كان حُلمًا وما زال حُلمًا
كانت السن في مرحلة الشباب المتأخر، وكان اليوم يومًا من الصيف، وكانت الساعة أصيلًا أخذ ينحدر نحو الغروب، وكان المكان ريفًا في الطرف الشمالي من دلتا النيل، وكانت المشية بطيئة الخطى وبلا هدفٍ، وكان البصر كلما دار فيما حوله من خضرة الأرض وزرقة السماء لحظة قصيرة، غلبته البصيرة لحظاتٍ طوالًا، فتسد عليه الطريق، لينصرف الشاب إلى خواطره الدافئة خاطرًا في ذيل الخاطر، وكان الخيط المشترك الذي يشدُّ تلك الخواطر بعضها إلى بعض، سؤالًا أخذ يتردد في صدره في حرارةٍ أخذت تندرج صعودًا، حتى أوشكت أن تصل به إلى رعشة الحمَّى: لماذا هم كذا ولماذا نحن كيت؟!
لماذا يغوص شبابهم الجاد إلى أغوار البحار باحثين كاشفين، ولماذا يلهو شبابنا على شواطئهم في ضحكات بلهاء؟ لماذا يتسلق شبابهم من الجبال أعتاها صخورًا، وأوعرها طريقًا عواصفَ وثلوجًا، لا تهدأ لهم أنفس حتى ينكشف لهم المجهول وتصفو لهم شوامخ الطبيعة وتخشع؟ ولماذا يثقل الزمن الأجوف الفارغ على أبدان شبابنا، لا يعرفون كيف يقضون ساعاته المملولة الجدباء، إلا فيما لا يقضي لهم شأنًا، أو في ثرثرة طفلية تزيد العقول البليدة بلادة، والقلوب الميتة مواتًا؟ لماذا يكدُّ علماؤهم، لا يستريح لهم جنوب على مضاجع، حتى يفضوا عن هذه أو تلك من ظواهر الطبيعة أختامها، وحتى يخضعوها للبحث فتنكشف أسرارها وإذا هم أمام قوة ألجموها فسخَّروها؟ ولماذا يقنع علماؤنا بأحرفٍ وكلمات، خطفوها خطفًا من هنا أو من هناك، فحفظوها، صحيحةً حينًا، شوهاء حينًا، ثم قالوا لأنفسهم وللناس: ها نحن أولاء قد أوينا إلى فراشنا بالأمس جهلاء، وأصبحنا مع الصبح علماء.
كان الشاب في مشيته تلك، ينقل خطاه الوئيدة على جسر النيل أمام قريته، متجهًا بها نحو الشمال إلى القرية المجاورة، لم يكن بين القريتين إلا مقابر القريتين، ثم يعود قافلًا بخطواته البطيئة نحو الجنوب نحو قريته، وسيل الخواطر الداخلية، لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟ لا يكاد يترك لبصره لحظةً يجول فيها ذات يمين أو ذات شمال: فعن يساره وهو متَّجهٌ بسيره نحو الشمال، كانت حقول الذرة في الأرض الممتدة بين الجسر والنهر، وهي أرض يغطيها النيل إذا فاض، ثم يزرعها الزارعون إذا غاض عنها النيل وانحسر، لم يكن يخلو يوم، في تلك الفترة من الصيف، من أن يقع البصر على جماعةٍ من الزارعين، وقد تحلقت حول ركوةٍ من النار يوقدونها بأوراق النبات الجافة، ويشوون عليها أكواز الذرة أكداسًا أكداسًا، ويأكلون المشويَّ نحتًا بأسنانهم، ضاحكين بما يملأ جو السماء مرحًا، وأما عن يمينه وهو متجهٌ بمشيته نحو القرية المجاورة، فكانت المقابر عبرةً لمن أراد أن يعتبر، ولكن أين هو الذي يعتبر؟ لقد تلاقت القريتان عند مقابر موتاهما، وأما أحياؤهما فقد كانوا — في ذلك الزمن البعيد البعيد — يحترقون غيرة، إحداهما من الأخرى ثم تتفجر الغيرة — آنًا بعد آنٍ — في معارك ساخنة بين شباب من هذه وشباب من تلك، مما لم يكن يزيد في حقيقته عن عبث الصغار، الذي لم يُفلح قط في أن يُفسدَ للودِّ قضية بين الشقيقتَين.
