موطن الدَّاء
المسئول الكبير، الذكي اللامع، إذ كنَّا نسمر معًا سمرًا ظاهره انسياب الخواطر، انسيابًا لا يستهدف غايةً إلا حلاوة السمر، وباطنه هدفٌ مضمر، هو البحث عن أسسٍ ثابتة يقوم عليها إصلاح التعليم، فسألني الصديق الكريم سؤالًا، جاء في سياق الحديث وكأنه عابرٌ، فقال: إن اعتقادنا اليوم، هو أننا قد فرغنا من إرساء الدعائم لخطة اقتصادية طويلة المدى، ونريد الآن أن نتَّجه بمثل ذلك الجهد المركز، نحو أن نرسيَ دعائم البناء التعليمي، وقد يقتضي ذلك تغييرًا من الجذور في «مقررات» الدراسة على اختلاف مراحلها، فماذا ترى؟ قلت: قد تكون «المقررات» بحاجةٍ إلى مثل ذلك التغيير، لكي تتكافأ مع ما تغيرت به الدنيا، إلا أني على عقيدة راسخة، بأن «مقررات» تذهب، وأخرى تجيء، لن يُغيِّر وحده من مواطن الداء إلا قليلًا.
وأما الذي نرجِّح له أن يُحدث التغيير، فهو اكتساب الدارسين للنظرة العلمية، بأن يستخلصوها مما درسوه من «مقررات»، فما من «مقرر دراسي» في مدرسة، أو معهد، أو جامعة، إلا وقد سيق في سياق تنتظم فيه الروابط بين الأسباب ومسبباتها، فلو أننا عنينا بأن يتشرَّب الدارس لمقرر معين، ما قد سرى في أوصاله من منهج السير، خرج المتخرج آخر الأمر بشيئين: مادة المقرر المدروس، ومنهاج «النظرة العلمية» معًا. فإذا كانت «المقررات» تعدُّ الدارسين لضروب العمل المهني والحرفي، فإن «النظرة العلمية» التي يتشربها، تُخرجه «إنسانًا» يساير عصره الذي خُلق ليعيش فيه.
إننا إذ ننظر إلى مَن أخرجتْهم مراحل التعليم عندنا — وهم في ميادين العمل — أطباء، ومهندسين، ورجال قانون، ورجال اقتصاد، ومعلمين، وعلميِّين في شتى فروع العلم، لا يسعُنا إلا الشهادة لهم بالقدرة — بعد سنواتٍ قليلة من التدريب والخبرة — فهؤلاء هم بناة العمران في مصر، وفي كل ركن من أركان الوطن العربي، لكن أخرج بهؤلاء القادرين أنفسهم من دوائر تخصصاتهم، ليواجهوا مع جمهور الناس مشكلات الحياة العامة، ثقافية وسياسية واجتماعية؛ تجد كثرةً منهم ينظرون بالمنظار نفسه الذي ينظر به مَن لم يظفر بحظٍّ من تعليم المدارس والجامعات، فكلاهما على حدٍّ سواء لا يجد في كيانه البشري ما يصدُّه عن تصديق الخرافة، وإذا قلت «الخرافة» فقد قلت رد الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية، ولكي أبين الفرق بين الحالتين، أروي هذه الحادثة: فقد أراد هاوٍ من هواة التسلق إلى قمم الجبال المنيعة، أن يتسلق جبلًا في إسبانيا، فاستعان بدليلٍ من أهل المنطقة ليصحبَه، فلما بلغ بهما الصعود نقطة مرتفعة، جلسَا للراحة والطعام، وأخرج الرحالة عددًا من حبات البطاطس وأشعل لها الموقد لتنضج، ووصل الماء في إناء الطهو إلى درجة الغليان، ولبث يغلي فترةً طويلة من الزمن، لكن البطاطس لم تنضج، ودهش الرجلان كلاهما: لماذا لم يؤدِّ الماء في غليانه إلى إنضاج البطاطس؟ فأما الدليل في جهالته، فلم يتردد في اعتقاده بأن روحًا شريرة قد حالت دون ذلك، وأما الرحالة في استنارته العلمية، فقد تذكر على الفور أن درجة غليان الماء تقلُّ كلما ارتفعنا به عن مستوى سطح البحر، فهو يغلي عند سطح البحر في حرارةٍ مقدارها مائة، وأمَّا على سفوح الجبال العالية فقد تقلُّ درجة الغليان بحسب درجة الارتفاع، فربما غلى الماء بدرجة ثلاثين أو أربعين، وفي هذه الحالة لا يكون حارًّا بالقدر الذي يُنضج البطاطس، برغم أنه يغلي، فلقد كان الرحَّالة ذا «نظرة علمية»، وهو يربط النتائج بأسبابها، وأما مرافقُه من أهل الإقليم فقد لجأ إلى الخرافة في التعليل، ومرة أخرى أقول إن تعريف ما نُطلق عليه اسم الخرافة، هو: «ردُّ الظواهر إلى غير أسبابها»، فالنظرة العلمية، والنظرة الخرافية، كلتاهما تحاولان تعليل الحوادث، لكن شتان بين تعليلٍ وتعليل.
