قوية في النقد الأدبي، وإذا قلنا «النقد الأدبي» بالنسبة إلى السلف، فكأننا قلنا إنه «العقل» بتحليلاته العلمية التي لم يكن الركون إلى أحكام «الذوق» فيها، إلا بمثابة «الحلية» الصغيرة توضع على الثوب العريض، بل إن الشعر ذاته قد غلبت عليه النظرة الحكمية التي تطل على الإنسان من أعلى لتكشف الستر عن حقيقته، وإن أبا العلا المعري وشعْره لأبلغ شاهد على ذلك.
وفي التاريخ الأوروبي الحديث ما يشبه ذلك، فنحن نعلم أن القرن الثامن عشر منعوت عندهم بأنه عصر «التنوير»، فماذا كان فيه وما الذي كان فيما سبقه؟ أما ما سبقه فنهضةٌ ثائرة وجارفة بدءًا من القرن الخامس عشر، أراد بها الناس أن يحطِّموا قيود العصور الوسطى التي جنحت بالإنسان، نحو أن تعتقل قدراته الإدراكية في صفحات كتبها السابقون، فجاءت النهضة لتُخرج الناس إلى رحاب الكون الفسيح ليواجهوا الدنيا مواجهةً مباشرة، فكانت الكشوف الجغرافية في البحر والبر، وكانت جولات المناظير الفلكية في السدم والنجوم والكواكب، وكان تغلغل الفكر الفلسفي في خفايا العقل، ليرى حقيقة ذلك العقل وكيف يعمل وما حدوده؟ وكان وكانت مما ازدادت به معارف الناس، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر ويسمونه «عصر العقل»، وحسبك أنه عصر ديكارت والديكارتيين، لكنه عقلٌ اقتصر عندئذٍ على الصفوة، فجاء القرن الثامن عشر ليكون هو عصر «التنوير»، الذي يشدُّ جمهور الناس شدًّا ليدخلوا مع الصفوة في دائرة العقل، وعلى رأس «التنوير» كان فولتير، وكانت المعارف الموسوعية ثم كان هناك في ذروة الجبل مع السحاب «عمانوئيل كانط» فيلسوف العصور الحديثة فيما قبل عصرنا القائم، الذي التفت بالعلم لفتةً جديدة، فالتفتت معه الفلسفة المعاصرة لتسايره في اتجاهٍ واحد، وللفيلسوف كانط مقالة يحدد فيها معنى «التنوير»، ترجمها إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، ورد فيها تعريف «التنوير» على الوجه التالي: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام العقل.»
لقد كان لي في مصاحبتي للآية الكريمة آية النور خيرٌ وبركة، فعلى ضياء أنوارها رأيت ما لم أكن رأيته بكل هذا الوضوح، فيما قد يعنيه: «التنوير» في حياة البشر.