لكن الشاب، في مشيته تلك، في تلك الساعة، من ذلك النهار، في ذلك الصيف، قد حدث له أمرٌ عجب وهو يقطع المسافة المجاورة للمقابر، وكانت نقطة البدء أن وثب إلى ذاكرته قولُ أبي العلاء، مخاطبًا السائر على الأرض، أيًّا كان السائر، وأينما كانت الأرض، بأن يرتفع بقدمَيه عن أديم الأرض إذا استطاع، فيطير بهما في الهواء، بدل أن يدوس بهما سطح الأرض، لماذا لأن أديم الأرض إنما هو رفات الموتى، فألوف السنين بعد ألوفها، قد ألقت في اللحود ملايين الموتى بعد الملايين، وتحللت الأجساد وباتت ترابًا من التراب، الذي لا بد أن يكون قد ملأ الرحب، أينما سارت بسائر قدميه، وإذا كان كذلك بالنسبة إلى أي أرضٍ وإلى أي سائرٍ، فماذا يكون الشأن بسائرٍ في جوار المقابر، التي هي مقابر أهله وذويه؟ ثم ماذا يكون الشأن إذا كان هذا السائر قد امتلأ فؤاده بمثل الخواطر الحسيرة التي ذكرناها، والتي أخذ يتساءل بها في حسرته: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
وهنا أوشكتْ قدماه أن تتجمدَا، خشيةً أن تتحرك فيهما قدمٌ فتقع على رفات، وانحنى الشاب فالتقط كتلةً صغيرة من ترابٍ ناعم تلاصق بفعل الرطوبة ثم تيبَّس، وما هو إلا أن ذكرته قبضة التراب بذلك الحوار الساخر بين هاملت وحفار القبور، حين أظهرت فأس الحفار جمجمةً مدفونة، وكان مما قاله هاملت في تأملاته، إن ساكن الكوخ إذا ما حدث ثقبٌ في جدار كوخه، وأدخل له الثقب هواء الشتاء البارد، فأسرع إلى قبضةٍ من تراب الأرض، وعجنها طينة وسدَّ بها ثقب الجدار، ألا يكون — وهو لا يدري — قد وقع على جزءٍ مما كان ذات يوم ملكًا يحمل الصولجان ويتحكم في رقاب الناس؟
ولم يلبث الشاب عند هذه الخاطرة أن نظر إلى قبضة التراب في يده، وقال وكأنه يوجِّه إليها السؤال: ترى من أي جسدٍ بشري جئتِ؟ حدثيني! كان كاتبًا تقع كلماته على آذانٍ صماء؟ أم كان خطيبًا يعظُ بما لا يفعله هو ولا يفعله أحدٌ من سامعيه؟ أكان حاكمًا مغرورًا بسلطانه الزائف الزائل، أم كان محكومًا مظلومًا لا يدري كيف يُثبت للحاكم أنه بريء؟ أكان رجلًا يستبد بأهل بيته ويطغى، أم كان امرأة قيَّدتْها أغلالُ العبودية ثم أوهموها بأنها هي حرية المرأة وكرامتها، حدثيني يا هذه الرفات مَن تكونين؟ فما هو إلا أن سمع صوتًا متقطعًا معدنيَّ الرنين، يخرج من قبضة التراب في يده، فأخذه من الفزع الراجف ما أخذ، لكنه مع الفزع قد استمع، وإذا بالصوت المعدني المتقطِّع يقول له في أحرفٍ واضحة: لست واحدًا من هؤلاء، فأنا قبضة من رفاتٍ من جسد، والإنسان — أي إنسان — هو بأفكاره وأعماله، وهذه إن صلحت ثبتت على الدهر لا تموت ولا تدفن ولا تصير إلى تراب، فاحذر الخلط بين ما يدوم وما يفنى.