إنه لمن أيسر اليسر أن تلقِّن الدارسين «مقررًا» بعينه، وضعت مادته في كتاب، ثم يُلخص ذلك الكتاب المطول في كتابٍ يُعرض في الأسواق، يقتصر على ذكر «النقط» أو رءوس الموضوعات، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في ذلك الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، وواضح أن «النقط» التي تُستخلَص من «المقرر» ليحفظها الدارس، قد خلت خلوًّا تامًّا من الروابط المنطقية، التي تربط كل نقطة منها بسياقها الذي يفسرها ويعللها، كما خلت في الوقت نفسه من الروابط التي تربطها بأخواتها، ليتكوَّن من مجموعها كيان فكري واحد، فيتخرج الدارس وفي جعبته «نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية، أيًّا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياقه ليفهم.
نعم إن دراسة «المقررات» هي أيسر اليسر، وأما العسير حقًّا، فهو أن تأخذ بأيدي الدارسين ليستخلصوا من تلك المقررات منهاجها، وإذا كان تغيير المقررات معدودًا، وكأنه تناول لمشكلة التعليم من «جذورها»، فإنني أدعو إلى ما هو قبل الجذور، وهي البذور التي نبذر بها في عقول الدارسين نظرةً علمية، فقد تُنسَى المقررات المدروسة فلا يبقى منها عند الدارس حرفٌ واحد، وأما النظرة العلمية المستفادة، فهي تدوم سمةً من سمات المتعلم ما دام حيًّا، تتغير الموضوعات التي تنشأ له في طريق حياته، فيعالجها بما قد ثبت في نفسه ورسخ، وهو الطريقة العلمية في الفكر والعمل.
فإذا كنَّا قد نجحنا إلى حدٍّ قد نختلف على مداه، في أن تُخرج لنا «المقررات» الدراسية، مَن يقومون ببناء حياتنا المادية والعملية، من منشآتٍ هندسية، ومستشفيات، ومعاهد دراسية، ومحاكم للقضاء، وجهاز كامل للدولة، وللإعلام، ولغير ذلك من مسالك الحياة، فيقيني هو أننا لم نوفَّق في تزويد أنفسنا بالشطر الثاني، الذي هو — كما أسلفت القول — التدريب على «النظرة العلمية» في إطارها العام، في كل ما يصادفنا من مواقف ومشكلات خاصة أو عامة على حدٍّ سواء، وإذا غابت النظرة العلمية، كان حتمًا أن تحلَّ محلَّها نظرةٌ أخرى تنبني على ما هو أعمق جذورًا في فطرة الإنسان، ألا وهي لجوء الإنسان إلى ما تُمليه عليه غرائزُه، وعواطفه، وانفعالاته، وسائر ما هو مزودٌ به، بحكم طبيعته الإنسانية والحيوانية معًا، من قوى تدفعه إلى كذا وتمنعه عن كيت، دون أن يكون في ذلك الدفع أو المنع سندٌ من منطق العقل، وماذا نعني بمنطق العقل؟ إنه بكل بساطةٍ وإيجاز، التعامل مع دنيا الأشياء، على أساسٍ من واقع تلك الأشياء، دون أن نُضيف إلى حقائقها الواقعية، أو أن نحذف منها شيئًا، حتى إذا ما عرفناها على حقائقها، كان من حقِّنا بعد ذلك، أن نستدل الطريقة التي نستخدمها بها على النحو الذي يخدم منافعنا ويحقق أهدافنا.
