تلك أم المشكلات
مشكلاتنا كثيرةٌ، يعرفها عابرو السبيل كما يعرفها العلماء الباحثون، الحكام المسئولون، لا فرق في ذلك بين واحدٍ وآخر إلا في التفصيلات أو في القدرة على ردِّ الوقائع إلى أسبابها، فالجميع يعرفون مشكلاتنا، لأننا جميعًا نكابدها ونعانيها، أو — إن شئت دقةً في العبارة — قُل إن كلًّا منَّا يعرف من مشكلاتنا ذلك الجانب، أو الجوانب، التي تمسُّ حياته مسًّا مباشرًا، وقد يفوته من تلك المشكلات ما ليس يدخل في حياته العملية فيعانيه، واستوقفْ أول عابر سبيل يصادفك في الطريق العام، واطلب منه أن يذكر لك ما يعرفه عن مشكلات حياتنا الراهنة، فلن يعدم القدرة على جواب، إلَّا يكن جوابًا شاملًا للقائمة كلها، بتفصيلاتها، كما تفعل الأبحاث العلمية، أو التقارير الرسمية، فلا أقل من أن يذكر لك ثلاثًا منها أو أربعًا، وهو إذ يفعل ذلك، فهو لا يفعله على نحو ما نراه في تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في وقتنا الحاضر، حين يحفظون نقاط الموضوع المعين حفظًا أصم وأبكم ليُفرغوا ما قد حفظوه على ورقة الامتحان، دون أن تهتزَّ له في كيانهم الحي شعرةٌ واحدة، بل إن عابر السبيل يذكر لك مشكلات ينام مستغرقًا في همومها إذا أمسى عليه المساء، ويصحو غارقًا في همومها إذا أصبح عليه الصباح، فهي مشكلات تقع من حياته موقع النبضة الزائدة إذا نبض بها قلب المريض، أو موقع الوجع الذي يأتيه من أحشائه ولا يعلم من أي حشى معين من تلك الأحشاء قد جاء الألم.
الفرق بين عابر السبيل وبين غيره من العلماء المتخصصين، أو من الرؤساء الحاكمين، هو في «الأسماء» التي يُطلقها هؤلاء على أنواع المشكلات، ولا يعرفها هو، فهم يقولون — مثلًا — عن مشكلةٍ معينة أنها في «التضخم» أو في «أسعار الصرف» أو في «عجز في الموازنة»، أو ما شئت من أسماء، وأمَّا عابر السبيل فيقولها بلغة الحياة المتوجعة بآلامها؛ إذ يقول إنه لم يَعُد في مستطاعه الحصول على العدس والفول، وإن ابنه في حاجةٍ إلى درسٍ خصوصيٍّ في الرياضة وليس في يده ما يدفعه أجرًا للمدرس الخاص، لا، إنه لا يعرف النار حقَّ المعرفة إلا من اكتوى بلهيبها، ولا تصدِّق مَن زعم لك العلم بمشكلة هو منها على مبعدةٍ فلا يراها إلا مرقومةً على ورقٍ، وانظر إلى البلاغة القرآنية المعجزة حين فرَّقت بين حالتين في معرفة الإنسان لحقيقة «الجحيم»، الأولى هي أن يعلمها «علم اليقين»، والثانية هي أن يقذف به في سعيرها فيرى من عذابها ما هو «عين اليقين»، نعم، فالفرق بعيدٌ بعيد، بين من عرف الألم وهو منه بمنجاة، وإنما قرأ عنه ما كتبه الكاتبون، وبين مَن عرف الألم لأنه في كبده أو في عظمه أو عصبه، وكيف أنسى لحظة الحوار القصير الذي دار بيني وبين رجل يحمل قمامة العمارة التي أسكن فيها، فقد صادفني بلمحةٍ منه خلال زجاج النافذة المطلة على السلَّم الخلفي، حيث تكون أوعية القمامة، فنقرَ الزجاج بأصبعه وفتحتُ النافذة الصغيرة لأسأله: ماذا يريد؟ فسألني إن كنت أستطيع الأخذ بيده في مرضه ظانًّا أنني طبيب، فقلت له إنني «دكتور جامعة» ولست طبيبًا، ولكن ما علتك؟ فذكر لي جانبًا من مرضه، فأخذني فزع أن تكون تلك هي حالته، ومع ذلك فهو يحمل ذلك المقطف الكبير المليء بما هو مليءٌ به، لينزل به تلك الطوابق كلها على سلمٍ حلزوني ضيق، فقلت له: اذهب يا رجل إلى قصر العيني اليوم قبل الغد، فأجابني بأنه قد فعل، لكن المرض عاوده وليس في وسعه أن يضيع أيامًا بلا عملٍ، فأعدت له القول في انفعال مَن يعلم عن النار شكلها ولكنه لم يحترق بلهيبها: عُد إلى المستشفى لأن حالتك قد تسوء فلا يصلح لها علاج، فنظر إليَّ نظرةً معبرة، وتمتم وهو يستدير بالمقطف الكبير على ظهره قائلًا: ومن أين يأكل العيال؟
فمعرفة المشكلات من صنفين: معرفة لا تتضمن معاناتها، ومعرفة أخرى هي «عين اليقين» لأنها معرفة مَن يُعاني، وإذا قلت عن مشكلات حياتنا إنها كثيرة، وكلُّنا يعرفها أو يعرف شيئًا منها دون شيءٍ، فقد أردتُ كذلك أن أُبيِّن الفرق بين عارف وعارف، ومَن ذا لا يعلم أن في حياتنا مشكلات في الاقتصاد، ومشكلات في زيادة السكان زيادة كالانفجار ومشكلات في الإسكان، وأخرى في مساحة الأرض الصالحة للزراعة، ومشكلات في التعليم، ومشكلات ومشكلات؟ كلُّنا يعلم، وبعضنا يُعاني ما يعلمه، ولكننا جميعًا، إذ نبحث عن حلول تلك المشكلات مخلصين، كثيرًا ما ننوء تحت العبء الثقيل، فنعجز آسفين، وما أكثر ما وجد كاتبُ هذه السطور نفسَه عاجزًا آسفًا بين هؤلاء العاجزين الآسفين كلما همَّ بالنظر في مشكلة التعليم.
إنهم قليلون جدًّا، ربما لا يزيدون عن أصابع اليدين، أولئك الذين قضَوا في التعليم ما قضى هذا الكاتب من سنين، أوشكت في عددها على الستين، فلا غرابة في أن يعلم من أسرارها أكثر مما يعلم آخرون، وفي أن تشتدَّ به الرغبة آنًا بعد آنٍ في أن يتناول مشكلة التعليم بالنظر الفاحص: أين مواضع العلة؟ وماذا يكون العلاج؟ وها هو ذا يُشرك القرَّاء معه في خواطره، فالمشكلة هي — حقًّا — مشكلة الجميع، وأول خاطر في هذا السبيل هو أن «التعليم» ليس — فقط — مشكلة من المشكلات كما قد نظن عند الوهلة الأولى، بل هو أمُّ تلك المشكلات الأخرى جميعًا؛ لأنه في تخليص التعليم من أوجه نقصه، يكون علاج سائر المشكلات، ومن إصابةِ التعليم بما أُصيب به من نقص، ولدَتِ المشكلاتُ الأخرى: إن لم يكن كلها، فأكثرها بكل اليقين، وكيف؟
فلنتصور معًا أننا أمام طريق ذي طرفَين، في طرفٍ منهما أُقيم الجهاز التعليمي التربوي، بجميع أجزائه وطوابقه من الطفل في دار الحضانة، فصاعدًا إلى طالب الدراسة العليا، الذي يُعدُّ نفسَه لإجازة الدكتوراه في فرع من فروع العلم، وأما الطرف الثاني فقد امتدت فيه ميادين الحياة العملية بشتى صنوفها وأشكالها: فهنالك أرضٌ تُزرع وأرض تُستزرع، ومصانع تدور آلاتُها وتُنتج ما تنتجه ومصانع أريد لها أن تعمل لكن أصابها شللٌ، وهناك سياسة تتقسمها أحزابٌ من الداخل، ويُشدُّ لها حبل في الهواء لتمشيَ عليه متوازنة الخطَى، في تعاملها مع الخارج، وهناك مواصلات وبترول وكهرباء، واقتصاد يواجه