جاءت هذه الكلمات إلى الشاب، كما تجيء لمعة البرق فتشقُّ سواد ليل زاده السحاب الأسود سوادًا؛ إذ وجد فيها نورًا يضيء له الطريق إلى جذورٍ دقيقةٍ دفينة، لم يكن رآها وهو يبحث عنها، فهو حين كان في حيرته يسأل: لماذا هم؟ ولماذا نحن؟ لم يكن قد أدرك الفرق بين مَن ينذر حياته لما يدوم ويبقى، ومَن ينذر حياته فيما يزول ويفنى.
استدار الشاب نحو الجنوب، ليعود إلى الدار مسرع الخُطَى، ما أسعفه تراب الجسر — جسر النيل — الناعم من سرعة، فكأنما كانت الفكرة البسيطة الواضحة التي خُيِّل إليه أنه قد سمعها منطوقة من كتلة التراب المتلاصق في قبضة يده، بمثابة المحرك إلى الخطوة السريعة، هل قالت قبضة التراب — التي هي في حقيقتها رفاتٌ من إنسانٍ مجهول — هل قالت تلك القبضة شيئًا سوى أن جثامين الموتى ليست هي أشخاصهم، وإنما أشخاصهم هي ما أنجزوه في حياتهم الدنيا من فكرٍ يسري ومن فعلٍ يبقى، والشاهد على هذا وذاك هو الأرواح لا رفات الأجساد، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين فرقت بين «شاهد» و«شهيد»، فمَن هم «الشهداء» من الناس؟ إنهم هم الذين «جسَّدوا» ما قد آمنوا به من فكرة وعقيدة، تجسيدًا يمكن أن تشهده الأعين الشاهدة، ومنها ما يكون من ذات الإنسان نفسه، فيشهد على نفسه بنفسه.
ورسخت تلك الفكرة البسيطة الواضحة في وعي الشباب، رسوخًا زاد ولم ينقص مع أعوامٍ طال بها عمره حتى اكتهل وشاخ، ولقد أراد له ربُّه أن ينشغل في شيخوخته بالبحث عن «الجذور»، بل وما قبل الجذور من «البذور»، التي انبثقت منها فروع لا أول لها ولا آخر، من ظواهر الضعف، والتفكك، والتراخي، في حياتنا الحاضرة أفرادًا وجماعات، فلئن حقَّ لذلك الشاب في شبابه البعيد البعيد، أن يأخذ منه القلق مأخذه، كلَّما قارن بين «هم» و«نحن»، فلقد جاءت حياتنا الراهنة بما هو أفدح وأخطر، مما يدعو إلى القلق وإلى البحث عن العلل، فقد كان ذلك الشاب وهو في مرحلة شبابه، يستطيع أن ينظر حوله فيرى جهدًا وجهادًا نحو التحرر من مستعمرٍ جاء فاحتل أرضه، ولم يَعُد اليوم مستعمرٌ لنا ولا محتل، وكان ذلك الشاب يستطيع أن ينظر حوله ليرى أعلامًا، يشقون في حياتنا الجديدة طرقًا جديدة، اقتصادًا مصريًّا بعد أن لم يكن، فنونًا جديدة، من موسيقى إلى تصويرٍ ونحت، بعد أن لم تكن، تصورًا جديدًا لأدبٍ جديد، من رواية، ومسرح شعري، ومسرح نثري، ومبادئ جديدة لنقدٍ أدبي وفني جديد، وإحياء واعٍ لبعض تراثنا، يصاحبه اعتراف أوعى من بحار العصر الجديد، نعم — كان ذلك الشاب في شبابه القلق — يستطيع أن ينظر حوله ليرى هذا كله، ومع