وقد تسأل متعجبًا: وهل هنالك بين الناس إنسان يفعل ذلك؟ هل هنالك إنسانٌ يرى قطعة الصخر فيزعم لنفسه أنها سبيكة من ذهب؟ أو يرى قنابل الأعداء تهوي لتقتل الناس وتُهدِّم البيوت، فيقول إنها زهورٌ تتناثر لتنشر عطرها؟ والجواب هو: نعم، فقد تكونت النفس الإنسانية، لترى الأشياء — لا سيما في ساعات الشدة والحرج — على هواها، فهي في حالة ضعفها وخوفها ترى شيئًا، فإذا انقلبت إلى قوةٍ وثقة، رأتْه شيئًا آخر، فكم من دجَّالٍ قُدِّم إلى ساحات القضاء ليُحكم عليه بما يحكم به، عقابًا له على تضليله للأبرياء، بعد أن لم يجد فيه هؤلاء الأبرياء إلَّا بركات وقدرات تشفي المريض، وتُعيد الأُسَر المحطمة إلى وئامها، وتردُّ الخاسرين إلى رواجٍ وازدهار، إن عامة الناس أميل بحكم فطرتهم إلى أن يخلعوا على الطبيعة صفات كصفات البشر، فإذا أصابهم خيرٌ من ظاهرة طبيعية، كالمطر أو فيضان النهر، رأوا في تلك الظاهرة ما يستحق التقديس، أو رأوا شرًّا صبُّوا عليه اللعنات، إنهم يحبون أن يكونوا ممن شفت قلوبهم حتى لترى المستقبل قبل حدوثه، فهم يتذكرون حلمًا من أحلامهم جاءت رؤياه صادقة على المستقبل، وينسون ألف حلم رأوه ولم يتحقق منه شيء.
كثيرة جدًّا هي العوامل الداخلية التي تتحكم في الإنسان، فتميل به إلى رؤية الأشياء على غير واقعها، وإن شئت فانظر إلى رجلين، نشأ كلٌّ منهما في بيئةٍ اجتماعية، أو تعليمية مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها الآخر، واطرحْ عليهما سؤالًا عن قيمة حضارية معينة، كتعدُّد الزوجات، أو التعليم المختلط بين الجنسين، أو الطريقة التي تُعالَج بها جثث الموتى، فعندئذٍ ترى ما يوجبه أحدهما وجوبًا لا تردُّدَ فيه، يستنكره الآخر استنكارًا يحسبه من وحي البديهة التي لا تخطئ، فقد ذكر المؤرخ اليوناني «هيرودوت» كيف أنه على سبيل المقارنة أثناء جولته في مصر وبعض البلاد الآسيوية، سأل مصريين: ماذا ترون فيمن يحرق جثث موتاهم؟ والمصريون — كما نعلم — يدفنون الموتى، فاستنكروا تلك القسوة ممن يقترفون هذا الإثم المخيف. ولما سأل أفرادًا ممن يحرقون الجثث في الهند، قائلًا: ماذا ترون فيمن يدفنون جثث موتاهم؟ عجبوا كيف تطاوعهم قلوبهم أن يدفنوا أحبَّاءَهم في حفرٍ تحت الأرض. وهنالك من القبائل مَن يأكلون موتاهم — وبصفةٍ خاصة جثث الآباء — عقيدةً منهم بأنهم بذلك يُضيفون قوة الراحلين إلى أبنائهم حتى لا تضيع سدًى، وأظن أن «فرويد» في كتابه «الطوطم والتحريم» يعلل أكل الولد لجثة والده، أو حتى أكله لأبيه في حالة مرضه إذا استعصى شفاؤه، بأنه في أعماقه نوع من انتقام الابن من أبيه، لقاء ما سلبه أبوه من حرية، ولقد قرأت — فيما أذكر — لأحد الباحثين في الثقافات المختلفة، أن جماعة من إحدى القبائل آكلة الموتى، حين سُئلت عما تراه فيمن يدفنون الموتى، وفيمن يحرقون الموتى، فكاد المسئولون أن يغمى عليهم من الذهول، كيف تبلغ الغلظة بقلوب أولئك أو بقلوب هؤلاء، فيفعلون تلك البشاعات بموتاهم! نعم، إن ظروف النشأة قد تُعمي وتصمُّ، فلا يرى صاحب الرأي إلا ما هو راسخٌ في فؤاده هو، مما دُسَّ فيه من أولياء أمره أيام النشأة الأولى، وإننا لنُعاني من اختلاف الرأي في حياتنا الفكرية، لا لأي سببٍ آخر سوى اختلاف الظروف الدراسية التي أحاطت بهذه الجماعة منا أو بتلك، فأصبحنا إذا ما طُرح موضوع للرأي، قال هؤلاء نقيض ما قاله أولئك، والموضوع واحد، والشعب واحد، وما ينفع الناس أو ما يضرهم يمكن إخضاعه للحساب الذي يتفق عليه الجميع، ذلك لو احتكموا في مشكلاتهم إلى منطق العقل، وليس للأهواء التي اختلفت باختلاف الظروف.
وأول خطوة في سبيلنا إلى تربية أطفالنا على رؤية الأشياء على حقائقها الخارجية، تمهيدًا للحكم عليها حكمًا غير مؤسس على أوهامنا وأهوائنا؛ هي أن يتعلم أولياء الأمر في تنشئة الطفل، من والدين ومعلمين، مضافًا إليهم الوسائل الإعلامية، كيف يرهفون حواس الطفل لتعمل عملها على وجهٍ أوفى وأكمل؟ فمجرد وجود العين قد يضمن لنا أنها «تنظر» ولكنه لا يضمن لنا أن «ترى»، ومجرد وجود الأذن قد يضمن لنا أنها تسمع الصوت آتيًا من مصادره، ولكنه لا يضمن لنا تركيز «الانتباه» فيما يختلف به، أو ما يتشابه فيه، صوت وصوت، وتهذيب الحواس، وإرهافها، وتدريبها، هو الوسيلة الأولى، التي تُتيح للناشئ أن يجمع معلوماتٍ دقيقةً وصحيحة، عمَّا حوله وعمن حوله، ولئن كان «فرنسيس بيكون» قد صاح صيحته المدوية في أوروبا النهضة، حين قال: «العلم قوة.» قاصدًا بذلك إلى لفت أنظار الناس، بأنه ليس من العلم في شيءٍ ذلك التحصيل الذي كان رجال القرون الوسطى في أوروبا يجمعونه من الكتب ويحفظونه، ما دام عاجزًا عن أن يُضيف إلى دارسه «قوة» يستطيع بها أن يلجم ظواهر الطبيعة ليجعلها طوع أمره، فالتحكم في نبات الأرض نوعًا ومحصولًا، يحتاج إلى «علم»، والتحكم فيما يُخرجه الإنسان من جوف الأرض، يحتاج إلى «علم»، واختراع