شئون المال صادرًا وواردًا، وهناك تعليم، وإعلام، إلى آخر منوعات النشاط البشري إذا كان لها آخر، لكننا إذ ننظر إلى هذا الطرف من طرفَي الطريق نرى أمرين: أولهما أن تلك الميادين المدوية بهدير نشاطها تئنُّ وتشكو من عللٍ أصابتها، فأخذت تُنذر بالخطر، وأما الأمر الثاني فهو أن «التعليم» الذي يزاحم غيره في الأنين والشكوى كان هو نفسه الذي رأيناه قائمًا وحده هناك عند الطرف الأول من طرفَي الطريق، الذي افترضنا أننا قد وقفنا أمامه ننظر ونرى، وفي هذه الازدواجية في موقع «التعليم» يكون مربط الفرس، كما يقولون؛ وذلك أن الجهاز التعليمي وإن يكن أحد الجوانب التي فيها تتألف حياتنا العملية، بحسناتها وسيئاتها فهو أيضًا وفي الوقت نفسه هو الجهاز الذي نعلِّق عليه رجاءَنا في أن يكون وسيلة الإصلاح فهو مريضٌ بين المرضى، ولكنه دون سائر المرضى هو الطبيب المرتجَى.
فمعظم مشكلات الحياة العملية إن لم يكن جميعها، إذا أصابها قصورٌ، لم يكن أمامنا إلا الجهاز التعليمي، نلجأ إليه ونُعيد فيه النظر، نلتمس المواضع التي يجب أن تتغير، راجين أن يكون في هذا التغيير ما يسدُّ أوجه القصور التي أصابت جسم الحياة العملية؛ فجهاز التعليم (ومعه جهاز الإعلام) هو مشكلةٌ مع سائر المشكلات، ولكنه كذلك هو المشكلة الأم، التي تلد سائر المشكلات كما تلد الهرة هريراتها، فتعالوا — إذن — نتعقب معًا ذلك الطريق الواصل بين مشكلاتنا في الحياة الواقعية كما نعيشها ونكابدها، وبين جهاز «التعليم» لنرى ما الذي ينبغي له أن يتغير وبأسرع الخطَى من جهازنا التعليمي مما عساه أن ينعكس على جسم الحياة العملية، بما أصابه من عللٍ فتُسدُّ الثقوب ويعتدل المعوج ويقوَى الضعيف، ويبرأ العليل من أسباب علَّته.
ومشكلات حياتنا العملية — كما أسلفناه — معروفة لكل ذي بصر يرى وأُذُن تسمع، فاقتصادنا وإن يكن شهد له بسلامة هيكله، إلا أنه بغير شكٍّ يُصارع موجًا من فوقه موج من فوقه سحاب، ويكفينا دليلًا على خلل البناء الاقتصادي أن أصبح أصحاب الملايين يُعدون بعشرات الألوف (كما أقرأ وأسمع)، وإلى جانبهم مكافحون يأخذهم القلق كلما وضعوا مع قدوم الليل رءوسَهم على الوسائد خشية أن يجيءَ صباح ليس فيه إفطار، واختل الميزان حتى أصبحت الشغالة تتقاضى أجرها الشهري مساويًا لرواتب ثلاثة أطباء تخرجوا، وكان رجاؤهم هو أن يجدوا طريق الحياة ممدودًا أمامهم، وأصبحنا لا نقرأ صحيفة الصباح إلا وعلى صفحاتها شيءٌ من جرائم المخدرات وشيء من طغيان الإرهاب، وهنالك مشكلة التفجر السكاني الرهيب، وهجرة الأيدي العاملة وارتحال العقول القادرة إلخ إلخ، وإذا أمعنت النظر في كل هذه المشكلات، وجدتها منطوية على عاملَين ضفِّر أحدهما في الآخر: أحدهما هو الجانب المهني أو الحِرفي، والثاني هو «الإنسان» نفسه من حيث هو إنسان، وفي كل عامل من هذين العاملَين أوجه قصوره؛ فقد يكون الطبيب — مثلًا — قليل الخبرة أو منقوص الأجهزة الحديثة، لكنه كذلك قد يكون في جانبه الإنساني البحت على غير ما يرجوه منه مواطنوه.