ذلك أقلقه أن يرانا في كثيرٍ جدًّا من ذلك الجديد والتجديد، إنما نقف عند حدود النقل والمحاكاة، سواء أكان المنقول عنه ماضينا أم كان عصرنا متمثلًا في مبدعيه من أوروبا وأمريكا، وسواء أكان الذي نحاكيه أبًّا أو جدًّا من آبائنا وجدودنا، أم كان غريبًا عنا في شعبٍ بعيد، كان ذلك الموقف السلبي من حضارة العصر «وأعني الموقف الذي يأخذ من الناتج الحضاري الذي أنتجه آخرون»، ثم لا يضيف من عنده ولا يعطي، هو الذي أقلق الشاب في مرحلة شبابه، حين أخذ يتساءل في لهفة المحترق: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
فماذا يقول وقد تقدمت به السنون، إذا ما نظر حوله فرأى شبابنا الآن وقد تحولوا من سلبية النقل والمحاكاة في حركة البعث، إلى سلبيةٍ أخرى خانقة حتى الموت؟ إنهم يرفضون العصر، ثم هم لا يفهمون الماضي، وبين هذا الفهم الغائب وذلك الرفض الغبي البليد، يقضون حياتهم في وخمٍ متثائب حينًا، أو في سخافاتٍ ينشِّطون بها نشاط مَن يهدم وليس نشاط مَن يبني، ولسنا نريد بهذا أن نغمط حق مئات الألوف، استغفر الله، بل ربما بلغت تلك الألوف حدود الملايين، من شبابنا الذين عمَّروا لنا الأرض بما زرعوا وما صنعوا، والذين ضاقت بهم ساحة الوطن فهاجروا، لينبغَ منهم مَن نبَغَ، كلَّا ولكن هؤلاء وأولئك — في الأعم الأغلب — ما زالوا يقفون ذلك الموقف الناقل المحاكي، الذي أسخط ذلك الشاب وأقلقه، ثم زاد علينا في مرحلتنا الحاضرة، ملايين أخرى ممن أخذهم الضعف، فأخذهم العجز، فلجئوا إلى تطرفٍ جاهلٍ مجنون، ينحازون به إلى اليمين مرة وإلى اليسار مرة، غير عابئين بما ينطوي عليه هذا التردد بين الطرفين، من تناقضٍ في الفكر وتخبطٍ في العمل.
ويتذكر الشيخ شبابه القلق، الحائر، الساخط، المتسائل: لماذا هم يُبدعون ولماذا نحن محاكون وناقلون؟ يتذكر الشيخ ذلك، حين يتذكر شبابه ماشيًا بخطواته الوئيدة، على جسر النيل، فيما بين القريتين الشقيقتين، خلال إجازات الصيف، فيبتسم أسفًا وحسرة؛ إذ يرى الليلة أشبه بالبارحة، لا، لا بل إن الليلة لم تَعُد تشبه البارحة؛ لأن البارحة وإن تكن قد ركنت في نشاطها إلى الأخذ عن الآخرين بغير عطاءٍ إلَّا القليل، فلم تكن ترفض الحاضر وتشد ركابها قافلة إلى وراء، وينظر الشيخ كما نظر سلفُه الشاب، ليقارن شبابًا هنا بشبابٍ هناك، فيرى في ناحية، قعودًا، وخمولًا، وتراخيًا، وفي ناحيةٍ أخرى لا يخلو قط أن يرى أمثلة تشدُّ الانتباه شدًّا، وتدعو إلى عجبٍ وإعجاب، من وعيٍ متيقظٍ، ونشاطٍ متوفر، ومغامرة طموح، ورغبة جامحة للكشف عن مجهول من أسرار هذا الكون العظيم.