وسائل النقل السريعة والمريحة، يحتاج إلى «علم»، وحفظ الطعام أو مخزون الدم بالمستشفيات، يحتاج إلى «علم»، وذلك هو الجدير باسم «العلم»؛ لأنه ضروب من «القوة» التي يقوى بها الإنسان على إخضاع الأشياء لصالحه؛ أقول: لئن كان «بيكون» قد صاح صيحته تلك منذ أربعة قرون، لعل القوم أن يتجهوا بدراساتهم وجهةً أخرى، يمارسون بها «الأشياء» ولا يقتصرون على قراءة ما تركه أسلافهم عنها في بطون الكتب، فالصيحة الجديدة في عصرنا — فيما يتصل بموضوع حديثنا — هي: «المعلومات قوة.» بمعنى أن سيطرة الإنسان — طفلًا وغير طفل — على الأشياء، مرهونة بمقدار ما يجمعه من معلوماتٍ صحيحة عن تلك الأشياء، والوسيلة إلى ذلك تبدأ منذ الطفولة، بأن ندرِّب أعين الأطفال على أن «ترى» ما تراه بتفصيلاته، وأن ندرِّب آذانهم على أن تتبين في الأصوات أوجه الشبه وأوجه الاختلاف، ولكل حاسةٍ أخرى وسائل تدريبها على أن تفعل فعلها، فمَن أراد أن يلمَّ بالعالم المحيط به، إلمامًا يضمن له مزيدًا من المعرفة، ومزيدًا من الدقة، كانت حواسه هي أبوابه ونوافذه، التي لا يملك سواها من نوافذَ وأبوابٍ.
إن من أهم ما قد لاحظه كاتب هذه السطور، خلال أسفاره وقراءاته ومقارناته، أن الطفل في البلاد المتقدمة — أخذًا بمتوسط الحالات — يفوق الطفل عندنا في محصوله من المعلومات التي يجمعها عمَّا يراه ويسمعه عن الأشياء والكائنات، بدرجةٍ تلفت النظر، ثم يطرد هذا الفرق، بل ويتسع بينهم وبيننا في شرائح العمر بعد ذلك: وحسبك أن تُلقيَ سؤالًا على واحدٍ من المشتغلين بمهنة أو بحرفة معينة، أو من رجال الفن والأدب، أو مما شئت من فئات الناس، عندهم وعندنا، لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيلٍ من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيلٍ من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في القليل الذي يعرفه عن موضوع السؤال؟ وتعليل ذلك يسير؛ فالأعين والآذان هناك مدربة على أن ترى وأن تسمع ما حولهما وعما حولهما، والأعين والآذان عندنا تُرِكت لتتلقَّى ما تتلقاه، دون أن يقابل ذلك في الإنسان المتلقي إرادة متعمدة للتدقيق في تفصيلات ما قد وقع من تلقاء نفسه على الأسماع والأبصار، ثم تجيء بعد ذلك عادة القراءة عندهم — وما يقرب من انعدام القراءة عندنا، فيضاف هذا العامل إلى العامل السابق — لنصل إلى نتيجةٍ صحيحة ومفزعة، خلاصتها أنهم هناك يعرفون، وأننا هنا لا نعرف.
