عن العقل ونضجه «٢»
كان «أرثر كيستلر» قُبيل وفاته منذ بضع سنوات، قد شغل نفسه بالأحداث الغريبة التي تقع لكل إنسان في حياته ولا يدري كيف يفسِّر حدوثها؛ لأنها تأتي وكأنها مدبرةٌ بفعل فاعلٍ، إلَّا أنه لا فاعل هناك يستطيع من وقع له الحادث أن يردَّ إليه حدوثه، والناس بعد ذلك صنفان: صنفٌ منهما يلجأ في تفسير ما حدث إلى فعل «المصادفات»، وصنفٌ آخر يبحث لغرائب الحوادث عن فاعلٍ خفيٍّ يرى نتائج فعله ولا يراه، فماذا يفسر أن يخطر ببالك شخصٌ معين لم تكن قد رأيته ولا سمعت منه أو عنه لمدة ربما طالت عشرات السنين، ثم يفاجئك بمكالمةٍ هاتفية أو بخطابٍ تجده في صندوق البريد، أو ترى اسمه مذكورًا في الصحف؟ وبماذا تفسر أن تحاول تذكُّرَ شيءٍ كنت حفظته، كبيتٍ من الشعر أو قولٍ معين قاله قائلٌ عظيم أو غير ذلك، لكن الذاكرة لا تسعفك مهما أجهدتها، ثم يحدث أن تنصرف عن ذلك كلِّه، إلى موضوعٍ آخر تُطالع عنه ما تطالع، وإذا بالشيء الذي أخفقت الذاكرة في أن تقدمَه إليك واردٌ أمام عينَيك في الصفحة التي تطالعها.
وكثيرةٌ جدًّا هي هذه الحوادث الغريبة، مما حدَا بأرثر كيستلر — وكان في طليعة الطليعة من رجال الفكر في عصرنا هذا — أن يتجه إلى أمثال تلك الغرائب في حياتنا بكل جهده، وأذكر في هذا الصدد أنه أعلن في الصحف الإنجليزية عن رغبته في أن يُرسل إليه كلُّ مَن صادفتْهُ في حياته أحداثٌ كهذه — أن يرسل إليه تفصيلاتِها فجاءتْه الرسائل تملأ الزكائب (كما قرأت ما كتبه هو نفسه يومئذٍ عن ذلك)، ولست أعلم إن كان قد استطاع أن يجد ما يقوله على سبيل التعليل لتلك الغرائب، تعليلًا يقرب من دقة العلم، أم أن المنية أسرعت إليه فبقيت الرسائل في زكائبها؛ وذلك لأنِّي قرأت عن وفاته بعد ذلك بقليل، ومع ذلك فلم يكن الأمر متروكًا لاجتهادات المفكرين، بل إننا لنعلم أن علماء النفس قد تناولوا الموضوع تناولًا علميًّا، وجعلوه فرعًا جديدًا من فروع علم النفس، وأُقيمت له كراسي الأستاذية في الجامعات، ربما لا يزيد على أصابع يدٍ واحدة في إنجلترا والولايات المتحدة مجتمعين، ويشهد كاتب هذه السطور عن نفسه بأن أمثال تلك الغرائب كثيرًا ما تقع له متفاوتةً في درجة غرابتها، لكنه في جميع الحالات يُحيلها إلى فعل «المصادفات»، إلا أنه في كل حالةٍ منها يشعر بشيءٍ من القلق الداخلي؛ إذ يشعر بأن إحالة التفسير إلى «المصادفات»، قد يكون فيه شيءٌ من التناقض؛ لأنه إذا صلحت المصادفة أن تكون تعليلًا معقولًا، إذن فالمصادفة لم تَعُد مصادفة، وفي ذلك ما فيه من تناقضٍ واضح، ومع ذلك فهو — أعني كاتب هذه السطور — سرعان ما يترك الأمر ليمضيَ دون أن يقف عنده وقفةً يستحقها، ولقد شاءت لي هذه «المصادفات» المحيرة أن أكون ذات يوم بعيد، عضوًا في لجنة امتحان الماجستير لرسالةٍ علمية تقدَّم بها صديقي الأستاذ محمود أمين العالم، ولعلها أهم وأشمل وأدق ما صادفته مكتوبًا عن المصادفة.