إنك لترى روح الأمة، في أيِّ عصر من عصورها، منعكسة في منجزات أبنائها وبناتها، ولا يعني ذلك أن نتوقع الإنجاز العظيم من كل فردٍ من أفرادها، فذلك ضدُّ طبائع الأشياء بل يكفيك أن يشهد على روح الجماعة نسبةٌ عددية من أعضائها، فنحن إذ نقول — مثلًا — إن القرن الرابع الهجري قد شهد ذروة الثقافة العربية في تاريخها القديم، لا نعني أن كل عربيٍّ كان نابغًا في ناحيةٍ من نواحي الحياة الثقافية، بل نعني أن روح الأمة العربية قد تمثلت في قمم، وكل قمة منها — بالطبع — تلحق بها درجات دونها متفاوتات، فهنالك — مثلًا — في دنيا الشعر المتنبي وأبو العلاء، لكن هناك أيضًا عشرات من شعراء دونهما، لا يبلغون الذروة، وأن يكونوا أكبر قدرًا من أن يُهملهم تاريخ الشعر العربي، وفي الفكر الفلسفي إبَّان القرن الرابع الهجري، تجد قممًا مثل الفارابي وابن سينا، لكن هنالك كذلك عشرات دونهما، تتفاوت درجاتهم، وهكذا قُلْ في كل حياةٍ ثقافية ناهضة، في أي عصرٍ من العصور الناهضة، أما إذا ركدت الحياة بحيث خلت من قوة الإبداع الضخم، فهنالك قد تجد الوهاد الوطيئة، ولكنك لن تجد القمم العالية، هذا هو ما نراه في حياتنا اليوم: فهي بالطبع لا تخلو من سهول ووديان، لكنها يقينًا تخلو من القمم العالية في أي ميدانٍ تختار أن تضعه موضع النظام، فالقمم البشرية، شأنها في ذلك شأن قمم الجبال، يراها الناس من بعيدٍ، أي أن العظيم حقًّا هو من عظُم قدره للعالم كله فيما يدفع الإنسانية إلى الأمام من جانبٍ في جوانب حياتها، ولقد كان أهم ما ضاق له صدر ذلك الشاب الغاضب، أن رأى أمته تخلو من أمثال تلك القمم العالية، دون أن يُنكر عليها نوابغها فيما دون الذرَى، حتى إذا ما تقدَّم العمر به إلى شيخوخةٍ تحيا في أيام الناس هذه، رأى السفوح العليا — ودع عنك القمم العالية — قد خسفت لتنبسط في أسطحٍ تستوي مع أسطح الماء انخفاضًا، فليس الأمر — إذن — هو أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، ولا طب ولا هندسة، لا فكل ذلك موجود بدرجاتٍ، وإنما الذي غاب هو القمم العليا أولًا، والسفوح المرتفعة ثانيًا، وربما بقيت لنا بعض السفوح السفلى مع مسطحات السهول، ومنخفضات الوديان.