ثم لا يقتصر موقفنا في دنيا المعرفة على هذا القصور في «الكم»، بل يضاف إليه قصور آخر في «الكيف»، من شأنه أن يوسع من الفجوة التي تفصل الإنسان عندنا عن العالم الذي يعيش فيه، وذلك أن ما يعرفه العارف منا بشيءٍ يغلب أن يكون مستمدًّا من مقروء، ويندر أن يجيء عن طريق اللقاء المباشر بين «الشيء» وعارفه، فينتهي بنا الأمر إلى أن نكون — إذا استبحنا شيئًا من المبالغة — سجناء كلمات، قرأناها، أو سمعناها، منذ طفولتنا فصاعدًا إلى أعمار النضج، وكأننا قد تحولنا بأشخاصنا إلى مخزونٍ من ألفاظٍ أو عباراتٍ، حفظتْها لنا الذاكرة، حتى إذا ما أريد لنا أن نعالج الأشياء ذاتها، في موقفٍ معين، تعذَّر علينا ذلك أو استحال، وبرهان ذلك ما نضطر إليه، كلما استعصت مشكلةٌ عملية، أن نستدعيَ لها «الخبراء الأجانب»، حتى باتت هذه العبارة موضعًا للتفكُّه، إننا قد «نعرف» ولكنها معرفة بما كُتب أو قيل عن الشيء موضوع تلك المعرفة، وأمَّا الشيء نفسه فهيهات أن تكون بيننا وبينه صلةٌ مباشرة، لقد كنت أتحدث ذات يومٍ مع أستاذٍ في إحدى كليات الزراعة في جامعاتنا، فقال لي في حماسةٍ شديدة، إنه لا بد من إدخال «مقرر» جديد في كليات الزراعة، وهو ما يسمى الآن «بالهندسة الوراثية»، وبيَّن لي أهمية هذه المادة العلمية الجديدة، التي تتزايد أهميتها، وخطورتها، كل يوم، وأخذ الأستاذ الفاضل يشرح لي كيف أصبح في مستطاع علماء هذه المادة، أن يُدخلوا تنويعات جديدة في أنواع النبات والحيوان، ليس فقط في النطاق المحدود الذي عهدناه في عمليات التهجين، بل ربما تلاقحت أجزاء من نوعٍ معين بأجزاء من نوعٍ آخر من أنواع الحيوان والنبات، وإذا بنا أمام كائن جديد كل الجدة، متميز بخصائص لم تكن من جنس الخصائص التي كانت لأيٍّ من النوعين اللذَين اندمجَا فأنتجَا ما أنتجاه، فلما فرغ الأستاذ العالم من عرضه وشرحه، مؤكدًا ضرورة إدخال هذا المقرر الدراسي الجديد، سألته: إلى أي حدٍّ يكمن القول بأن طلاب الزراعة، أو أساتذة الزراعة، إذا ما أضيفت في مقرراتهم مادة «الهندسة الوراثية» قادرون بعد ذلك على إجراء تلك العمليات الانقلابية في عالم الأحياء؟ فضحك وقال: إلى حدِّ الصفر، فنحن ندرس ثم لا قدرة على التطبيق في أمثال هذه الميادين.
ليست المسألة في تطوير التعليم عندنا — إذن — هي إضافة مقررات وحذف مقررات، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك، تغيير في الأسس التي نُقيم عليها صروح التعليم، بحيث ننتقل بها من محورية «الكلمة» إلى محورية «الفعل» والفعل بطبيعة الحال، يستلزم أن يكون مدار التعليم هو الشيء الذي ينصبُّ عليه ذلك الفعل.
إن من أميز ما يميزنا بالقياس إلى سائر الأمم، هو عمق الإحساس الديني، فلكل إنسانٍ على وجه الأرض عقيدتُه الدينية، ولكننا أعمق صلة بالعقيدة، وربما كان ذلك لطول الزمن الذي عشناه في ظل الدين، فمنذ فتح لنا التاريخ كتابَه ليسجِّل كان السطر الأول فيما سجله عن أمتنا، أنها أمةٌ جعلت الدين محور حضارتها، وعماد ثقافتها، وهكذا ظلت العصور تتعاقب علينا، بديانات ترسخ في قلوبنا لرسوخ الأساس الذي تُبنى عليه، وجاء الإسلام لنؤمن به إيمانًا، اشتدت حرارته وعمقت جذوره، لسابق عهدنا الطويل بحياة دينية، وكان مما أكد عليه