والذي دعاني إلى كتابة ما كتبته في الأسطر السابقة، هو ما رأيته ماثلًا بين يدي من خطوطٍ تلاقت، وكان الظن أنها أبعد ما تكون عن أن تتلاقى، فتلك الرسالة التي جاءتْني تسأل عمَّا قصدت إليه، عندما قلت في سياق حديث عن العقل وعن كون الإسلام آخرَ الرسالات السماوية، إن العقل الإنساني كان قد نضج بحيث تهيَّأ لقبول مبادئ لم يستطع الإنسان في ظروف سابقةٍ أن يتمثلها «أما وقد نضج العقل الإنساني»، فقد حضَّ القرآن الكريم الإنسانَ على إعمال عقله، ومن ثَم فهو قادرٌ — إذا اجتهد — على الاهتداء بعقله إلى حلِّ المشكلات التي تستحدث في حياته، ولا يكون منصوصًا عليها بحكمٍ معين في الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، وأجبت عن سؤال صاحب الرسالة بما أجبت به في الحديث السابق، لكني شعرت أن بقيةً من الإجابة ما زالت باقيةً في نفسي تريد الخروج، فأخذت أفكر لها في طريقٍ تلتمسه لتجد نفسها مسطورةً على ورق، وهنا حانت من البصر التفاتةٌ إلى سطح مكتبي لأرى كتابًا حديثَ الظهور عنوانه «عبد الرزاق السنهوري، أوراقه الشخصية»، إعداد الدكتورة نادية السنهوري، والدكتور توفيق الشاوي، فانفتح أمامي فجأةً أفقٌ فسيح، وقبل أن أُديرَ غلاف الكتاب عادت بي الذاكرة إلى أول يومٍ من أوائل سنة ١٩٤٧م؛ إذ كنت في لندن وسمعت أن وفدًا جاء من مصر ليكون مع وفود الأقطار العربية في لقاء سياسي عن فلسطين مع وزير خارجية بريطانيا عندئذٍ وهو «أرنست بيفن»، وكان الوفد المصري برئاسة الدكتور عبد الرزاق السنهوري وكان الأستاذ أحمد أمين أحد أعضائه، فذهبت إلى حيث تقيم الوفود لأسلم على المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهناك وجدته جالسًا في غرفة استقبال خاصة مع المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي لم أكن قط رأيته قبل ذاك وجهًا لوجه، وإن كنت بالطبع قد عرفت عنه مما يكتب ويقال كثيرًا وأكثر من الكثير؛ لأنه رجلٌ ملأ الأسماع بأطيب ما يقال عن رجلٍ بلغ الذروة في ميدان تخصصه نظرًا وتطبيقًا، ولكن «ليس راءٍ كمَن سمع»؛ فلقاء الرجل لقاءً مباشرًا يعطيك ما لا يعطيه سماعك عنه، قدَّمني إليه الأستاذ أحمد أمين، ولم يستغرق اللقاء بعض الساعة حتى انطبعت في نفسي عنه صورة قوية، همست لنفسي عنها آنئذٍ قائلًا: «إن هذا الرجل عقلٌ تجسَّد في إنسانٍ.» وهي عبارة تصدق كذلك على الأستاذ أحمد أمين، فلا عجب أن رأيتهما معًا.
وعدت إلى الكتاب الذي بين يدي «عبد الرزاق السنهوري: أوراقه الشخصية»، فقرأت أول ما قرأت مقدمتين كتبت إحداهما د. نادية السنهوري، وكتب الأخرى د. توفيق الشاوي؛ فأما المقدمة الأولى فتقطر حنانًا وحنينًا من ابنة تنشر أوراقًا لأبيها، وأما المقدمة الثانية ففيها تحليلٌ وإيضاحٌ عرفت مما ورد فيها، أن الدكتور السنهوري لم يكتب هذه الأوراق للنشر، وإنما كتبها لنفسه ليسجِّل فيها ما ينبض به قلبُه، وما يجول بخاطره من خواطرَ وآراء ومخططات، ليرجع إليها هو حتى يستضيء بها في حياته، ويسير على هديها ويلتزم بها، إنها حديثٌ مع نفسه هو لا مع الناس؛ لذلك فهي تمتاز بأنها أقرب للصدق؛ لأن الإنسان لا يكذب على نفسه عادةً، وقد وصفها السنهوري نفسه بأنها مذكراتٌ شخصية.