وأمام هذا التركيب الثنائي لكل مشكلةٍ على حدة، وأعني الجانب العملي منها والجانب الإنساني المتمثل في شخص القائم بالعمل، أقول إننا إذا قفلنا معًا راجعين من مشكلات حياتنا إلى جهاز التعليم لنُصلحه، رجاء أن ينصلح بإصلاحه ما قد فسد من جوانب حياتنا، وجدنا أكثرنا يتجه مباشرة إلى «مقررات» التعليم، ظانًّا أنها هي موطن الداء، وأما «الإنسان» من حيث هو إنسان، فقلما نلتفت إليه ونحن في سبيلنا إلى إصلاح التعليم, وربما كان ذلك لأن معالجة القصور في تكوين الإنسان أصعب جدًّا على المصلح، من أن يغيِّر جزءًا من مقرر التاريخ، ويحذف جزءًا من مقرر الكيمياء، وهو كذلك أصعب جدًّا من إعادة توزيع السنوات الدراسية، فنجعل هذه المرحلة المعينة سنة واحدة بدل سنتين، وندمج تلك المرحلة في سابقتها، ليكون هناك مرحلة واحدة بعد مرحلتين وهكذا.
وأودُّ أن أؤكد أمرًا خاصًّا بالجانب المهني والحِرفي في القائمين على شئون حياتنا العملية، قبل أن تطغى سيئاتنا على حسناتنا فتمحوها، فأقول: إنه برغم ما قد يكون في قدرات العاملين من قصورٍ، فهؤلاء العاملون هم هم أولئك الذين أقاموا لنا كل هذا العمران الذي ننعم به، وينعم به معنا كلُّ ركن من أركان الوطن العربي، فحيثما وجَّهت النظر وجدت أطباءَنا ومهندسينا ورجال القانون، والمدرسين، وحينما وجهت النظر وجدت على أيدي هؤلاء الذين أخرجتْهم جامعاتُنا ومعاهدنا تنشأ صناعةٌ وتزدهر زراعة، ويبرع فكر وفنٌّ وأدب، وإنك لتستطيع القول بأن مَن يشكو هذا النقص أو ذاك في حياتنا العملية، فلقد تعلَّم كيف يحسُّ النقص فيشكو، وهي مرحلةٌ يرتقي بها الإنسان بعد مرحلةٍ تسبقها، تنعدم في المواطن العادي خلالها القدرة على الشعور بأن شيئًا ما ينقصه، ويستحق أن يكون موضعًا للشكوى، بل للثورة عليه إذا لم تُفلح الشكوى.