الإسلام، وجوب أن يصل المؤمن نفسه بظواهر الأرض والسماء، بدرسها فيزداد معرفةً بعظمة الله سبحانه وتعالى، والحق أن الفارق بعيد بعيد في إدراك العابد لعظمة الله وجلاله، وهو يعرف الأشياء من أسطحها معرفة عابرة، بل ربما اقتصر علمُ كثيرين بالشيء المعين، على معرفة اسمه، وبين أن يُمعنَ العابدُ نظرَه ولو في شيءٍ واحد، كأن يُمعنَ النظر في سمكةٍ وكيف تسبح وتعيش في الماء، أو في طائرٍ وكيف يطير؛ لأن المؤمن إذا ما عرف التفصيلات، ولو في كائنٍ واحد، لانطلقَ لسانُه، وبغير عمدٍ منه، يقول: الله أكبر، سبحانه من خالق! لقد استمعتُ مرة في إذاعة أجنبية، لعالمٍ يشرح للسامعين كيف يستطيع البرغوث أن يقفز مثل قفزته العالية، فصغرُ حجمه قد تُثير السؤال: من أين لهذا الحجم الضئيل، تلك «الطاقة» الدافعة التي تمكِّنه من قفزته العالية؟ وأخذ يبيِّن العالِم للسامعين نتيجةَ أبحاثه العلمية مع زملائه في هذا الصدد؛ إذ وجدوا أن الساقَين الخلفيتَين للبرغوث أطول من الساقَين الأماميتَين، وأن تلكما الخلفيتَين موصولتان مع جسم البرغوث بوصلةٍ من المطاط، فهو حين يهمُّ بالقفز، يمدُّ ساقَيه الخلفيتَين، فتمتد الوصلة المطاطية، ثم يترك نفسه، فإذا بالجزء المطاطي المتوتر يدفع البرغوث إلى كل الارتفاع الذي يصل إليه في قفزته، وما إن فرغ العالم من شرحه، حتى نطقت قائلًا: سبحان الخالق العظيم، فبمعرفة التفصيلات في الكائن الواحد، تُدرك مواضع الإعجاز.
فلو أردنا — حقًّا — ثورةً تعليمية، لم يكن لنا بدٌّ من البدء بالطفل وحواسه، لنفتح له نوافذ السمع والبصر، فيرى ويسمع، ويجمع ما استطاع جمْعه من معلومات عن «الأشياء»، وأن ندرِّبَه تدريبًا متواصلًا، في كل مناسبة، وفي كل درس أيًّا ما كان موضوعه، على أن يبحث لكل جملةٍ تقال أو يقولها، عن «الأشياء» التي جاءت تلك الجملة لتُشير إليها، لكي نحصنه منذ بداية الطريق من أن يألف القول الفارغ من أي معنًى، وهو لا يدري أنه فارغ، فإذا ما اجتزنا به مرحلة الطفولة، وسرنا معه إلى مرحلة تعليمية أعلى، بدأنا له شوطًا آخر من التدريب على «النظرة العلمية» التي نعمده لاكتسابها، وتلك هي أن نأخذ في توجيه انتباهه إلى اللغة وما فيها من فخاخٍ يقع فيها كلُّ إنسان إذا لم يكن على حذر؛ فأصحاب اللغة في استعمالها للتفاهم، سواء أكان ذلك بين أبناء الجيل الواحد المتعاصرين، أم كان بين الأجيال المتعاقبة، بأن يكتب جيلٌ سابق ليقرأه جيلٌ لاحق، أقول إن أصحاب اللغة مضطرون اضطرارًا، إلى التعميم اختصارًا للمفردات اللغوية التي يستخدمونها، فهم — مثلًا — يكتفون بقولهم «ناس» ليختصروا بها ملايين الأفراد الذين منهم يتكون النوع الإنساني، وهم يقولون «مصر» ليُشيروا بلفظة واحدة إلى تاريخ امتدَّ أكثر من ستة آلاف من السنين، بكل ما فيها من أناسٍ وأحداث، وهكذا، فواجب المتلقِّي — في الحالات التي تستوجب الدقة العلمية — أن يفكَّ هذا التلخيص، بالدرجة التي تتناسب مع أهمية الموقف القائم بين يديه، وهي عميلةٌ تحتاج إلى تدريبٍ طويل، ربما طال ما طال العمر، لكننا بعيدون جدًّا عن مثل هذا التدريب، حتى ليجيز الواحد منَّا لنفسه، أن يقذف بالكلمات قذفًا كما اتفق، في سياقات ربما كان لها من الخطورة ما تهتز له حياة أمةٍ بأسرها.