أذكر أنه نُسِب للنبي ﷺ قوله: إن الأحكام الشرعية وافقت العقل عدَا ما في هذا القول الحكيم من التسامح الذي لا أعلم أن دينًا وصل إليه، ومن السعة التي تجعل الدين الإسلامي دينَ كلِّ زمان ومكان، أُلاحِظُ أن العقل الذي يقصده النبي ﷺ في قوله هو في نظري ذلك العقل الذي يتطور مع الزمن ويتكيف مع المؤثرات المختلفة، ولا شك في أن النبي ﷺ لم يأتِ بأحكامٍ تتناقض مع العقل في زمنه أو توقع إمكان تناقضها في المستقبل، بل إنه نظر إلى إمكان تطور العقل، فأوجد في الأحكام التي أتى بها مرونةً وجعلها صالحةً لكل زمنٍ تُطبَّق فيه، وبعدُ فهل العقل البشري استقرَّ على حالة؟ ومَن كان يُنكر على أرسطو — وهو من أكبر العقول في زمنه — قولَه إن الرقَّ ضروريٌّ للمدينة؟! وتعليقًا على هذا الذي أثبته السنهوري الشاب في مذكراته، أودُّ أن أشيرَ إلى أصلٍ وما يتفرع عن ذلك الأصل؛ فأما الأصل فهو أنني أخشى أن يكون السنهوري في تلك السنِّ الباكرة، قد فاتته التفرقة بين جانبَين عند تصوره لحقيقة العقل، وهي تفرقةٌ أظن أنها كذلك قد فات الكاتب الفاضل الذي بعث إليَّ برسالته إدراكها، وأول هذين الجانبين من حقيقة العقل هو الجهاز الفطري، الذي جبل في طبيعة الإنسان منذ كان إنسانًا، وهو جهازٌ لم يَقُل أحدٌ إنه تغيَّر أو تطور، وقوامه طريقةٌ إدراكية بين طرقٍ أخرى عن طريقها يعرف الإنسان ما يعرفه عن نفسه وعمَّا حوله، والذي يميز النمط العقلي من غيره هو الحركة الاستدلالية، وأرجوك أن تتمهل هنا قليلًا حتى تُحكم قبضتَك على هذا الفارق الهام؛ فالعقل لا يُدرك ما يُدركه بطريقٍ مباشر، كما تفعل العاطفة أو كما تفعل الغرائز، بل طريقته هي أن يستدلَّ نتيجة من مقدمة أو من شواهدَ تُقدمها إليه الحواس.
ومعنى ذلك هو أن العقل حركة انتقالية من طرفٍ معلوم إلى طرفٍ أصبح معلومًا بعد أن كان مجهولًا؛ ولهذه الحركة الانتقالية قوانينها التي هي جزءٌ من فطرة الإنسان، إذا أحسن استعمالها والتزامها أيقن أن النتيجة التي وصل إليها صحيحة، ما دام موقنًا بصحة الشواهد أو المقدمات التي بدأ منها؟ وذلك هو معنى العقل من حيث هو جهاز إدراكي، وهو بهذا المعنى لا يتطور ولا ينمو، اللهم إلا إذا أراد الله للإنسان أن يكون كائنًا آخر غير الإنسان المعروف.