إن جبال الأرض، التي شمخت بذراها حتى اخترقت بها كبد السماء، لم تفعل فعلها ذاك إلا بعد أن ارتجَّ جوف الأرض بمخاضٍ عنيف، تفجَّرت به البراكين الثائرة، فأرسلت أنفاسها الحرَّى حممًا، فلما بردت نارها، كانت قد تركت خلفها تلك القمم العالية التي نراها، وكذلك تكون الحال في قمم البشر العمالقة العباقرة، فهؤلاء لا يظهرون من فراغٍ، بل تسبق ظهورَهم روحٌ تسري في عامة الناس، تستجيب للتحدي من أي ناحيةٍ جاء، سواء أجاء من عدوٍّ يعتدي، أم جاء من طبيعة تتحدى بصلابتها وعنادها، فإذا رأينا أمةً قد انطفأت الجذوة في شبابها، بحيث تكثر حولهم عوامل التحدي فلا يتحرك منهم جمع ليستجيب، علمنا أن الفرصة لولادة القمم قد ضاقت، ومن هنا رأينا شاب الأمس البعيد وقد أخذه القلق، حين راح يتساءل: لماذا هم في الغرب كذا وكذا؟ ولماذا نحن على امتداد الوطن العربي كيت وكيت؟ وما قد أقلق شاب الأمس البعيد، ما زال يُقلق شيخ اليوم، كلما رأى هناك شبابًا يتوقد طموحًا في مواجهة الصعاب، بل إنه ليخلق الصعاب خلقًا لتسنح له فرصة للمجاهدة والكفاح، وإن هذا الشيخ ليتابع بروحٍ قلقةٍ شفقة على أبنائه الشباب، أقول إنه يتابع ما يحدث هناك وما يحدث هنا، فلا يجد هنا من معالم الطموح المكافح إلا قليلًا جدًّا، إذا ما قيس إلى ما يجده هناك، ولنضرب أمثلةً قليلة مما سمع عنه هناك في صيفٍ واحد «صيف ١٩٨٧م»: شابٌّ يحاول — وحده — خلال أشهر الصيف، أن يشقَّ الطريق الثلجي في المحيط المتجمد الشمالي، لعله أن يجد سبيلًا مباشرًا يربط المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي، ﺑ «تخريمة» قصيرة عن طريق القطب الشمالي، ولقد كان هذا العام عامه الثالث في مغامرته تلك، ويقرأ الناس — أو يسمعون — وصفًا لما يلاقيه، وشرحًا لما يتغلَّب به على ذلك الذي يلاقيه، وأن الأخطار العنيفة المخيفة لتُحيط به عند كل خطوةٍ يخطوها، فما الذي دفع شابًّا كهذا أن يترك المراقص والملاهي والمصايف، حيث كان يستطيع أن يلهو ويعبث ويسترخي، ليواجه الثلوج جبالًا جبالًا، ولتعصف به العواصف القواحف عصفًا؟! وذلك شابٌّ آخر يتأهب لمحاولةٍ أخرى يحاول بها تسلُّق الجانب الشمالي الشرقي من جبال الهملايا، وهو جانبٌ لم يتسلَّقْه إنسان بعد، ويعرف عنه العارفون أنه عنيد، ويسأله سائلون: فيمَ إصرارك أنت وزملائك على هذه المخاطرة عامًا بعد عام؟ فيجيب الشاب — وعمره نحو عشرين عامًا — بقوله: إن جوابي هو نفسه ما كان أجاب به «مالوري» عن سؤالٍ كهذا من الخمسينيات، عندما نجح في وصوله إلى قمة «إفرست» من جبال الهملايا، وهي أعلى قمم الدنيا جميعًا، حيث قال إنني جاهدت لأبلغ تلك القمة «لأنها هناك»، أي أن مجرد وجود الشيء المستعصي، كفيلٌ وحده بأن يتحداه الإنسان ليقهره، وذلك شابٌّ ثالث ضرير، واسمح لي بأن أكرر القول بأنه شابٌّ «ضرير»، قد أعدَّ عدَّته ليعبر المحيط الأطلنطي وحده في سفينة، فإن لم يكن هو أول «إنسان» يعبر وحده ذلك المحيط، إلا أنه سيكون أول إنسانٍ «أعمى» يفعل ذلك، ويسأله سائلون: وماذا وراء مغامرتك تلك؟ فيجيب بأن الذي وراءها هو أن الإنسان بروحه القوي، لا بعينَيه، وقد أراد بعضهم أن يعرف كيف يستطيع مفقود البصر أن يغامر مغامرةً كهذه، فيشرح الشارحون بأنه سيعتمد على جهاز السمع «رادار»، يتسمَّع به إن كان في طريقه سفينة أخرى فيجتنبها. هؤلاء جميعًا شباب ما زالوا في الجانب الأصغر من مرحلة الشباب، أمامهم عوائقُ عسيرةٌ في الطبيعة، وكأنها تتحدى قدرة البشر، فيستجيبون هم لهذا التحدي يغالبونه حتى يغلبوه.