وبعد هذا التأكيد على قدرات مَن أخرجهم الجهاز التعليمي خلال قرنٍ كامل أو ما يزيد، نعود لنسير معًا من مشكلاتنا الحية، متجهين إلى أجهزة التعليم لنرى أين يجب فيها الإصلاح وكيف؟ وهنا أقول: إذا أرجأنا الحديث مؤقتًا عن الجانب «الإنساني» وتقويمه، وهو الجانب الذي أزعم أنه المسئول الأول عمَّا نحن فيه، على نحو ما سأبيِّن بعد حين أقول: إذا أرجأنا هذا الجانب الإنساني مؤقتًا لنحصر انتباهنا في الجوانب «العملية» — مهنية، وحِرفية، وإبداعية — وجدنا أن علة العلل ليس مكمنها أن تُضاف مادة دراسية معينة أو تُحذف، وإنما مكمنها الذي يتستر في خفاء حتى لا تراه أعين المصلحين، هو أننا منذ نهضنا بالتعليم في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، قد عمدنا إلى سلخ المادة العلمية من منهاجها العقلي، فيتخرج المتخرج من جامعته أو من معهده، وهو على دراية لا بأس فيها بمادته العلمية التي ستكون مجالًا لعمله، ولكنه يكون على قليل جدًّا من «النظرة العلمية»، إذا هو فارق مجالَ عمله الذي تخصص فيه: ومن هنا جاز أن نجد ألوفًا وعشرات الألوف ومئاتها من المتعلمين، مهروا في ميادين تخصصاتهم، حتى إذا ما خرجوا عن حدود تلك الميادين ليعيشوا مواطنين كسائر المواطنين، لم تجد فيهم من منهج الرؤية العقلية، ما يحميه من قول «الخرافة» في شتى صُوَرها؛ فليس في تكوينهم العقلي ما يمنعهم من ردِّ الظواهر إلى غير أسبابها، كما هي الحال مع أي مواطنٍ آخر، لم يكن له حظُّ التعليم بأية درجةٍ من درجاته، ولقد كانت هذه الكارثة لتهون، لو أنها اقتصرت على تفكير «خرافي» في حياة الإنسان الخاصة، لكن الكارثة تمتدُّ لتشمل ميادين التخصص العلمي والمهني ذاتها؛ وذلك بأن يقف المتعلم في حدود المادة العلمية التي «حفظها» أيام الدراسة (وأشدِّد على كلمة «حفظها»)، حتى لو فتح الله على أحدٍ منهم فتابع الدرس، وتابع القراءة والتحصيل، فيما يُستحدث من علوم وتقنيات خاصة بميدان تخصصه، فهو ما يزال «يحفظ» ما كتبه سواه على إثر كشفٍ علميٍّ جديد تحقَّق على يديه، فموضع الداء في جهازنا التعليمي، الذي يترتب عليه كثير جدًّا مما نعانيه من قصور وعجز وضعف، هو انعدام القدرة الابتكارية، أو ما يقرب من الانعدام، كلٌّ فيما هو مختص فيه.
ولست أشك لحظةً واحدة في أن أقوى العوامل التي انتهت بنا إلى هذا الموقف «العلمي اللاعلمي» وكل ما يترتب عليه من نتائج، هو ذلك الانسلاخ العجيب بين المادة العلمية المدروسة ومناهجها المتجسد فيها، وهي حقيقة لم أملَّ من ذكرها مرةً بعد مرة؛ لأنني أجد فيها أُسَّ البلاء، ولشرح ذلك أقول: إنه ما من كتابٍ علمي، أو بحث علمي، يعرض حقائق علمية معينة، في مجالٍ من مجالات العلوم — إلا وهو يسير في انتقاله من خطوةٍ إلى الخطوة التي تليها، على منطق استدلالي محكم، هو الذي يجعل المادة المعروضة «علمًا»، ولو غابت تلك الروابط الاستدلالية من المادة المعروضة، لأصبحت «دردشة» حتى ولو دارت تلك الدردشة حول حقائق علمية، فيخرج منها الدارس بنقاط الموضوع الذي يدرسه، لكنه يفقد «المنهج» الاستدلالي، الذي هو قلب التفكير العلمي وصميمه، والذي يحدث في جهازنا التعليمي من أدناه إلى أعلاه، من تلميذ المدرسة الابتدائية إلى طالب الجامعة، هو التحول في عملية التحصيل الدراسي من الكتاب المرتب ترتيبًا علميًّا إلى كتُبٍ أو مذكرات أو ملخصات، يكون التركيز فيها على «نقط» الموضوع المدروس، فيحفظها الدارس، ويسهل عليه بعد ذلك تذكُّرُها ليضعها على ورقة الامتحان، وتجيء عملية «التصحيح» فلا تبالي أن يكون المعروض بين يديها مادةً مفككة الأجزاء مسلوبة المنهج، فيتخرج المتخرج مع مراتب الامتياز والشرف، وليس في حقيبته إلا «كومة» من «نقط» يمكن الاستعانة بها في مجالات التطبيق مع بقاء «العقل» كما كان قبل الدراسة، مفقود المنهج، فلا يكون فرق — خارج مجال التخصص التطبيقي — بين حامل الدكتوراه والأمِّي في براءته، فكلاهما عجينةٌ سهلة التشكيل في أي يدٍ قوية، قادرةٍ على تشكيل الأنظار والرُّؤَى وطرائق السلوك.