وأما الجانب الثاني من جانبَي العقل فهو خاصٌّ بالمادة الفكرية، التي يعمل فيها ذلك الجهاز الذي ذكرناه، فشأنه في ذلك شأن طاحونة معدَّة لطحن الغلال، فلا بد من غلالٍ فيها لتتم عملية الطحن، وما يقابل الغلال في العملية العقلية هو معطيات الحواس والأفكار، وواضحٌ أنه كلما كثر المحصول الفكري وجد جهازُ العقل فرصةً أوسع ليؤديَ عمليته الاستدلالية بصورةٍ أرقى وأكمل، فأقل ما يُقال في هذا الصدد هو أن جهاز العقل يتمكن من إجراء مقارناتٍ بين أفكارٍ مختلفة، فيستدل من المقارنات ماذا يرجِّح فكرة منها على فكرةٍ، ومن هنا رأينا الأسفار بين بلدان العالم تزيد المسافر قدرةً على معرفة أفكاره التي بُثَّت فيه وهو في بلده، ومدى نصيبها من الحق، لقد صاغ هذه الحقيقة صياغة جميلةً الشاعرُ الإنجليزي المعروف رديارد كبلنج صاحب القول المشهور: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيَا.» قال موجِّهًا حديثَه إلى مواطنيه الإنجليز ما معناه: ماذا عساك تعلم عن إنجلترا إذا كنت لا تعرف إلا إنجلترا؟ أي أن الإنسان لا يعرف نفسه ولا وطنه ولا ثقافته حقَّ المعرفة إلا إذا قارنها بسواها؟ وهكذا ترى أن غزارة الجانب المعرفي عند الإنسان، من حيث كثرةُ الأفكار والخبرات كثرة عددية من جهة، وارتفاعًا في مستواها من جهة أخرى، تمكِّن الجهازَ العقلي من إدراك أوسع أفقًا وأبعد أعماقًا، فهنالك فرقٌ فيما تحصله من معلوماتٍ ومعارفَ وعلوم وخبرات، بين أن تقف بها عند السطح المرئي المسموع، وبين أن تستخلص من ذلك السطح ما قد ينتج عنه من قوانين عامة ومن مبادئ أعم، وذلك هو ما نعنيه بارتفاع المستوى الفكري وعمق أغواره، وهذا الجانب التحصيلي من المواد الفكرية، هو الجانب العقلي الذي يتطور ويعلو ويعمق، وبكلمةٍ واحدة نقول: إنه هو الجانب الذي ينضج نضجًا ليس له حدٌّ نهائي يقف عنده، كذلك الحد الذي رآه الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، والذي أراد أن يقيس عليه النضج العقلي ليفهم حقيقته.
ذلك هو «الأصل» الذي أردنا الإشارة إليه في تعليقنا على ما كتبه السنهوري الشاب في مذكراته، وأما ما يتفرع عنه مما نودُّ أن نُشيرَ إليه كذلك بشيءٍ من التعليق، فذلك قوله: «أذكر أنه نُسب للنبي عليه الصلاة والسلام قوله إن الأحكام الشرعية وافقت العقل …» وقد علَّق على هذا الدكتور توفيق الشاوي بأنه فيما يعلم قولٌ قاله فقهاءُ كثيرون، لكنه لا يذكر أن قد رآه حديثًا منسوبًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويرى كاتب هذه السطور أن القول على كلتا الحالتين جديرٌ بالوقوف عنده في سياق حديثنا هذا؛ إذ يهمُّنا أن نعرف ماذا يعني القول بأن «الأحكام الشرعية وافقت العقل»، فقد أسلفنا لك أن ما يميز النمط العقلي في الإدراك، هو أنه حركةٌ انتقاليةٌ بين طرفَين يتم بها استدلال نتيجة من مقدماتها أو شواهدها، وعلى هذا الأساس يكون معنى القول بأن أحكام الشريعة وافقت العقل، هو أن تلك الأحكام قد استخرجت استدلالًا من أصلٍ صحيح ولذلك فهي صحيحة، وكذلك هي تصلح أن تكون بدورها أصلًا نستخرج منه نتائج فرعية، ونحكم عليها بالصحة ما دُمْنا على ثقةٍ بأننا قد سِرْنا في الخطوات الاستدلالية سيرًا محكمًا، وأهمية هذا في سياق حديثنا هذا هو أن نضع بين يدي الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، وجهًا آخر من الأوجه التي يجد فيها الإجابة عن سؤاله: ماذا كنت تعني بالنضج العقلي عندما ذكرت لنا في كتاباتك أن العقل الإنساني كان عند ظهور الإسلام قد نضج، بحيث أمكن للإسلام أن يُحيلَ الإنسان إلى عقله بعد ذلك، فيما قد يستحدث له في حياته من مشكلاتٍ، مما لم يَرِد عنه حكمٌ قاطع في الكتاب والسنة؟ نستطيع الآن أن نقول للكاتب الفاضل إن جانبًا من جوانب ذلك النضج العقلي الذي زعمناه، هو أنه كان قد تهيَّأ لقبول أحكامٍ شرعية، صيغت على نحوٍ تتسق به مع العملية الاستدلالية، التي هي أهم ما يتميز به الإدراك العقلي، عندما يجد في متناوله حصيلةً فكرية تمكنه من سعة الأفق في مقارناته وتحليلاته واستدلالاته.