خذ أمثلةً لذلك: قسَّمنا شعبنا إلى خمس مجموعات، تنظيمًا لممارسة الحقوق السياسية ممارسة تكفل العدالة بنسبٍ صحيحة، فقلنا إن تلك المجموعات الخمس هي: العمال، والفلاحون، والجنود، والمثقفون، والرأسمالية الوطنية، وللوهلة الأولى حسبنا تقسيمًا واضح الحدود، أما حين جاءت الوهلة الثانية، وأعدْنا النظر، تبددت لنا الفواصل بين الفئات، وكأنها من شدة غموضها لا فواصل، فمَن هو العامل؟ ومَن هو الفلاح، ومَن هو المثقف؟ وما هي حدود الرأسمالية الوطنية؟ إننا إذا استثنينا فئة «الجنود» التي قد تكون على شيءٍ من التحديد، وجدنا صعوبةً في تحديد الفئات الأربع الأخرى، وحتى فئة «الجنود» على تحديدها، لا تخلو من التداخل في غيرها، فالجنود هم جنودٌ ومثقفون، فلا غرابة إن أخذنا نُعيد ونُصحح ما نعنيه «بالعامل» وما نعنيه «بالفلاح»؛ لأنهما فئتان لهما أهمية خاصة، ما دمنا قد جعلنا لهما الحق في نصف المقاعد على الأقل، في كل تجمُّعٍ نيابي، وتركنا الفئات الثلاث الأخرى تتخبط في غموضها.
خذ مثلًا من اللاعلمية في استخدام الألفاظ، حتى على المستويات الرسمية، فقد رفعنا شعارًا عن التعليم، كان في الأصل جملة أدبية الصياغة قالها طه حسين، والشعار هو أن التعليم حقٌّ للجميع كالماء والهواء، ومرة أخرى سحرتْنا الألفاظ دون النظر إلى تحديد معانيها، فوقعنا في محظورات كان يمكن أن ننجوَ منها لو تمهَّلنا وقيدنا أنفسنا بدرجة من «العلمية»، فما هي حدود «التعليم» الذي هو حقٌّ للجميع، هذا سؤالٌ واحد لو تأمَّلناه في أوانه لما فتحنا الأبواب على مصاريعها للقادرين وغير القادرين بحكم استعداداتهم الفطرية، وخذ مثلًا ثالثًا شعارًا وطنيًّا رفعناه ذات حين، وهو أن تكون السيادة في حياتنا «لأخلاق القرية»، فما هو تعريف «القرية»؟ وما هي «الأخلاق» التي تكون لأبناء القرية ولا تكون لأبناء المدينة؟ إنِّي بهذا التساؤل، لا أُقرر صوابًا وخطأ، بل الذي يعنيني هو أن أبيِّن إلى أي حدٍّ، وعلى أي مستوًى، نُلقي بألفاظ لا نتقيد بتحديد معانيها، برغم ما لها من عمق الأثر في حياتنا العامة، إن كاتب هذه السطور ليعترف أمام القارئ بأنه قد أخذتْه الدهشة من سذاجة فكرِه، حين اجتمع المفاوضون المصريون مع المفاوضين من إسرائيل، حين أرادوا بحث مشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة، فكانت الصدمة الأولى أن قال الإسرائيليون: إن المقصود بالضفة والقطاع، هو السكان وليس الأرض! فإلى هذا الحد يجب استعداد الإنسان بالتحليل والتحديد، كلما وجد المقام جديرًا بذلك.
من أجل هذا كلِّه وما هو أكثر منه، قلتُ للمسئول الكبير الذي قرر لي بأن الدولة مقبلة على ثورة تعليمية تبدأ من الجذور، قاصدًا «بالجذور» «المقررات الدراسية» إن الرأي عندي هو أن نبدأ مما يسبق الجذور، فنُعنَى بإعداد التربة وانتقاء البذور.