والوسائل المؤدية بنا إلى تغيير هذا الموقف التعليمي الأعرج في متناول أيدينا، إذا حسنت النوايا وقويت إرادة الإصلاح، وأولها وأهونها وأعمقها أثرًا، هو أن يشترط على الدارس، أيًّا ما كانت درجة التعليم التي يدرس فيها، من المدرسة الابتدائية وصعودًا إلى الجامعة، أن يكون الكتاب العلمي في المادة المعينة هو أداة الدراسة، وأن يمنع منعًا باتًّا لجوء الدراسة إلى الصور الأخرى الشائهة من كتُبٍ تعرض «النقط» الأساسية، إلى مذكراتٍ وملخصاتٍ يقدِّمها الأساتذة إلى تلاميذهم وطلابهم، وكلُّ ذلك يتحقق لنا إذا نحن تدبَّرنا طرقًا للامتحانات، تضطر الدارس اضطرارًا إلى مواجهة المادة العلمية في كتابها العلمي.
وفوق هذا الأساس الأوَّلي المبدئي، تُقام دعامتان، ليس لنا عنهما غنًى، إذا أردنا أمةً قوية الأصلاب متحدة الأهداف، بحيث إذا اختلفت تيارات الفكر فيها، كان الاختلاف مقصورًا على «الوسائل» التي تؤدي إلى بلوغ تلك الأهداف، وأولى الدعامتَين هي أن يشترك أبناء الشعب وبناته جميعًا في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، ولنقل — مثلًا — إنها الستة الأعوام الأولى، لا يتشعَّب فيها التعليم إلى معاهد دينية من جهة ومدارس عامة من جهة أخرى ومدارس أجنبية من جهةٍ ثالثة؛ لأن مثل هذا الانقسام — وهو أمرٌ قائم في التعليم الآن — يستحيل ألا يُنتجَ لنا عدة وجهات للنظر وهي نتيجةٌ نحسُّها في حياتنا الراهنة بقوة، ونحسُّ آثارَها في تفتيت وجهة النظر القومية إلى حدٍّ خطير، ولستُ بهذا القول أُريد أن أقرر كيف يكون طريقنا إلى دمج الفرعَين في تيارٍ واحد، فتلك مسألة تقع على عاتق علماء التربية، والمهم هو أن يسير النشْءُ جميعًا في مرحلة موحدة أول الأمر، لتكون هي بمثابة الجذور المشتركة بين أبناء الأمة جميعًا، حتى إذا ما جاء أوان التفريع، عند المرحلة الثانوية — مثلًا — انقسمت الفروع بحسب المستقبل المنظور، فللدراسة الدينية فرع يصبُّ في الأزهر، وللزراعة، والصناعة، والمحاسبة، فروع، وللدراسة النظرية، بجانبَيها — العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضية — فروع.
وأما الدعامة الثانية فهي استخراج أصحاب «المواهب» بشتى اتجاهاتها، لتجعل منهم الأساس القوي المكين الذي تُبنَى عليه الآمال في مستقبل حياتنا، ويتم فرز «المواهب» في كل مرحلة من مراحل التعليم، عند الانتقال من المرحلة الدراسية المشتركة إلى مرحلة التفريع ثم عند الانتقال من الفروع في مدارسها الثانوية إلى مرحلة الجامعات أو المعاهد العليا، ثم أخيرًا عند الانتقال من الدراسة الجامعية الأولى إلى مرحلة الدراسات العليا، نعم إن التعليم حقٌّ للجميع، كلٌّ بحسب قدراته وميوله، ولن يُحرم مواطن واحد من هذا الحق، إلا أن أصحاب المواهب هم في البناء القومي رواده، وعليهم أكثر من سواهم، ينعقد الرجاء في مستقبل أفضل.
ويلحق بهذه النقطة الأخيرة أن يتوافر في جهازنا التعليمي، متخصصون في علم النفس من ناحية «الإرشاد»، المبني على دراسة الأفراد لاستخراج ما قد كمن فيه من قدرات وميول، لكي يتجه كلُّ ذي موهبةٍ في الاتجاه الذي تنمو فيه تلك الموهبة، فأبناء الأمة وبناتها هم أغلى ما فيها، هم أمل المستقبل كله، وأصحاب المواهب الخاصة منهم، هم بمثابة الدُّرِّ في أصدافه.
إلى هنا وقد قصرنا الحديث على الجوانب «العملية» من حياتنا كما تجري بها الأيام، ورأينا كيف يمكن للجهاز التعليمي أن يُخرج لتلك الحياة اليومية الجارية، مواطنين يحملون عبأها، على أحسن صورةٍ ممكنة، فوجهة النظر موحدةٌ في أبناء الأمة جميعًا، بفضل الفترة الأولى المشتركة بين الجميع، وأصحاب المواهب هم — في آخر المطاف — حملة المشاعل الذين يشقُّون الطريق بمواهبهم، وبين هؤلاء وأولئك متخرجون تعلَّموا ما يمكنهم من أداء الأعمال المختلفة، مع الحرص على أن ترهف فيهم النظرة العلمية العامة، كلما كان الموقف بحاجة إلى فهمٍ صحيح لعناصر الواقع، وإلى سلوك يقام على ذلك الفهم، وفي هذا الجانب من موضوعنا، ينصبُّ الإصلاح على «المقررات» وطريقة تدريسها، والمراحل التي يجتازها الدارس.
وبقيَ أمامنا ما هو أشد عسرًا، فأكثر مشكلاتنا استشكالًا، ليست هي العمل المعين ومَن يؤديه وكيف يؤديه، فذلك كلُّه — كما أسلفنا — توافر في حياتنا بدرجات يغبطنا عليها مَن هم في مثل موقفنا، ويكفينا أن نعلم عن حق، بأننا نُعير لسوانا أصحابَ المهن والحِرَف من أبنائنا، ولا نكاد نستعير من سوانا أحدًا ليؤديَ لنا عملًا عجزنا عن أدائه، إلا في الحالات النادرة.
وأما علة العلل في حياتنا، فهي «الإنسان» الذي يضطلع بما يضطلع به من مهنة أو حرفة، فلقد طرأت على «الإنسان» المصري — والعربي بصفة عامة — صفةٌ لم تكن قط من صفاته البارزة في أي عصرٍ من عصور تاريخه، وأُلخِّصها بقولي إن الفرد منَّا قد فقدَ إحساسَه بوجود «الآخرين»، وكأنه خُلق وحده على هذا الكوكب الأرضي، وأما كلُّ مَن عداه وما عداه، فأدواتٌ مسخرةٌ لخدمته، ثم يتفاوت الأفراد في إطار هذه النزعة نحو تجاهل «الآخرين»، بتفاوت قدراتهم على التسلط، إنه إذا كان «المصري» هو ما نتحدث عنه، فالمصري قد رسخت فيه روحُ «الأسرة» منذ فجر التاريخ، وإذا كان «العربي» بصفة عامة هو موضوع حديثنا، فلقد رسخت روح «القبيلة» فيه «بحكم البيئة الطبيعية ذاتها التي يسكنها»، والتي تُحتِّم على أفراد القبيلة أن يتجمَّعوا في حِلِّهم وفي ترحالهم، فكيف — إذن — هبطت على المصري أو العربي في عصرنا هذا صفة التشرنق في قَوْقعتِه، ألَّا يشاركَه فيها إلا أقربُ الأقربين، فتغمض الأعين وتصم الآذان داخل القوقعة، حتى كان حدودها هي حدود العالم؟ ومن هذه الصفة المحورية الطارئة علينا، انبثقت صفاتٌ لم يَعُد بيننا واحدٌ يُنكر قيامه أو يشك في وجودها، فما أوسع ما شاع بيننا أن آفتنا الراهنة هي «التسيب»، بمعنى انعدام الضوابط التي توقف حريات الأفراد عند الحدود التي تبدأ منها حريات الآخرين، فالتسبب جعل كلَّ فرد منا وكأنه النهر في سطوة الفيضان، بغير جسورٍ تحدُّ من طوفانه، وكذلك ما أوسع ما شاع فينا أن أميز ما يميز هذا الجيل عن الأجيال التي سبقته «اللامبالاة»، وهي مصطلح يعني ما أسلفنا ذكره حين قلنا إن الفرد لم يَعُد يحسُّ وجود الآخر أو الآخرين، إنه لا يبالي ماذا عسى أن يُصيب الآخرين من أذًى، ما دام هو قد ظفر بما أراد، وللَّامبالاة ظلٌّ آخر من ظلال المعنى، وهو أنه لم يَعُد فرقٌ بين حقٍّ وباطل؛ فالفرد حين يختار ما يختاره، يكاد يوقف نفسه في نقطة وسطى متساوية البُعد عن طرفَي الفضيلة والرذيلة، بمعنى أنه لا يعنيه أن يتجه بسلوكه نحو هذه أو تلك، فلا غبار على الطبيب — مثلًا — من حيث هو طبيب، ومَن قد سافر منَّا ليعالَج على أيدي أطباء في الخارج، كثيرًا ما سأل نفسه: فيمَ الاغتراب وطبيبُنا إن لم يكن أفضل من طبيبهم فهو يساويه؟ لكن الفرق الكبير يكمن فيما يُضمره الطبيب نحو مريضه؛ إذ هو يُضمر في نفسه أشياء الله أعلم بها، تدور كلها حول البحث عما ينفعه هو قبل البحث عما ينفع مريضه، وأستغفرُ الله فما قصدت بهذا المثل أطباءَنا على وجه التحديد، بل أردت أيَّ مثلٍ يوضح ما أزعم أنه الآن هو المسلك العام بين «الأنا» و«الآخر»، مما حطَّم فينا روح الجماعة، وهدم فينا روح الثقة في النفس والثقة في الآخرين، وهي كلها عوامل أكلت «الانتماء» أكلًا، حتى جعلته كعصفٍ مأكول.
تلك هي علة العلل، وإصلاحها في مستطاع الجهاز التعليمي، لا على صورته القائمة، التي هي في حدِّ ذاتها مشكلة كسائر المشكلات أو أشد فسادًا، بل الجهاز التعليمي كما ينبغي أن يكون، ووجه الإصلاح في هذه الحالة لا هو في «المقررات» والحذف منها أو الإضافة إليها، ولا هو في دمج المراحل التعليمية أو تفرُّقها، ولا هو في مجانية التعليم ولا في أن يكون التعليم حقًّا للجميع كالماء والهواء، إنما وجه الإصلاح مرهون بروح الانضباط الصارم في المدارس والجامعات، فيكون العمل الجاد عشرة أشهر في السنة، وليس أربعة كما هو الآن، وتكون الدراسة معظم ساعات النهار، ولا تكون في حالةٍ من الفوضى التي تسمح لأي طالب أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، وما يصدق على الطالب يجب أن يصدق بصورة أقوى على الأستاذ أو المدرس، فأنا أعلم عن التحلل من جميع الضوابط بين هؤلاء، ما لو ذكرتُ بعضَه لأثار الهلع عند مَن لا يعرفون، الانضباط الصارم كفيلٌ وحده أن يُخرج لنا شبابًا قادرًا على التفرقة في الحياة العملية، بين الجائز، والواجب، والممتنع، فيستقيم المعوج، ويصلح الفاسد بإذن الله.