وعند هذا المنعطف من حديثنا ننتقل فيما بقيَ لنا أن نقوله إلى حياتنا الفكرية الراهنة، لننظر إليها من زاوية النضج العقلي بالمعنى الذي أشرنا إلى بعض معالمه، لعلنا نقع على مواضع القصور التي تجمَّعت فأحدثتْ ما نحسُّه من قلقٍ حول تلك الحياة، فكثيرًا جدًّا ما يحدث أن يبدأ الإنسان بانطباعٍ ما عن موقفٍ ما، ثم يعقب عليه بتحليل ذلك الموقف إلى عناصره تحليلًا عقليًّا، فيتحول الانطباع إلى فكرةٍ لها حدودها؛ فالانطباع العام الذي ينطبع به بعضنا اليوم، وأقول «بعضنا»؛ إذ يرجح لمن هم في مرحلة الشباب من مبدعي الفكر والأدب، أن تكون لهم رؤيةٌ — أخرى — أقول إن الانطباع العام عند بعضنا اليوم عن حياتنا الفكرية والأدبية أنها قد تراجعت بنا مسافة ليست بالقصيرة عما كان الجيل الماضي قد بلغه من «النضج العقلي»، ولا تَقُل إن مثل هذا التراجع إنما هو ضد طبائع الأشياء؛ لأن سير التاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد إمكان أن تجمد حركة التقدم حينًا، وإمكان أن تنتكس تلك الحركة حينًا دون أن ينفيَ ذلك اطِّراد التقدم إذا نظرنا إلى المسيرة الحضارية في مجموعها، ومع ذلك فهذا الكاتب يعرض رأيه راجيًا أن يكون فيه على خطأ، وهو أن هذا الجيل في حياتنا الفكرية والأدبية، وخصوصًا الفكرية قد انتكست به حركة الصعود الذي صعد به الجيل الماضي في منحنى النضج بالمعنى الذي حددناه، والذي نحن في سبيلنا إلى بيان مزيدٍ من توضيحه وتحديده.
وأول الجوانب التي أعرضها هنا لأضيفها إلى الجوانب التي أسلفتها، هو جانب المحصول الفكري الذي أشرت إليه في الفقرات السابقة، فأصحاب المواهب من أبناء هذا الجيل يعتدُّون بمواهبهم إلى الدرجة التي يظنون بها أن وجود الموهبة في ذاته يكفي، وحقيقة الأمر هي أن الموهبة، مجرد الموهبة، إنما هي استعدادٌ كالذي نراه في مسابقات الجري حين يصطفُّ المتسابقون عند الخط الأبيض في أول المضمار ينتظرون صفارة البدء، فترى الواحد منهم قد استعدَّ بوضع جسده وضعًا خاصًّا توترت فيه العضلات استعدادًا للانطلاق، كما يشدُّ الفارس قوسَه لتنطلق القوس إلى آخر مداها إذا ما أرخَى الفارس قبضته، فما الذي لا بد من إضافته إلى الموهبة مما يُعين على نُضْج نتاجها؟ إن أول ما يُضاف خبرة بالحياة تتسع آفاقها حتى تشمل حَيَوات الآخرين ما استطاع الموهوب إلى ذلك سبيلًا؛ وذلك لتسهل المقارنة بين الأضداد فتنقدح شرارة الإبداع، وأهم من هذه التوسعة الأفقية توسعة أخرى رأسية، يرجع بها الموهوب إلى تاريخ الفرع الذي هو موهوبٌ فيه، لا ليعرفه مجرد معرفة باردةٍ ساكنة، يجمع به معلومةً إلى معلومة ليعلوَ الكوم، كما يجمع البخيل مالًا إلى مالٍ حتى تتخم خزائنُه بمخزونها، دون أن يتغير من حياته شيء، بل يجب أن تكون مراجعة الموهوب لتاريخ مجال موهبته تفاعلًا حيًّا، حتى إذا ما جاء دوره في الإبداع وإن كان مختلفًا بزاويةٍ منفرجة عن مبدعات السابقين، فإن إبداعه يجيء مشبعًا بالروح التي تؤهله لأن يكون جزءًا من تاريخ المجال الذي هو موهوب فيه، وإلا فهل رأيت تاريخًا لأي جانبٍ من جوانب الحياة التي يتناولها مؤرخوها بالتسجيل، قد جاء على صورة حلقات منفصلة إحداها عن الأخرى، إنه لو كان الأمر أمرَ حلقات متناثرة، كل حلقة فيها كيان مستقل بذاته لا شأن له بما عداه من نواتج، لَأمكَنَ منطقيًّا أن تضع الحلقة الواحدة منها في أيِّ سياقٍ تاريخي تُصادفه أصابعك، فتضع شاعرًا عربيًّا في تاريخ الأدب الصيني، وروائيًّا عربيًّا في تاريخ الأدب الأرجنتيني، ولمَ لا؟ ما دامت تلك الحلقة لا تربط نفسها أفقيًّا بعصرها ورأسيًّا بقومها وتاريخها؟
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أرويَ عن لحظةٍ منذ قريبٍ، كنت فيها أستمع إلى البرنامج الثاني في إذاعتنا المصرية، وفتحتُ الجهاز على ندوة في النقد الأدبي، يشترك فيها اثنان أُقدرهما أعظم تقديرٍ، ولكَم آلمني أن أجد فيما بينهما تلميحًا، لم أشكَّ في أنه يشير إلى شخصي دون أن يذكر اسمي، وكان التلميح مسيئًا لا عن طريق اختلاف الرأي؛ فاختلاف الرأي مشروعٌ ومطلوب، ولكنه مسيءٌ بما حمله من نبرةٍ ساخرة؛ فأحد الصديقين نطق لفظةً معينة إلى نصفها، ثم كتم النصف الآخر ممزوجًا بضحكةٍ حبسها بين شدقَيه، وردَّ الصديق الآخر يؤيده لكنه كان تأييدًا والحمد لله مبرأً من السخرية، وكان موضوع الحديث بينهما ذا علاقة بهذا الذي أقوله، وهو وجوب أن تكون موهبة الموهوب موصولة على بُعدَين، فهي موصولة على بُعدٍ أفقي بعصرها، ثم هي موصولة على بُعدٍ رأسيٍّ بماضيها، ومن هذه العناصر كلها الموهبة الخاصة، والحاضر الذي تعيشه الدنيا والماضي الذي ورثناه، أقول إنه من هذه العناصر كلها مؤتلفة في الناتج الإبداعي فكرًا وأدبًا وفنًّا، بل ونظمًا اجتماعية من تعليمٍ إلى سياسةٍ واقتصاد وما شئت أن تضيف، هي التي تكفل «النضج» فيما تُبدعه المواهب، والحق أن أعجب ما عجبت له من تلميح الصديقين في ندوة النقد: الزاوية التي فَهِما بها معنى المعاصرة، فقد حسباها مجرد أن يكون الإنسان موجودًا في عصره! وأن يكون الدليل على ذلك عندهما — فيما أظن — أن ننظر إلى لوحة التقويم المعلَّقة فوق الحائط، فإذا رأيناها تُشير إلى سنة ١٩٨٨م ثم رأينا أنفسنا نتنفس الهواء ونأكل الطعام في سنة ١٩٨٨م، كنا معاصرين نعيش في عصرنا، وما دام ذلك كذلك وضوحًا وسطوعًا، ففيمَ كل هذه اللجاجة عن الدعوة إلى المعاصرة، وهي صفة لاصقة بأمعائنا ورئاتنا وجلودنا، ولم يَرِد لهما على خاطر — وهما مَن هما علمًا وفضلًا — أنه إذا كان مجال الحديث عن الثقافة بأي فرعٍ من فروعها، فإن المراد بالمعاصرة عندئذٍ لا يكون إلَّا أن يعيش الإنسان أفكار عصره، لا بالموافقة حتمًا بل قد يكون ذلك بالمقاومة، فأنت تعيش الفكرة إذا تبنَّيتها أو إذا قاومتها على حدٍّ سواء.