وإذا سادت هذه الروح المغامِرة الطموح شباب أمة، فهل من عجبٍ أن تظهر فيها القمم الشوامخ بعد قليلٍ؟ إن الأمر في حيوية الشعوب، هو كما قال الشاعر التونسي الشاب:
إلا أن الفرق بعيدٌ بعيدٌ بين شعبٍ «أراد» الحياة وشعب «أراد» الموت (وأرجوك أن تقف قليلًا عند معنى «أراد» حين تنصبُّ تلك الإرادةُ على نمط الحياة الذي يريد الإنسان أن يحياه)، لقد أنبأني عميدٌ لإحدى الكليات «العلمية»، أنه أراد أن يكوِّن لنفسه فكرة مأخوذة من الواقع، عما يقرؤه الطالب إذا قرأ، فأخذ يجمع الشواهد مما يقع عليه بين الطلاب، فشاءت له المصادفة أن يكون أول كتاب رآه مع أول طالب يصادفه قارئًا، هو كتاب عن «عذاب القبر». فقلت للأستاذ العميد: كفى! كفى! نشدتك الله لا تمضِ في ذكر الأمثلة؛ لكي أنعم بالظن الواهم، إن ذلك المثل الذي ذكرته وحيد نوعه، ليس له بين الطلاب ثانٍ وثالث.
لكني أعلم علم اليقين أن لذلك المثل الأول الذي قدمه لما يقرؤه الشباب، ثانيًا، وثالثًا، ورابعًا، وإلى أي عددٍ تشتهي، وكأنه شبابٌ أراد لنفسه «الموت» أكثر مما أراد لنفسه «الحياة»، فإذا تدرَّج شابٌّ من هؤلاء على درج العمر، وصار «عالمًا» أو «طبيبًا» أو «مهندسًا»، أو ما شئت من مسالك الحياة في أعلى درجاتها — ودع عنك درجاتها فيما دون ذلك — فماذا تتوقع أن ترى؟ إنك لن ترى — في الأعم الأغلب — إلا رجلًا وقف عند حدود العلم كما هو موجودٌ، وكما درسه وحفظه مما درس أو قرأ، في الجامعة وما بعد الجامعة، وذلك على أحسن الفروض الممكنة؛ لأن بيننا مَن لا يتابع المستحدث أولًا فأولًا حتى في دائرة تخصُّصِه، فيتخلف بعلمه بضع عشرات من السنين عمَّا هو عليه الآن، ومع ذلك فلا علينا الآن من هؤلاء — وهم كثيرون — ولنأخذ بأحسن الفروض، وهو أن علماءنا والصفوة من أصحاب المهن، يتابعون المستحدث أولًا فأول، فهلَّا وقفنا قليلًا عند كلمة «يتابعون»، أي أنهم يقفون عند الأبواب، في انتظار ما يكشف عنه الكاشفون، أمَّا أن نشارك نحن بقسطٍ في صنع العلم أو غير العلم من مقومات العصر حضارته وثقافته، فذلك أمرٌ بعيد الحدوث، فمَن كان في شبابه يقرأ عن «عذاب القبر»، بعيدٌ عنه بعد ذلك أن يُضيف إلى حياة الناس حياة.
كان الشاب القلق الطموح يحلم بأن يكون لنا نصيبٌ يتناسب مع تاريخنا المجيد، في الإبداع الحضاري الجبار، الذي نسمع عنه عند سوانا، والذي نشتري بعض ثماره لنمسَّها بأطراف الأصابع، ولنذوقها بطرف اللسان، ثم خرج من ذلك الشاب شيخٌ ما زال يراوده الحلم.