وأعود إلى الحديث عن حياتنا الفكرية والأدبية الآن، فأقول إن انطباعي العام عنها هو أنها مقصرةٌ في ذلك الاتصال على بُعدَيه الأفقي والرأسي معًا، وخُذ مجموعةً من أعلام الجيل الماضي ومجموعة من أبناء الجيل القائم، تجدْ هذا الفرق بينهما واضحًا، وهو أنه بينما كان كل علمٍ من أعلام المجموعة الأولى ملمًّا إلمامًا واسعًا وعميقًا بما قاله السابقون في ميدانه، وملمًّا في الوقت نفسه بأهم المعالم التي يتسم بها إبداع المبدعين في الغرب، وفي المجال الخاص الذي توجه إليه رجل الجيل الماضي باهتمامه، فإنك — فيما أعتقد — واجدٌ غير هذا في أفراد المجموعة الثانية؛ إذ الأغلب والأرجح في أيِّ واحدٍ منها تختاره كما تشاء، ألَّا يكون ذا علمٍ راسخ وواسع بما قاله السابقون في ميدانه، ولا على شيءٍ من المعرفة الوثيقة بما يقوله أصحاب تلك الميادين في الغرب، إنني سأضع بين يديك أمثلةً من أعلام الجيل الماضي، وأترك لك أن تجد مَن يقابلهم في هذا الجيل ثم تمضي في المقارنة؛ ففي الشعر كان شوقي، وفي النقد الأدبي كان طه حسين، وفي الرؤية الاجتماعية السياسية كان لطفي السيد، وفي الوقفة الدفاعية عن الأصالة العربية كان العقاد، وتذكَّر أرجوك أن محور حديثنا هنا هو جمعُ البُعدَين الأفقي والرأسي جمعًا يلتقي بالموهبة الشخصية، ثم اختر مَن تختاره من أبناء هذا الجيل وانظر وقارن.
ذلك إذن هو جانبٌ من الجوانب التي أراها تحدُّ من درجة النضج في حياتنا الراهنة، وأضيف جانبًا ثانيًا قد يكون من الناحية المنطقية فرعًا يتفرع عن النقطة التي عرضناها فيما أسلفناه، وهو ضعف القدرة على النقد بمعناه الواسع أولًا، وبمعنى النقد الذاتي ثانيًا، والنقد الذي أعنيه هو القدرة على التحليل والمقارنة، ومن ضعف هذه القدرة ضعفًا شديدًا عند أبناء هذا الجيل، جاءت سرعة قبولهم وسرعة رفضهم، دون أن يجيءَ القبول أو الرفض مستندًا إلى معرفةٍ مؤكدة واضحة، فهم كثيرًا ما يتناولون المفاهيم العامة قولًا وكتابةً، وكأنها من الوضوح الناصع بحيث لا يحتاج أمرُها إلى إمعانِ نظرٍ فاحصٍ، ومن أخطر ما نتج لنا في حياتنا عن هذه الوقفة البريئة براءة الطفولة، ذلك النزوع إلى التطرف أيًّا ما كان موضوع البحث، بما في ذلك البحوث المزعوم لها أنها بحوث علمية، فها هنا ترى عجبًا من مزج الفكرة بصاحبها مزجًا يجعل كرامة صاحبها وكأنها أُهينت إذا رفضت فكرته. إن دارسي الفلسفة يعلمون كم عُنيَ الفلاسفة ببيان مواضع الزلل ليتجنبه مَن أراد لنفسه فكرًا صحيحًا، فإذا استعرضت أهم ما ذكروه في هذا الصدد وجدته ماثلًا في حياتنا القائمة مثولًا جريئًا وكأنه يتحداك! فالتسرع في الأحكام وتعميمها عن غير علمٍ واردٌ على كل لسان ناطق وكل قلم كاتب، والتحصن بما قد تراكم في النفوس وفي العقول دفْعًا لأي عامل مهاجم من عوامل الدعوة إلى تغيير ما يجب أن يتغير، هو الآن موقفٌ سائدٌ مرفوع اللواء والتحدث بلغةٍ مبهمةٍ عن أي موضوعٍ، حتى ولو كان موضوعًا يُعرِّض حياتَنا كلَّها للخطر، هو من سمات المناخ الفكري الذي نعيش اليوم فيه ونملأ رئاتنا بهوائه، حتى لنظن الظنون بمَن يجرؤ على توضيح الغامض، خشيةَ أن تهتزَّ من البنيان قوائمُه وأركانه.
لقد كان حديثنا هذا أول الأمر محاولةً للإجابة عن رسالةٍ، يسأل فيها صاحبُها عن معنى النضج العقلي، الذي كنت قد زعمته لفترةٍ معينة من مراحل التاريخ، ثم استطرد بنا الحديث عن النضج العقلي، حتى لقد بدأناه ثم لم نعرف كيف نُنهيه.